كوفيد – 19 أعطى للسيادة أولويّتها
} سماهر الخطيب
تضاربت ردّات الفعل العالمية في استجابتها للجائحة «كوفيد – 19»؛ كما كان لتلك الجائحة تأثير متضارب على تطور العالم، حيث صاحب حضورها على الساحة العالمية تفاقم التنافس بين القوى العظمى، وزيادة التنافس من أجل القيادة وهو ما يندرج في خانة إيجابية إذا ما اعتبرنا أنّ زيادة التنافس يجعل من المسؤولية صفة مشتركة ضدّ التحديات العالمية، وبالتالي ستؤثر على الوضع الدولي على المدى الطويل إن لم يكن على المدى المنظور.
فيما يبقى الجوهر العميق لسياسات العالم الحديث هو التكاتف أو التنافس لتشكيل نظام عالمي جديد بدلاً من السابق الذي تضعضع في أوّل أزمة يواجهها فنراه ينهار سريعاً أو يوحي بالانهيار السريع، إنما اليقين أنه غير قادر على مجاراة التغييرات المتسارعة وغير قادر على تلبية الأطماع المتضاربة.
ولا نقصد هنا فقط نظام «الأحادية القطبية» ونهايته الحتمية، إنما هيمنة خمسمئة عام، كان فيها نظاماً قائماً على التفوق العسكري في القرنين السادس عشر والسابع عشر ومن ثم بات يعتمد على التفوق العرقي والإيديولوجي مترافقاً مع تفوق عسكري وبحث عن مستعمرات يستعرض فيها تلك الآلة العسكرية إلى يومنا هذا..
إنما الخطورة اليوم تتبلور في صرف انتباه المجتمع الدولي عن حل مشاكل أكثر جوهرية، ووضع جلّ تركيز العالم على التغلب على هذه الجائحة. فمن الأمور التي ربما يصرف النظر عنها اليوم لا تقل أهمية عن مواجهة الجائحة كتطوير وتنفيذ قاعدة إيديولوجية جديدة وجدول أعمال مستقبلي للسياسات الخارجية.
وفي العودة إلى سنوات مضت في نظرة سريعة نرى أن الوضع العالمي اقترب من شفير الهاوية في حالة مشابهة للتي كانت عليها الأوضاع ما قبل الحرب العالمية الثانية، فكادت تقترب الأمور إلى خطر نشوب حرب عالمية غير مقصودة بسبب تصاعد الأزمات المضاعفة.
فيما نشهد اليوم إعادة توزيع للقوى بوتيرة متسارعة وسط تدهور النخب في العديد من البلدان، مع ما رافقه من يأس معظم الدول وشعوبها بسبب عدم القدرة على التعامل مع المشاكل الصحية، خاصة في ظل ما يدفعه معظم سكان الدول من أموال للضمان الصحي ليتجلى فشل الدول بشكل واضح في ما يتعلق بوباء فيروس التاجية.
أضف إلى ذلك ظهور جيل جديد من الأسلحة المزعزعة للاستقرار، وانتشار المواجهة العسكرية في بيئات جديدة كعسكرة الفضاء والفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي، وإعاقة الأنظمة السابقة للحدّ من الأسلحة الاستراتيجية من جهة وتسويق أسلحة جديدة يعود ريعها للمجمّعات الصناعية العسكرية من جهة أخرى.
وصولاً إلى تكثيف التنافس الأميركي مع الصين وروسيا مع تراجع مرونة المجتمع الدولي تجاه التهديد بالحرب، والوصول به إلى محو الخط الفاصل بين حالة الحرب والسلام.
وبالرغم من نظرة العالم إلى الجائحة «كوفيد – 19» على أنه خطراً عالمياً إنما لا تبدو كارثية بالمعايير التاريخية، إذ ليس من المرجّح أن تثار أزمة اقتصادية عالمية عميقة، على غرار أزمة عام 1929، التي أصبحت أحد أسباب الحرب العالمية الثانية، إنما مع ظهور «كوفيد – 19» وعدم مواجهته بصورة متساوية من معظم الدول وإلقاء الاتهامات على الصين من قبل أميركا وبريطانيا يعني أنّ العديد من المشاكل والتناقضات الدولية سوف تتصاعد.
ولكن هذه المشاكل الدولية والتناقضات في الاستجابة لهذا الوباء لن يتم حلّها على المدى المنظور بل ستتحرّك ككرة ثلج ضخمة من المشاكل والاختلالات المتفاقمة الاقتصادية والمالية، والمرتبطة بما سبقها من تزايد عدم المساواة، والتلوث البيئي، والمناخ، والهجرة، داخل أوروبا وداخل المحيط الأطلسي.
لقد أدرك معظم الخبراء والمنظرين الدوليين بأنّ الوباء نظيراً لـ»الحرب الصغيرة» الآمنة نسبياً، والتي «ستشطب كل شيء»، وربما ستساعد على التخلص من غبار الحرب العالمية الوشيكة.
وبالتالي فإن سياسة المواجهة الأميركية تجاه الصين وروسيا، والتي تحاول واشنطن يائسة من خلالها استعادة أولوية العالم، ستشهد تصلباً اليوم في مواجهة هذا الوباء وفي إيجاد سياسات ترضي الداخل الأميركي الذي استشاط غيظاً وغضباً من سياسات وتصريحات مديره الفاقدة للمسؤولية..
في الوقت نفسه، لا يمكن أن تؤدي الهزّة التي يمرّ بها الجنس البشري عموماً إلا إلى مراجعة العديد من النماذج المألوفة للعلاقات، وإعادة تقييم القيم. وبالتالي ستزداد أهمية القضايا البيئية والمناخ والوقاية من الكوارث الطبيعية والأوبئة. فقد أصبح الوباء حافزاً قوياً لإعادة تأميم الاقتصاد والسياسة العالميين.
ليتضح وسط هذه «المعمعة» والضجّة في الاستجابة أنّ لا أحد قادر على تزويد الناس بالسلع العامة باستثناء الدول ذات السيادة. ليتضح جليّاً أنّ مكافحة الوباء تتم على المستوى الوطني بعد أن فشلت المؤسسات الدولية في مكافحته بصورة تعاضدية.
إن الاستجابة التي قدّمتها الدول ذات السيادة لشعوبها شكلت مطلباً أكثر وضوحاً للسيادة ورفض الهيمنة الخارجية والرغبة في حرية اختيار المسار السياسي والثقافي ونموذج التنمية وتوجه السياسة الخارجية.
وأخيراً، أكد «كوفيد – 19» على الحاجة إلى إيجاد فلسفة إنمائية جديدة تركز في مضمونها على تنمية الإنسان والحفاظ على جنسه، وحماية الطبيعة والحفاظ على مواردها الأيكولوجية، بدلاً من الاستهلاك غير المنضبط والمستهتر وغير المسؤول.