مجزرةُ حلبا وثقافة الإجرام
د. ادمون ملحم _
مجزرة حلبا الوحشية هي نتاج ثقافة إجراميّة سائدة في المجتمع، هي ثقافة الحقد الطائفي والبغض الطائفي. ثقافة الكراهية والتكفير التي ينشرها الطائفيون وتغذّيها القوى والتشكيلات الطائفية والمرجعيات الطائفية والقيادات الطائفية.
إنها ثقافة الحزبية الدينية والتفكير الطائفي وخططه الانحطاطية السائدة في كل المجالات والتي تمارس يومياً لجعل فئة من المجتمع تكره الأخرى وتخطط لفنائها والقضاء عليها.
إنها ثقافة التعصب الطائفي والتحريض الطائفي المعتمدة في مختلف المجالس الدينية والمواقع الاجتماعية والمؤسسات الإعلاميّة والقنوات الفضائيّة التي تدفع بمجاميع من الناس لتتحرّك معاً بدافع غريزي ومن دون تفكير لتمارس الفتك بأشخاص آخرين يختلفون معهم في الطائفة أو المعتقد أو الفكر.
إنها ثقافة التقوقع والانعزال والانغلاق، ثقافة الكراهية والموت التي لا تنحصر في دائرة ولا تتوقف في مكان بل تسري في شرايين المجتمع وتصفق لها القطعان البشرية بتأثير من قائد طائفي او خطاب مؤجّج ومبرمج لصالح الانتماء الطائفي والمذهبي والقبائلي.
مجزرةُ حلبا البشعةُ التي ارتَكَبَتْها جماعةٌ من الوحوشِ الهمجيةِ المتخلّفةِ بتحريض من رجل دين لا يعرف الدين والأخلاق و«قائد» طائفي بامتياز، يدّعي ان نَسَبه عائد للرسول الكريم، وحزب طائفي فاسد يقوم على التبعية والارتهان للخارج.. هذه المجزرة هي نتاج انعدامِ الوعيِ القوميِ في مجتمعِنا وانتشار ثقافة الجهلِ والتخلفِ والتعصّبِ المذهبيّ الأعمى.
إن مرتكب هذه المجزرة البشعة وغيرها من مجازر القتل والإجرام في مختلف كيانات الأمة هو الوحش الطائفي الذي يتربى في المعتقلات الطائفية والذي يتغذى بأفكار سلفية ورجعية وبخطابات مذهبية تحريضية تثير الغرائز وتشحن النفوس والأحقاد المذهبية والقبائلية وتشيّع ثقافة الولاء للطائفة او المذهب أو القبيلة، ثقافة تقطيع المجتمع وإفساده، فتسبّب الفتن والانقسامات والمآسي والأحزان..
إنها الطائفية السّامة التي تسري في شرايين حياتنا. هذا المرض السرطاني الخبيث الذي ضرب جسم مجتمعنا ونخرَ عظامه وعشعشَ في بناه السياسيةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ فَعطِلَّها ودَمّرَها… هذا السمّ القاتل، الذي حقنه المحتل العثماني في جسم الأمة وسهر الاستعمار الفرنسي على رعايته واستفاد العدو الصهيوني من وجوده، هو الذي عرقل انصهارناَ الاجتماعيَّ ومنع التآخيَ بين المواطنين وحالَ دونَ تحقيقِ المصلحةِ العامةِ وبناءِ الوطنِ على أساسِ المواطنيةِ الحقةِ ودولةِ الحريةِ والديمقراطية والعدلِ والمؤسسات… هذا المرضُ هو أصلُ البلاءِ وسببُ الفِتَنِ المذهبيةِ والمِحَنِ والمصائبِ والفساد المستشري ونهب ثروات الوطن وإفقار الشعب وتجويعه من قبل الفاسدينَ والمجرمينَ ودهاقنِة السياسةِ الطائفيينَ الانتهازيينَ.
في هذه الذكرى، ذكرى الوفاء والاعتزاز بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة، نحيّي شهداء مجزرة حلبا الأبطال ونحيّي أرواحهم الطاهرة وتضحيتهم الكبيرة. فهؤلاء الأبطال جسّدوا الرجولة الحافظة للشرف بوقفة عز مشرِّفة دفاعاً عن مكتب الحزب في حلبا وعن كرامةِ الحزبِ ووجودِهِ وتاريخِهِ في هذه المنطقة ودفاعاً عن وحدةِ المجتمعِ ومقاومتِهِ.
نحيّي الشهداء الأبطال الذين مارسوا البطولة بأسمى مظاهرها مواجهين الموت بصدورهم العارمة بالإيمان تأكيداً على نفوسهم النبيلة التي عَشِقَتْ التضحيةَ والفداءَ في سبيلِ عزِّ الأمةِ وانتصارِها.
في هذه الذكرى الرهيبة، نؤكد على الروحية القومية الحقة التي دفعت بكل شهداء الحزب للاستشهاد وهي أننا لسنا أفراداً يطلبون المنافع الخصوصية، بل نحن جماعة إيمان جديد، جماعة عقيدة وأخلاق نحيا لهما ونبذل أنفسنا لأجلهما. ونحن لسنا جماعةً تئنُّ وتتأوهُ وتبكي من أَلمِها بل جماعةٌ تعتّزُ بجراحِها لأنها جراحَ أعزاءٍ لا جراحَ أذلاءٍ ومقهورين.
وفي هذه الذكرى، نؤكد أيضاً، أن الحقيقةَ المجتمعية، التي آمن بها أبناء الحياة الأعزاء واستشهد من أجلِها وجدي وسناء وخالد وابتسام ومريم ونورما وفدوى وعلي وعمار وسمعان النكت وميخائيل ملحم وآلاف الشهداء على مر السنين، باقيةٌ في النفوسِ الجميلة، الخيّرة، المؤمنةِ بالحياةِ الإنسانية وجمالها، والمصارعةِ لتحقيقِ الغايات الساميةِ والمثل العليا والمطلبِ العظيم… وكما يقولُ الزعيمُ الخالد: «لو قضوْا على المئاتِ منا، لما تمكنوا من القضاءِ على الحقيقةِ التي تخلدُ بها نفوسُنا ولما تمكنوا من القضاءِ على بقيةٍ منا تُقيمُ الحقَ وتسحقُ الباطلَ».