الحكومات بعد اغتيال سعاده هي حكومات غير شرعيّة
الياس عشّي
كثيراً ما أشعر، وأنا أضع عناوين لمقالاتي، أنه قد حان لي أن أكسر ريشتي، وأن أتوقف عن الكتابة، وأن أدير ظهري لكلّ ما يجري من حولي، وأن أكتفي بالعودة إلى عمالقة تركوا بصماتهم على عقلي وقلبي معاً.
هذا الشعور ينمو يوماً فآخر، وسببه أنّ القارئ العربي مكتف بقناعاته، وهو ليس على استعداد لأن يغيّر حرفاً واحداً من أبجدياته الدينية والمذهبية والعرقية، بل ما زال، حتى اليوم، يدافع عن جرائم الشرف، ويعارض المساواة بين الرجل والمرأة، ويرفض حرية المعتقد. وما رأيناه في الحرب المتوحشة على سورية والعراق يؤكد ذلك كلّه. بل إن ما حصل يؤكد أنّنا لم نتعلم الكثير من عمالقة مروا في حياة أمتنا وتركوا ما يذكرنا بقاماتهم المديدة.
تعالوا نتوقف قليلاً مع المتنبي «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، المتنبي الذي «ما اجتمع اثنان إلاّ وكان ثالثهما»، المتنبي المصاب بجنون العظمة، المتنبي الذي طلب منه سيف الدولة الحمداني مرافقته إلى حلب، فاشترط عليه «ألاّ ينشده الشعر إلاّ وهو جالس، وألاّ يقبّل الأرض بين يديه»، ونزل سيف الدولة عند هذين الشرطين. اليوم نشعر بالحنين إلى كتّاب، وشعراء، وإعلاميين، قادرين، مثلما فعل المتنبي، على وضع شروط لآلهة المال الذين يشترون الضمائر بالأسلوب نفسه الذي يشترى فيه لاعبو كرة القدم في العالم.
الجاحظ انتمى إلى المعتزلة وآمن بالعقل ودعا إلى الحوار جهاراً عندما قال «مذاكرة الرجال تلقّح الألباب»، وظلّ يغني في غير سربه إلى أن مات متجاوزاً التسعين. وخلال حياته المديدة لم يحنِ رأسه لأحد، ولم يقبل وظيفة في بلاط مثلما قال: «أريد أن أكون آمراً لا مأموراً». ألا يصفعنا الجاحظ الذي قال قبل ألف عام: «لا تذهب إلى ما تريك العين، بل اذهب إلى ما يريك العقل»؟
دعوني أختم هذا الحوار الصباحي في أوّل مقال أكتبه في هذا العام الجديد، بالحديت عن أنطون سعاده كنموذج معاصر للرجال العمالقة. والحقيقة التي لا بدّ من أن تقال هي أنّ سعاده المفكّر، والعالم الاجتماعي، وصاحب الرؤية لدولة عصرية، وصاحب النظرية القومية الفريدة، قتل بأسلوب بدائي يجعل سائر الحكومات التي جاءت بعد اغتياله حكومات غير شرعية، إلى أن يأتي من يعيد ملف سعاده إلى المحكمة، ومحاكمته، ومحاكمة محاكميه، من جديد. رجل مثل أنطون سعاده يقول: «أنا أموت، وأما حزبي فباق»، رجل كهذا هو فينا، وسيبقى في عيوننا، وإن لم نكتب عنه فعمّن نكتب؟