اتفاق الطائف والوهّابيّة السياسيّة

نسيب أبو ضرغم

تشكّل التركيبة السوسيولوجية اللبنانية حالة فريدة من حيث كونها أساساً للبنْية السياسية في لبنان. ومن الضروري بمكان فهم طبيعة هذه التركيبة لفهم آليات وطبيعة الحركة السياسية اللبنانية.

شاءت إرادة رُعاة اتفاق الطائف ألا يكون هذا الاتفاق وثيقة ثورية تغييرية تنقل لبنان من الحالة السوسيولوجية المعيوبة، إلى حالة صحية سليمة تقوم على المواطنة، بعيداً عن اعتبار المذاهب والطوائف عناصر تكوينية سياسية في الكينونة اللبنانية.

رُعاة مؤتمر الطائف لم يكن في ذهنهم شيء اسمه كيفية خلق مجتمع لبناني يحمل شروط استمراره الصحي، السلمي، الطبيعي، كبقية المجتمعات الصحيحة، بقدر ما كان موضوع إمكان إمساكهم بمفاصل هذا المجتمع سياسياً وثقافياً واقتصادياً موجوداً وفاعلاً.

رُعاة المؤتمر، على تنوعهم، لم يقفوا على أسباب الاقتتال اللبناني ــ اللبناني، ولم يفقهوا الأبعاد التاريخية لهذه الأسباب، لذلك نراهم يجنحون إلى التعامل مع النتائج، وبالتالي فرض قواعد دستورية وقانونية تنسجم مع هذه النتائج، وبالتالي لا تشكل مانعاً من إعادة تكرار فصول جديدة من الاقتتال اللبناني.

كان أمام رعاة اتفاق الطائف خياران اثنان، فإما أن يؤسّسوا للبنان قواعد دستورية وقانونية تقوم على أساس المواطنة وجعل عناصر المجتمع اللبناني أربعة ملايين عنصر بدلاً من ثمانية عشر عنصراً، ويكونون بذلك قد أنهوا وإلى الأبد السبب التاريخي الأساس في نشوب الاقتتال بين اللبنانيين، أو أنهم يكملون على قاعدة العيب التاريخي الذي صاحب الكينونة اللبنانية والمتمثل في اعتبار الطائف والمذاهب عناصر أساسية اجتماعية ــ سياسية في التركيب اللبناني.

يا للأسف، أخذ رعاة اتفاق الطائف، وهم في الأساس رعاة الاقتتال الداخلي، بالخيار الثاني، وأرسوا للبنان قواعد دستورية ترعى هذا الخيار وتكرّسه، فكانت «وثيقة الوفاق الوطني» التي أصبحت دستوراً للجمهورية اللبنانية بتاريخ 21/9/1990.

لا شك في أن الأخذ بالخيار الثاني شكّل كارثة على مستقبل لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وربما على مستقبل البلد من الأساس. والكارثة الأكبر هي في عدم احترام أصول اللعبة، فمن الوجهة المبدئية ينبغي أن يحترم واضع اللعبة شروط نجاحها، الأمر الذي لم يحصل في مندرجات «وثقة الوفاق الوطني».

عندما تمّ الاتفاق على اعتبار الطوائف والمذاهب مكونات اجتماعية ــ سياسية تستند إليها سائر نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في لبنان، كان مفترضاً وفق أصول اللعبة أن تحترم هذه المكونات بحيث لا تشعر بأنها ذات شعور دوني مسلوب الحق والدور، وإلاّ فإن بذور الانفجار والتمرد على الصيغة سوف تؤدي في لحظة داخلية وإقليمية ودولية معينة إلى انفجار جديد، وها هو اعتراض الطوائف المسيحية ينذر بذلك.

لقد دفعت المملكة العربية السعودية اتفاق الطائف بطموحها الكامن منذ الأربعينات من القرن الماضي، الطموح الهادف إلى الإمساك بالوضع اللبناني، وصولاً إلى التدخل والتأثير في الداخل السوري الذي لم تكن يوماً على وفاق معه، إلاّ استثناء، المملكة العربية السعودية تالتي لم تغب يوماً عن يوميات الاقتتال اللبناني بتغذية المتقاتلين على الضفتين، وقد دأبت منذ أواخر السبعينات على تحضير الشخصية اللبنانية التي ستقوم بالدور السعودي داخل لبنان، فكان الرئيس رفيق الحريري الذي أعطي له دور العرّاب في مؤتمر الطائف، وهو عينه الذي تسلم مقاليد حكم لبنان مستنداً إلى اتفاق الطائف بُعيد إقراره.

ليست مصادفة أن يكون مكان الاتفاق في مدينة الطائف السعودية، وليست مصادفة، أن يتم مؤتمر الطائف بعد مؤتمر القمة العربية في كازبلانكا في المغرب الذي أخذ بمبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز، أي مبادرة «السلام مع إسرائيل»، ولذلك ليس من الحكمة فصل اتفاق الطائف عن تلك المعطيات كلها، فليس اتفاق الطائف سوى قطعة بازل أعدت في لوحة «الشرق الأوسط» آنذاك وقد تبعثرت قطعها إثر اغتيال رابين.

أطلقت القوى الأجنبية والأميركية في الدرجة الأولى يد المملكة العربية السعودية في الصيرورة السياسية والاجتماعية اللبنانية بإعطاء صلاحيات إضافية لرئيس الحكومة على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية، وكل ذلك لكون المملكة العربية السعودية ضامنة لمشروع «السلام» مع «إسرائيل» من جهة ولخلق توازن، بل غلبة، مع النفوذ السوري في لبنان. شكّل اتفاق الطائف الأساس الدستوري لصيغة اللاتوازن الطائفي، في بلد قام على معادلة طائفية بالغة الحساسية والدقة، ولا تحتمل أي ارتجاج.

لم تكن الولايات المتحدة الأميركية تأبه كثيراً لطبيعة الصيغة الطائفية، بقدر ما كانت تهتم باستراتيجيتها في المنطقة والقائمة على أساسين: الأول ضمنان تدفق النفط، والثاني أمن «إسرائيل»، ولما كانت «مبادرة السلام» التي أقرها مؤتمر كازبلانكا من قبل القادة العرب تشكل المرجعية لقيام شرق أوسط جديد، وفق شروط السلام الأميركي، كان لا بد من البدء في تحضير الساحة اللبنانية لمثل هذا السلام. نتذكر جميعاً كم مرة كرر الرئيس الحريري في المجلس النيابي ثقته بقدوم السلام في الربيع، ولم يكن ذلك رجماً في الغيب بقدر ما كان جزءاً من خطة دولية ظهّرها مؤتمر كزبلانكا وجسّدها اتفاق الطائف.

انطلاقاً من ذلك، كان إطلاق يد المملكة العربية السعودية في إدارة الدولة ــ اللبنانية عبر وجود الرئيس الحريري، ولم تكن مسألة تراجع صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة رئيس الحكومة لتثير لدى الولايات المتحدة أي قلق.

دليلنا على ذلك انحياز الولايات المتحدة الجارف ضد ملاحظات العماد عون آنذاك على الاتفاق وخوفه على الصيغة اللبنانية، بحيث كانت ترى من الوجهة الاستراتيجية التي تتعدى صلاحيات الرئيس الماروني والحضور المسيحي مصلحة كبيرة لها، إلى حد أنها وافقت على ضرب العماد عون عسكرياً وإخراجه عنوة من قصر بعبدا.

منذ أن أخرج العماد عون من قصر بعبدا دخل لبنان فعلياً مرحلة الوهابية السياسية، وأصبح الرئيس رفيق الحريري الحاكم الفعلي للبنان. كانت الوهابية السياسية تتحرك صعوداً أو هبوطاً وفق موقف رئيس الجمهورية، ففي ظل تسع سنوات من حكم الرئيس الهراوي، كانت في حالة صعود وتمدد أفقي طاول قطاعات واسعة من الشعب والدولة، ولكنها أربكت في ظل تسع سنوات أخرى من ولاية الرئيس المقاوم إميل لحود. هذا الإرباك كان وراء التشنجات والمواجهات كافة التي وقعت، والتي كان المايسترو الأكبر لها الولايات المتحدة الأميركية، والوكيل الإقليمي المملكة العربية السعودية.

بناء على ذلك ندرك لماذا فلم يطبق اتفاق الطائف في ما يتعلق بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، خاصة ما ورد في البند ز من باب الإصلاحات السياسية.

لذلك لا يكون تصريح سعود الفيصل بأن لا مانع لدى السعودية من أن يكون الوزير سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية شرط عدم المساس بالطائف مستغرباً، ذلك أن اتفاق الطائف هو الآلية الدستورية التي تمكن المملكة العربية السعودية من التأثير الكبير في الصيرورة السياسية اللبنانية. نحن، كلبنانيين، نفهم أن يطالب السنّة في لبنان بعدم تعديل الطائف، إنما ما هو غير مفهوم ومقبول أن يطالب بذلك وزير خارجية السعودية، فما شأن سعود الفيصل في دستورنا! وكيف له أن يتكلم بالنيابة عن الطائفة السنية في لبنان، لو لم يكن ما أوردناه أعلاه صحيحاً عن أن لبنان يعيش تحت السلطة الوهابية.

إذا كنتم أردتم توازناً طائفياً فحافظوا عليه، وإلا فلبنان ينتظره زمن صعب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى