الاتحاد الاقتصادي الأوراسي… رؤية جيوبوليتيكية
إياد الجراش
يشهد العالم منذ عقود صراعاً متجدداً ومحموماً على الجغرافيا والطاقة، وذلك في إطار صراع القوى الكبرى على رسم خريطة جديدة للقوى وتشكيل النظام الدولي الجديد بما يتضمنه من قوى وتكتلات وأحلاف.
ومع بداية عام 2015 دخلت معاهدة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بين روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا حيزَ التنفيذ بعد أن تم توقيعها في 29 أيار للعام 2013. ويأتي قيام هذا الاتحاد خطوةً جديدة في إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية العالمية وردَّ فعل قوي تجاه محاولات الغرب لعزل روسيا وتقليص الدور العالمي الذي تطمح إليه.
يندرج قيام هذا الاتحاد في إطار العديد من الاتفاقات المتعددة الجوانب كانت روسيا العراب الحقيقي لها خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة في سعيها إلى إحياء الدور الذي كان يتقلده الاتحاد السوفياتي سابقاً كقوة عالمية مؤثرة، وطموحها في أن تكون قطباً قوياً يتحكم في مسارات السياسة الدولية.
ويقدم الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عدداً كبيراً من الإمكانات للتنمية والتعاون الاقتصادي في إدارة احتياطات الطاقة واستثمارها وإقامة البنية التحتية الضرورية لنقل الطاقة، وهذا ما سيكون له أبلغ الأثر على صادرات الطاقة واستهلاكها في أوروبا وآسيا، كما سيؤثر على المسارات الأساسية للتجارة وبدائل النقل التجاري، إضافة إلى ما سيفضي إليه هذا الاتحاد من تعاون عسكري وسياسي وأمني بين الدول الأعضاء، وبهذا يشكل تهديداً مقلقاً للهيمنة الأميركية في آسيا ومحيط الاتحاد السوفياتي السابق.
إن جملة البنود التي تتضمنها اتفاقية الاتحاد ستؤدي إلى تحويل كل من روسيا وكازاخستان إلى أكبر مزود بالطاقة للصين في ظل السعي الروسي الحثيث إلى تطوير علاقة عضوية تعايشية بينها وبين الصين من خلال تعزيز تبادل الطاقة والتعاون في كافة المجالات، خصوصاً بعدما أبرمه البلدان من اتفاق على تحييد الدولار كعملة في التعاملات المالية وديون المدفوعات بين البلدين ما سيؤدي إلى نمو اقتصادي أكبر واستقلال مالي عن الغرب. وبالتالي سيتحول الروبل إلى عملة حاسمة في قلب آسيا في حين يستمر اليوان الصيني في أهميته المتزايدة دولياً وإقليمياً، وهذا ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى توجيه ضربة استباقية للاقتصاد الروسي من خلال سلاح النفط مع شركائها الاستراتيجيين كالسعودية.
أما كازاخستان فتلعب الدور الأهم في هذا السيناريو كونها تتموضع على الحدود ما بين روسيا والصين، كما أنها تقع على طريق الحرير الجديد الذي تسعى الصين إلى إنشائه لنقل الطاقة من وإلى السوق الصينية. حيث تسعى روسيا إلى إعادتها في شكل كامل إلى الحضن الروسي بعدما عملت أميركا على احتوائها بأساليب القوة الناعمة ثقافياً واقتصادياً ، فإن نجحت روسيا في ذلك تصبح أميركا خارج الميدان الأوراسي.
الطرف الثالث في المعاهدة هو بيلاروسيا والتي تسلمت زعامة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي للسنة الأولى، والتي تتمتع بأهمية استراتيجية كبرى لدى روسيا تفرضها ضرورة الجيوبوليتيك، حيث تشكل بيلاروسيا عقدة وصل رئيسة في شبكة نقل الطاقة بين روسيا وأوروبا، وخصوصاً بسبب مرور خط يامال الأوروبي الذي ينقل 20 في المئة من صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا والذي تم شراؤه من قبل شركة غاز بروم الروسية في عام 2011 سعياً من روسيا إلى تنويع مكونات البنية التحتية لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا وتقليص الاعتماد على خطوط النقل الأوكرانية، وهذا ما أدى إلى تعزيز الربط الفيزيائي بين روسيا وبيلاروسيا.
علاوة على ذلك تعتبر بيلاروسيا مصدراً رئيساً للصناعات الثقيلة كالشاحنات والجرارات وغيرها من آليات الصناعة والبناء إلى روسيا، وبذلك تحقق بيلاروسيا فائدة كبرى من الشراكة الاقتصادية المتنامية في الاتحاد الأوراسي وخصوصاً في التحرر من القيود التجارية وفي قضايا النقد واستقرار الدين، سيّما أن الاتحاد الأوروبي يعتبر بيلاروسيا عضواً منبوذاً فيه. ولهذا يرى الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي خطوة إيجابية نحو الاستقرار الاقتصادي واكتساب فعالية أكبر تجاه أوروبا في المفاوضات والتفاعلات السياسية.
يرى الكثيرون في موسكو أن قيام الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يعتبر نصراً سياسياً لروسيا، فهو انعكاس جديد للطموح الروسي حيث أوضح ميخائيل مارغيلوف رئيس مجلس العلاقات الخارجية الروسي أن موسكو ترى في الاتحاد الأوراسي مرحلة جديدة للتكامل في الفضاء السوفياتي السابق، فهذا الاتحاد مهم جداً اقتصادياً وسياسياً وهو انتصار سياسي على الغرب خصوصاً أن هذا الاتحاد قابل للتوسع ويسعى إلى استقطاب مزيد من الأعضاء إليه فأرمينيا وقيرغيزستان صرحتا في شكل واضح عن رغبتهما في الانضمام إلى هذا الاتحاد.
ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الغربيين ينظرون إلى تأسيس الاتحاد الأوراسي كتطور مقلق على الساحة الدولية، ولهذا فمن المتوقع أن تعمد الولايات المتحدة إلى توظيف سلاح القوة الناعمة في سلوكها لتحبط أو لتحرف سلوك هذا الاتحاد عن مساره، وهو ما بدأت تعمل عليه في أزمة النفط الراهنة بمساعدة بعض حلفائها في منظمة «أوبك».
كما يمكن أن نرى الاستجابة في مكان آخر حيث يتوقع أن تعمد الولايات المتحدة الأميركية إلى زعزعة الاستقرار في إقليم الصين الغربي تشينغ جيانغ الذي تقطنه غالبية من اليوغور وهم مسلمون من أصول تركية والذي يتمتع بموقع مهم وحساس جداً على طريق الحرير الجديد ويشكل منطقة اتصال بين الصين وكازاخستان، فهو المركز الأقرب جغرافياً إلى جميع شركاء الصين وجيرانها من جهة الغرب، حيث تعمل أميركا منذ زمن على التلاعب بمكوناته الإثنية والدينية.
إذاً تسعى روسيا إلى تأمين محيط اقتصادي وسياسي ملائم لتلعب دوراً أكبر في تشكيل ملامح النظام الدلولي الجديد متعدد الأقطاب وذلك من خلال قيام الاتحاد الأوراسي وتحالف دول البريكس ومنظمة شانغهاي وميثاق الأمن الجماعي ودول عدم الانحياز، لمحاولة ضبط التفاعلات السياسية الدولية. وهذا كله ينبئ بظهور تكتل متماسك لقوى الشرق في مواجهة هيمنة الغرب التي بدأ يتهددها الأفول.