من باريس إلى جوبر فلسفة ومفارقة وعقيدة وحقيقة
ثائر ابراهيم
فلسفة
فإنْ أخبروكم بأنّ ما وراء الطبيعة المادية طبيعة بشرية فصدّقوهم من دون إغفال ما وراء الطبيعة البشرية من طبيعة عاقلة صانعة كلية، فما هو منافٍ للمنطق يثبته منطق الأحداث ذاتها ومعقولية الابتكار تلزم التسليم بحقيقة طبيعة الابتكار، ونفي القدرة عن القدير تحيل حكماً إلى الإقرار بقدير مدرك بالكلية لما كان ولما سيكون وتلزم التصديق أنّ الابتكار يكمن في تحطيم لا معقوليات ضيقة بمعقوليات أوسع.
فالمنطق الذي تقتضي أدق تفاصيله أن يكون القائد حاضراً على رأس جيشه في كلّ معركة، هو ذاته الذي يلزم رجلاً تستهدفه كلّ قوى الظلام وتطمع في النيل منه بأن يحتاط على سلامته ويمتنع عن أن يكون بين رجاله في قلب المعركة على خط النار.
كلام مربك يُذْهبُ لحظة الانتشاء التي أحسّها أشراف العرين الصامدة لمّا شاهدوا قائدهم المقاوم.
فنقطة الضياع التي أُصيبَ عندها متلقّي الصورة بالشلل الفكري المصحوب بإحساس النشوة المحرمة في عرف الخانعين الجبناء جعلت من المكان فالقاً طبيعياً بين زمنين.
في جوبر كان هو الرمزية والمنهجية والصورة التي عجز المفسّرون عن تحقيقها، وكانت رجالَه الملائكةُ حامية القرار وصانعة الانتصار.
لو صدق المنجمون لأخبرونا وحيهم الفريد عن زيارة العظيم إلى مرابض العظماء ولما كُذِّبوا بعدها، لكنها إرادة صانع الحياة بأن يكذبوا وتكذب معهم ترهات الطبيعيين والمنطقيين أيضاً، فصناع التاريخ لا ينسجون صناعتهم بأنوال غيرهم، وقواعد المنطقية لا تحويها غير الصدور المتحرّرة من أوهام العين العليلة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وهو معينه على تحقيق إثبات قواعد الماورائيات المنافية لكلّ قوانين التفسير المنطقية وإحالتها واقعاً منطقياً.
ليس اتحاد البداية والنهاية صورة لاختلاط الحابل بالنابل، بل هو إثبات للمنفي ونفي للمثبت، فاستحالة الصمود منطقياً في ظل واقع كلّ ما فيه ينبئ بالهزيمة ناقضتها مطامح النصر الغيبي الكائن في مخيلة المؤمنين به، واللامنطقية في عرف الطبيعيين الناظرين إلى كثرة الأعداء بات منطقاً ومنطقياً بفعل الجنود المقاتلة التي لا سبيل في تفسير ماهيتها غير الاقتناع بأنها ملائكة الديَّان مبدلُ المنطقيات واللامنطقيات بقدرته الخفية.
هي المعادلة المستحيلة التي لم يحققها إلا الجيش العقائدي الصامد، الصامدة معه كلّ العقائد المؤمنة بالقدير، والمنتصرُ والمنتصرة به جميع تصورات المؤمنين عن عدالة القضية وحتمية الانتصار، لِيُثبّت أنّ من قاتل لأجل عقيدة يدعمها يقين بالنصر لا بدّ سينتصر.
إنه الحلم الذي إنْ اكتملت إرادة إنجازه في عقول أصحاب الإرادة تحوّل بلا ريب من مستحيل إلى منطق ومن غيب إلى معلوم.
مفارقة
لم تكن جوبر اليوم أبعد من باريس الأمس يوم انعقاد مؤتمر دول البحر الأبيض المتوسط في تموز من العام 2007، فالجنود مصطفة متحفزة، والعيون ترقب التحركات وتراقب الحركات، وأسد العرين الحاضر بالأمس ذاته الحاضر اليوم، وذات الجموع الحاقدة الموهومة تتابع من ذات الكِوى المتخفية إمكانية السقوط.
لا ملامة في التصوّر، فالمسافة الفاصلة بين القائد العربي الأصيل وبين رأس الكيان الصهيوني الغاصب في باريس هي المسافة الفاصلة ذاتها بينه وبين أعداء الإنسانية في جوبر.
مسافتان متطابقتان في البعد والمعنى والمغزى، ومن لم يصافح بالأمس لم ولن يفعلها اليوم طالما أنّ المصافحة ستكون على حساب خيارات شعب محميّ السيادة بأسود الله المقدسة رجال الجيش العربي السوري.
النصر خيارٌ أولٌ، يتلوه خيارٌ ثانٍ عنوانه الانتصار، فالنصر هو كلّ الخيارات، وكل الاختيارات المطروحة عند كلّ محفلٍ مرتبٍ لانتزاع الاستسلام.
المشهد مثير للمشاعر مقلق، ونشوة العارف بالأسرار وقت تخبّط الناس في الجهالة لا يحسّ بها إلا من اطمئن قلبه للانتصار.
والتناقض العجيب لإمكانية وجود النور والظلمة في المكان والزمان ذاتيهما، تصحّحه المعرفة بظروف المعركة في المكان والزمان.
في مؤتمر البحر المتوسط كان هناك شاب طويل القامة، رفيع الهامة، متسامٍ كشجرةٍ مباركة، يحمل في عينيه نوراً توارثته الثقاة المؤمنة وفي قلبه قوة الله الخالق.
وفي جوبر كان الشاب المقاوم ذاته بكلّ تفاصيله التي لم تبدّلها النائبات ولا أضعفتها التحديات.
في باريس مشهد لا يضاهي غرابته إلا اجتماع عصبة أطلقت على نفسها لقب رؤساء الدول العربية أنصاف الرجال وأشباهها ممن قدموا أجساد أطفالهم ونسائهم في كلّ معارك الشرف ليتناولها الغاشم على موائده نفطاً طرياً، إمعات لا قرار لها إلا ما يقرّه سيّدها تكالبت لأجل إحراق البلد ولأجل إسقاط الأسد الذي أبى الله إلا أن ينصره.
ذات العيون المجرمة البلهاء من باريس وحتى جوبر تترصّد باستماتة اقتناص الفرصة التاريخية لتسجيل هزيمة نفسية تودي إلى هزيمة كلية.
وكما فوّت الشاب العربي على عدوه في باريس لحظة المصافحة المزعومة أمام العالم كله، فوّت على العابثين في الداخل والخارج فرصة ترسيخ وهم الانصياع وتبديل الخيارات، فلا هناك ولا هنا ترضى الأسود بالهزيمة.
في باريس وقف القاتل ينظر إلى فرصةٍ ضائعة مع كلّ ما في الدنيا من إذلال، وفي جوبر وقف التاريخ عن التقدم، وعصي عليه اجتياز ذلك الفالق المكاني بين الزمنين بعد أن علقت اللحظات بين نهاية العام 2014 وبداية العام 2015.
عقيدة
بشار الأسد من غير صفة الرئيس أو السيد أو القائد أو الرفيق أو الطبيب أو العالم هو الواضح المعالم عند ضياع التفاصيل، ولامُ التعريف لكلّ مهم هُضِمَ حقه، والشمس الكاشفة إذا ادلهمت ظلمة الحاقدين.
بشار الأسد سيف الحق المشهر بوجه الطغاة في زمن تمتشق السيوف للرقص لا للذود عن الحياض.
بشار الأسد الذي شاء ربه أن يؤيده بتأييده ويعينه بعونه ويحفظه بحفظه ويعزه بعزته ويمنحه القدرة على أن لا يحني هامته وهامة شعبه لغير الخالق الذي أوجدها.
بشار الأسد الواقف في وجه الباطل والداعم لكلّ شرفاء الأرض، الزعيم الأوحد الذي اعتذر لشعبه عن أخطاءِ ماضٍ لم يكن له يد فيها رغبةً منه أن يؤلّف بين قلوبهم.
بشار الأسد المقتنع بأنّ هذا الجيل من شعب سورية العربية الأبية سيثبت انه لا يقلّ قدرة على الصمود والتحدّي عمّن سبقوه، لأنّ إرادة التحدي في فكره هي إرث وطني ينتقل من جيل إلى آخر، المتهم وبكل فخر أنه قائدٌ لبلدٍ لا مشكلة له مع الآخرين غير سيادته والتزامه بانتمائه القومي.
بشار الأسد محبط مشروع التقسيم الجديد بعون باريه، الذي فتح قلبه ليستقبل المهجرين من أبناء الشعب العربي على رغم كلّ من عارض تلك العملية ليقينه الكامل بأنّ الحفاظ على دماء العرب غير السوريين هو بنفس أولوية الحفاظ على دماء وأعراض العرب السوريين، غير آبه لنكران الجميل من بعض الأشقاء الذين أرادوا لدولهم أن تكون ممراً للمؤامرات السيئة النوايا ضدّ سورية وأراد هو لبلادهم أن تبقى عربية شريفة داعمة لنهج الإنسانية.
بشار الأسد الذي أعلنها برفيع صوته وفي جميع المناسبات أنه لن يسمح بمسّ الأمن والاستقرار في سورية مهما كانت الجهة القائمة على ذلك، الواثق بصدقية موقفه الوطني وبأن اللحمة الوطنية عندما تكون متينة بين الشعب وقائده فإنها تحيط الوطن بسوار من المناعة في وجه الصعاب والتحديات.
بشار الأسد الذي قال وآمن بأنّ سورية الله حاميها.
حقيقة
في العاشر من حزيران من العام 2000، رحل القائد الخالد حافظ الأسد، وترك إرثاً ثورياً عروبياً مقاوماً حُصدتْ نتائجه عام 2006 وعام 2008.
رحيله فجّر حزناً وقلقاً لم يخفف منهما غير تفضل القدير على هذه الأمة برجل عاقل محبّ لشعبه ووطنه مؤمن بالله وبعروبته أسمه بشار الأسد.
قبل ذلك وفي السابع من شباط من العام 1999 مات ملك الأردن الحسين بن طلال.
آنذاك احتار المتكهّنون عن ماهية الوفد السوري رفيع المستوى الذي قد يحضر مراسم الدفن نيابة عن القائد الخالد حافظ الأسد والذي كان حضوره ميؤوساً منه لمعرفة العامة بوضعه الصحي وقتها.
وصلت الطائرة السورية إلى أرض المطار.
تأهّب الجميع يرقب باب الطائرة متسائلاً عمن سينزل منها.
فتح باب الطائرة السورية وظهر حافظ الأسد قادماً ليقدم العزاء في رئيس عربي لطالما اختلف معه في رؤيته الغريبة تجاه قضايا الأمة العربية.
وقف الأسد الخالد تحت المظلة التي أعدّت له مثل باقي رؤساء العالم المشاركين في تلك المراسم، وكان للوفد الصهيوني حظ مقصود أو غير مقصود بأن يقف تحت مظلة غير بعيدة كاشفة مكان وقوف الأسد.
كلّ العيون كانت ترنو نحو رجل أسمه حافظ الأسد، فالجميع يراقب المشهد وكلّ له أسبابه.
انتهت المراسم وفضّ العزاء وعاد القائد الخالد إلى ارض الوطن.
أما في أرض المطار في كيان العدو فوقف وفد الصهاينة وقد التفّت حوله مجموعة الصحافيين المتعطشين للحصول على سبق صحافي.
سأل أحدهم زوجة رئيس الكيان الإرهابي آنذاك عن شعورها في يوم تشييع الملك الفقيد الذي كان له حظوة لدى أحبابه الصهاينة كحظوتهم لديه، وعما يميّز هذا اليوم عن باقي الأيام العادية… أجابت بردّ أربك الحاضرين وحيّر المنصتين وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة ظفرٍ، ولمعت في عينيها ومضةُ فرحٍ لا تُرى إلا على وجه من نال جائزة عظيمة قائلة: «إنه اليوم الذي رأيت فيه الأسد».
كتبت الصحف العالمية في صبيحة اليوم التالي لغياب القائد الأب حافظ الأسد: رحل… ولم يوقع .
محامٍ