هذه البلاد ليست لي وليست لك وليست للرئيس… هذه البلاد لنا كلنا
} نارام سرجون
كثيراً ما نحتار في كيفية معرفة معاني الأشياء ويصعب علينا أن نفسّرها فنلجأ إلى سلوك يترجمها وينقل روحها إلى من نحبّ… فيحتار العاشق كيف يترجم أحاسيسه الى محبوبته فنراه يجترح موقفاً أو يقطف وردة أو يرمي نظرة تغنيه عن القواميس كلها… والوطنية ربما حيّرتني أكثر من غيرها ككلمة نريد تعريفها في معادلة تشبه معادلة الفيزياء لاسحاق نيوتن أو معادلة الطاقة والكتلة لأينشتاين.. لا توجد تعريفات في اللغات تفي حق هذه الكلمة وتشرحها أي عبارة… وتنقل روحها.. فهناك شروح كثيرة وتعريفات أكثر.. وما أعرفه أن هناك سلوكاً وموقفاً وفدائيّة ربما نعجز عن ترجمتها في كلمات، ولكنني كنت دوماً أبحث عن معادلة ترحمني من حيرتي وتشفي ظمئي.. فما أصعب ان تشرب الماء من نبع هدّار وأنت لا ترتوي، فلطالما شربت كثيراً من عروق الكلام وعصرت اللغات، ولكن حلقي ظلّ جافاً… وكنت دوماً أجادل زواري وأصدقائي في أن يأتوني بتعريف للوطنية خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي أكثر ما نحتاج فيها فهماً عميقاً وبسيطاً للوطنية في زمن أعاصير الفساد والحرب…
ولكنني وللصدفة كأنني وقعت على ضالتي من دون قصد وتوقفت فجأة أمام عبارة جلجلت في عقلي وقلبي صدرت عن أحد الأصدقاء القدامى الذي زارني منذ فترة بعد غياب طويل في غربته.. كان يمتدح وطنيتي ويثني عليها.. وأنا عرفت وطنيته أيضاً وإخلاصه للبلاد وحبه لسورية رغم أنه عانى من مضايقات الفاسدين فهاجر منذ زمن طويل، ولكن وطنيته لم تتغيّر وبقيت صافية كعرق ألماس.. ولا أدري كيف خطر ببالي أن أسأله عن سبب تمسّكه بوطنه رغم بعده عنه ورغم أن الفاسدين تسببوا في غربته الطويلة ومنعوه من أن يقدّم مشروعه العلمي والخدمي وفرشوا دربه بالأهوال والقوانين القرقوشية والبيروقراطية… فقال لي إنها قصة تشبه وميض البرق في القلب الداجي وتشبه لحظة اكتشاف أرخميدس لسرّ علاقة كتلة الذهب بكتلة الماء المُزاح حتى صرخ من الدهشة والفرح الطاغي: وجدتها.. فطلبت من هذا الصديق أن يروي لي تلك الومضة التي ومضت ولم تنطفئ منذ تلك اللحظة حتى اليوم وحافظت على روحه الوطنية، فقال: في أحد الأيام وبعد أن تخرّجت من كلية الطب وأنهيت مرحلة الاختصاص العام في بداية التسعينيات وجدت نفسي أبحث عن عمل يليق بخبرتي وبطموحي للالتحاق به لأصبح طبيب قلب اختصاصياً.. ولكني لاقيت الأهوال لأن ثقافة الواسطة والمحسوبيّة أكلت الأخضر واليابس ولم تترك لنا إلا الحطب واليباب من الوظائف ولم تكن لي أي قناة إلى واسطة متنفذة وبت معلّقاً في الهواء.. لا أنا قادر على أن أعمل وألتحق باختصاص أطمح إليه وأحقق حلمي ولا أنا قادر على أن أبقى في مكاني..
تابع صديقي وهو يشرب القهوة وينظر عبر النافذة وكأنه يراقب مشهداً من الماضي يراه أمامه وكأن النافذة أضحت شاشة عرض يرى ماضيه السحيق… فقال: وفيما أنا في قعر اليأس يا صديقي… همس لي أحدهم وكأنه يقول سراً مكتوماً بأن وزارة الصحة بشأن تأسيس مركز لجراحة القلب في دمشق سيكون أحد أهم المراكز في الشرق الأوسط وهناك تعيين للأطباء الجدد… وعليك أن تجد واسطة بأيّ ثمن توصلك الى وزير الصحة الدكتور محمد إياد الشطي أو إلى مدير المركز الدكتور أحمد زكي سكر..
رشف صديقي قهوته وتابع: وابتسمت في سري وعرفت أن طريقي مسدود سلفاً.. ولكنني وبعد تفكير طويل وتردّد كبير قرّرت أنني لن أخسر شيئاً من الخوض في هذا البحر العميق وأنا أعرف خاتمتي فيه.. وسأذهب من غير واسطة الى أحد الرجلين وأطلب التعاقد والعمل..
وعندما كشفت خطتي لأصدقائي في ذلك المساء ابتسم البعض ووجم البعض وضحك البعض طويلاً.. وسمعت سخرية وتعليقات مشفقة من سذاجتي.. ولكن أحدهم وهو من العارفين ببواطن الأمور قال لي بجدية مطلقة ناصحاً وسط صمت الجميع: اسمع وأنصت جيداً لما أعرفه يا رفيقي.. هذا المركز في دمشق.. وتديره شخصية دمشقية عريقة من الميدان هو الدكتور أحمد زكي سكر ابن العائلة البرجوازية المعروفة.. ويشرف على المشروع شخص دمشقي آخر هو وزير الصحة الدكتور الشطي الذي ورغم احترامنا له فإنه سيحترم دمشقيته أولاً.. فهذا المشروع مبني لأبناء دمشق وأهل الشام تحديداً… وهو مشروع دمشقي حصراً… وأنت من المهاجرين من الساحل السوري وفهمك كفاية ..
الحقيقة أن كلامه أحبطني، لأن هناك شيئاً من الحقيقة في أن بعض ثقافتنا متأثر بهذه الطريقة من التحليل المناطقي والمذهبي. وفي نهاية اللقاء أجمعت الجلسة على أنني سأضيّع وقتي وأن عليّ أن أكون أكثر براغماتية وتمنّى عليّ الجميع بصدق أن أوفر على نفسي اللقاء المذلّ أو الرد المهين بالرفض رغم حلاوة اللسان الدمشقي.. الذي سيزيد من إحباطي ويأسي.
وتابع صديقي حكايته وقد نال مني اهتماماً أكبر لأعرف منه في النهاية كيف توصل من هذه التجربة الى تعريف خاص له للوطنية وتلخيص لها… فقال: ولكنني كنتُ والجدار خلف ظهري.. فلم يعد لدي أي شيء أخسره.. فقررت أن أذهب لتقديم الطلب ولن أبالي… لا لشيء بل لأكسب خبرة في الحياة في معرفة كيف يتعامل الناس مع الفقراء واللامدعومين واللامحظوظين أمثالي..
وبالفعل ذهبت الى عيادة الدكتور سكر في شارع 29 أيار وطلبت لقاءه.. فأعطتني السكرتيرة موعداً في المساء بعد نهاية العيادة. وصلت الحكاية إلى نقطة حاسمة وصرت تواقاً لأعرف هذه المغامرة الصغيرة كيف انتهت الى معرفة كبيرة.. فسكبت فنجاناً ثانيأ من القهوة وأنا كلي آذان صاغية لصديقي الذي تابع منتشياً بأنه جذب اهتمامي بقوة.
في المساء كنت أجلس أنتظر خروج آخر المرضى في عيادة الدكتور سكر وما هي إلا دقائق حتى فتح لي الباب ودعتني السكرتيرة بتهذيب للدخول، فابتسمت في سرّي وقلت «سأقول للأصدقاء هذه اللفتة الكريمة كي يضحكوا من «البداية الطيبة والنهاية الحزينة..».
وعندما دخلت وقف الدكتور سكر واستقبلني باحترام.. فقدّمت له نفسي.. وكدت أتلعثم لأن اسمي لا يبدو دمشقياً… فالأسماء العريقة الدمشقية معروفة وتكاد تقول هويتها من نطقها أما اسمي فكان يقول إنني من الساحل السوري أو على الأقل إنني أبعد عن دمشق 200 كم على الأقل ..
ثم انتقلت إلى شرح غرض زيارتي وهي أنني طبيب ناجح ناشئ، ولكنني أطمح في الاختصاص في أمراض القلب ولم أجد فرصة حتى الآن.. فجعل الدكتور سكر يسألني أسئلة محددة عن معدلي الجامعي وعن المكان الذي نلت اختصاصي فيه وعن خبرتي وأشياء كثيرة طبية.. ومع كل سؤال كنت أحسّ أن الاعتذار اللطيف سيكون قريباً في لحظات لأنه سيجد الثغرة الكبيرة التي ستبرّر له الرفض.
وبعد أن انتهى هزّ رأسه وقال بشكل فاجأني: «تبدو مناسباً للعمل معنا..».
ولم تنته المفاجأة هنا، بل إنه امسك ورقة وقلماً وكتب مباشرة إلى وزير الصحة الدكتور الشطي: السيد الوزير أرجو الموافقة على تعيين الدكتور فلان في مركز جراحة القلب الذي تأسس…. اتخاذ ما يلزم من إجراءات.. ثم وقّع الورقة وناولني إياها، لكنني كنت مندهشاً ولا أصدق نفسي، ومددت يدي متردداً وأنا أحسّ أن هناك شيئاً غير صحيح.. وخشيت أن يكون الأمر قد التبس على الدكتور سكر وأنه ظن أنني من دمشق أو أنني شخص آخر مع واسطة.. فقرّرت أن أصارحه وأن ألفت نظره الى ما لا يعرفه وقلت: دكتور.. نسيت أن تسألني سؤالاً مهماً، فحدّق بي وقال: ما هو؟ فقلت له: لم تسألني من أين أنا ومن أي محافظة؟ فقال لي بسرعة في لهجة اعتذارية: الحقيقة أنني نسيت أن اقول لك إنك إن كنتَ من خارج دمشق فإنني لا أستطيع أن أؤمن لك سكناً. فهذه مسؤوليتك ولا توجد إمكانات لإسكان مَن يحتاج مسكناً في المشفى.. هذه لا أقدر على مساعدتك بها.. فجمعت كل شجاعتي وصراحتي وقلت له: دكتور أريد أن أكون صريحاً معك أنا لست دمشقياً، أنا من الساحل.. وسمعت أن المشروع لأبناء دمشق وأنك كشخصية دمشقيّة لا توافق إلا على أبناء دمشق، فأرجو أن لا تحسّ بالحرج اذا غيّرت رأيك ..
فانتفض الدكتور سكر وقال لي عبارة كانت كالومضة والبرق في ذاكرتي وقلبي إلى هذه اللحظة.. قال بلهجة فيها عتب وغضب وتوبيخ مهذب: يا دكتور.. هذه البلاد ليست لي وليست لك وليست لحافظ الأسد. هذه البلاد لنا جميعاً، وعلينا أن نخدمها جميعاً بكلّ ما نستطيع ..
وبدا التأثر هنا على وجه صديقي وكأنه يعيش تلك اللحظة. وأضاف: اقشعرّ بدني وصعقني الجواب.. لأن ذلك الزمان هو زمان حافظ الأسد الذي لا يجرؤ فيه كثيرون على التعبير عن ذلك بتلك الطريقة القوية التي تضع الرئيس معك في الميزان نفسه.
وأكمل صديقي قائلاً: أخذت الورقة وذهبت حالاً إلى أصدقائي ووضعت الورقة أمامهم.. وفوجئوا بالنتيجة من غير واسطة دمشقية.. وبعضهم حاول أن ينكر أنني لم أحظ بتوصية، ولكن في تلك اللحظة التي نظرنا فيها إلى بعضنا كانت تنهار مجموعة من الأحكام المسبقة الخاطئة والقناعات الشاذة أن الوطن لمجموعة محدودة من الأفراد او أبناء منطقة ما… فالوطن للجميع ليس لأبناء الساحل ولا لأبناء دمشق ولا أبناء الجنوب.. بل للجميع عندما يكون هناك مَن يحبّ الوطن بهذه الطريقة.. نهض بيننا مفهوم جديد علّمنا جميعاً أن نكون مثل الدكتور سكر الذي صار صديقاً رائعاً وأباً حنوناً رعانا جميعاً وساعدنا جميعاً وأوفدنا إلى الغرب لنتعلم ونعود لنعالج هذا الوطن.. بل ونجح المركز في عهده وكان الولاء للعمل هو معيار التعيين فيه وساهم في نهضة علمية وخدمية رفيعة واستضافة مؤتمرات دولية كبرى.. وأنا شخصياً أدين للدكتور سكر بكل نجاحي في الغرب اذ إنه أوفدني وبمؤازرة من الدكتور الشطي الذي كان في منتهى النبل معي على حساب المركز لنيل أدق الاختصاصات والشهادات.. رغم أنني لم أكن دمشقياً بل عاملني أفضل مما عامل فيه الدماشقة وتمنيت دوماً أن أرد له الجميل، ولكن الجميل الذي أرده دوماً كان أن أعلم الناس حولي تلك العبارة الرائعة المغرقة في الوطنية: «هذه البلاد ليست لي.. وليست لك.. وليست للرئيس.. هذه البلاد لنا جميعاً».. هذه العبارة صارت مثل الأيقونة وصارت معادلة تلخص لي كيف تفهم الوطن وتكون وطنياً وصرت أطبّقها في حياتي كلما التقيت سوريين من أي مشرب واتجاه ومذهب وطائفة وطبقة.
أنهى صديقي من عرض قصته وتعريفه للوطنية، لكن الحقيقة هي أنني في تلك اللحظة عرفت كيف نصنع الوطنيين عندما يرون سلوكاً وطنياً.. وكيف نحارب المناطقية والمحسوبية والطائفية والفساد.. فعندما يرى الناس نقاءنا وصفاءنا وإخلاصنا فإنهم يكونون مثل المرايا التي تعكس الضوء للناس كالمرايا وشظايا المرايا لا تعكس الظلام، لكنها تعكس الضوء، وكلّما تصرف الإنسان بوطنية فإنه يضيء وتنعكس عنه الأشعة لتنير للآخرين.
وأدركت أن صديقي بحكايته قادني الى أقرب نقطة تعريف بالوطنية التي هي ضوء ينعكس.. والفاسدون هم الظلام الذي لا يعكس إلا العتمة إلى قلوب الناس ولا يعلم الناس إلا أن يكونوا مثله فاسدين.. وأجزم لو أن تلك المقابلة انتهت بالخيبة في نفس صديقي لانتصرت تفسيرات الانتماءات المناطقية والفساد وتجذّرت تلك القناعة لديه بل وتحوّل الى ممارستها ليعكسها في سلوكه ولدى أصدقائه ومرؤوسيه ..
وأتمنى من كل سوري ومسؤول أن يعلم هذه الصوفيّة في الوطنية لأبنائه ولمرؤوسيه وموظفيه وأن يردّد دوماً:
هذه البلاد ليست لي .. وليست لك .. وليست للرئيس .. هذه البلاد لنا جميعاً ..
عاشت سورية للجميع!