قناة نيكاراغوا: «تهديد» للأمن القومي الأميركي
علوان نعيم أمين الدين
«اتخذ مبدأ مونرو الذي اعلنه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في العام 1823 ذريعة للتأكيد على أحقية الولايات المتحدة الأميركية في التوسع في نصف الكرة الأرضية، وذلك لتتمكن من السير الى آفاق أوسع في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر، وذلك أيضاً لدعم الدعوة الى أنّ للولايات المتحدة «حقوقاً خاصة» في غزو أية دولة في أميركا الجنوبية أو أميركا الوسطى ترفض مساندة سياسات الولايات المتحدة الأميركية.» هذا ما قاله احد «القتلة» الاقتصاديين الأميركيين جون بركنز في كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي».
يأتي هذا «التهديد» بعد سلسلة من التطورات واكبت عدداً من المتغيّرات في الجزء اللاتيني من القارة، حيث بقيت كوبا متشبّثة بصمودها برغم الحصار، الى ان أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما إعادة تطبيع العلاقات مع كوبا، معرباً عن أنّ «سياسة العزل التي مارستها واشنطن تجاه كوبا أخفقت في تحقيق أهدافها»، معلناً أنّ «بلاده ستنهي هذه السياسة التي مضى عليها الزمن، لتفتح صحفة جديدة في العلاقات بين البلدين.» روسيا اليوم، 17/12/2014
بسبب سياساتها الخارجية، خسرت الولايات المتحدة نفوذها لدى معظم الدول في «حديقتها الخلفية»، بدءاً من فنزويلا، مروراً بتشيلي، والبرازيل انضمّت الى دول «بريكس» ، بوليفيا، وصولاً الى الارجنتين وغيرها من الدول، اذ أنها قد «ملَّت» من سياسة واشنطن الخارجية «الإملائية»، ولم يعد يردعها عن المواجهة التهديد بـ «البطش» العسكري.
في هذا السياق، يعتبر هذا المشروع «تمرداً» على مبدأ مونرو، وخروجاً على السياق الذي رسمته الولايات المتحدة لنفسها في تعاطيها مع الدول اللاتينية.
لمحة تاريخية
ليس مشروع القناة بجديد، فلقد «كتب نابليون الثالث مقالاً في أوائل القرن التاسع عشر حول فكرة إنشاء هذه القناة، وفكرت الولايات المتحدة الأميركية بإنشاء هذه القناة، إلا أنها لم تبتل في هذا الأمر لقيامها بشراء قناة بنما من فرنسا في بداية القرن العشرين.» قناة نيكاراغوا، ويكيبيديا
يعود «حلم القناة» في نيكاراغوا إلى حوالي مئتي عام، لكن القرار الجدي لم يتخذ الا في 13 حزيران 2013 من قِبل برلمان نيكاراغوا، بعدها وافقت لجنة قناة نيكاراغوا على خريطة طريق ومخطط المشروع في 7 تموز 2014.
وقع الاختيار على مجموعة «هونغ كونغ للتطوير والاستثمار HKND» الصينية، ومقرها في هونغ كونغ لتقوم بالتنفيذ، واعطي لها الحق الحصري في «التخطيط، والتصميم والإدارة وغيرها من صلاحيات المشاريع.» صحيفة الشعب اليومية اونلاين – الصين، 24/12/2014
كما منح الرئيس النيكاراغوي دانيال أورتيغا المجموعة امتيازاً مدته «خمسون عاماً يمكن تجديده لخمسين سنة أخرى.» الجزيرة، 1/12/2014
الاستعدادات والتحضيرات
وُضع لهذه القناة ستة مخططات موقعLatin American Bureau، 14/7/2014 تبدأ جميعها من نهر ريتو المفتوح على المحيط الهادئ شرقاً، مخترقاً بحيرة نيكاراغوا، وصولاً الى المحيط الاطلسي. وكان ابرز هذه المشاريع اثنان الاول، يقضي بمرور القناة عبر نهر سان خوان الحدودي مع كوستاريكا، ولكن الخلافات الحدودية بين الدولتين قضت على هذا المخطط، إذ «سخرت» الأخيرة منه ووصفته بـ«الفرعوني» وطلبت تفسيرات حول موقع القناة المحتمل. شبكة النبأ الاخبارية، 18/6/2012
اما الثاني، فهو يمر داخل نيكاراغوا ضمن قناة سيتمّ حفرها كي تصل الى نهر «بونتا جوردا» الذي يصبّ في البحر الكاريبي على المحيط الاطلسي، وهذا المشروع هو ما تمّ اعتماده بالفعل، ومن المتوقع ان ينتهي المشروع خلال العام 2020 بكلفة تبلغ 50 مليار دولار.
مميّزات المشروع
يبلغ طول قناة بنما حوالي حوالي 77 كلم، بينما يبلغ الطول المحتمل لقناة نيكاراغوا 278 كلم. غير ان ما يميّز هذه القناة، برغم ثلاثة أضعاف طولها عن قناة بنما، الا انها تعتبر «الاقرب» الى الشمال عموماً والولايات المتحدة خصوصاً لا سيما للسفن الآتية من الشرق الأقصى اليابان والصين تحديداً .
بالإضافة الى ما سبق، «يترواح عرض القناة السفلي بين 230 و520 متر، ويصل عمقها إلى 27.6 متراً، وتصل قدرة تحمّل المجرى إلى 9100 سفينة في السنة، ويمكن لأقصى حمولة أن تصل إلى 400 ألف طن» صحيفة الشعب اليومية اونلاين-الصين، 24/12/2014 .
في المقابل، يجري الحديث عن إعادة تنشيط قناة بنما من خلال مشروع توسيعها وبهدف زيادة عائداتها، اذ من المتوقع ان تفوق تكاليفها الـ5 مليارات دولار حيث سيتمّ تشييد سدود جديدة «تتيح مرور السفن التي تنقل حتى 12 ألف حاوية في مقابل سفن حمولتها 5 آلاف حاوية في الوقت الراهن، لمضاعفة وزن الحمولات العابرة 600 مليون طن في السنة. وفي نهاية المطاف ستؤمّن القناة الموسعة لدولة بنما 3.1 مليار دولار سنوياً، اي ما يفوق ثلاث مرات عائداتها الحالية.» القدس العربي، 13/8/2014
ومن الجدير ذكره هنا أنّ بنما تجني من القناة حوالي مليار دولار سنوياً اي 6 في المئة من اقتصادها. موقع ايلاف، 27/12/2014
غير ان كل ذلك لم يثن القيمين في نيكاراغوا على اتخاذ مثل هذه «الخطوة الاستراتيجية» برغم تحضيرات بعض الاقتصاديين من وجود قناتين لنفس الغرض.
أهداف المشروع
هنا يجب الحديث عن شقين، الأول داخلي، والثاني دولي.
على صعيد نيكاراغوا، هناك عدد من الامور تتمثل في:
– خلق المشروع لـ50 ألف فرصة عمل، و200 ألف فرصة عمل بعد التشغيل صحيفة الشعب اليومية اونلاين-الصين، 24/12/2014
– يتوقع المسوؤلون ان يساعد هذا المشروع في انتشال البلاد من فقرها. وتقول الحكومة «إن المشروع سينتشل نهائياً ثاني أفقر بلد في نصف الكرة الغربي من الفقر»، اذ صرح عمر هالسنونس، نائب رئيس نيكارغوا، أن القناة «ستغيّر تاريخ واقتصاد نيكارغوا، إحدى أفقر دول أميركا اللاتينية»، وأضاف: «بإنشاء القناة الجديدة، تتوقع نيكارغوا تحريك 5 في المئة من حجم التجارة العالمية التي تتحرك في البحر، وسيكون لها فوائد اقتصادية كبرى وستضاعف إجمالي الناتج القومي» بي بي سي، 23/12/2014
– اقامة عدد من المشاريع لخدمة القناة أهمّها ميناءان ومطار ومنتجع ومنطقة صناعية لتوليد الكهرباء وغيرها من الشركات.
اما على الصعيد الدولي، فهناك عدد من الامور يجب الإشارة اليها، أهمّها:
– توفير الوقت والمسافة حيث سيصبح بإمكان «السفن من حمولة 400 ألف طن، المتنقلة بين فنزويلا والصين اختصار شهرين من زمن الرحلة. ويمكن للسفن المتنقلة بين شنغهاي وبالتيمور اختصار 4000 كلم مقارنة بالرحلة على قناة السويس، واختصار 7500 كلم بالمقارنة مع الرحلة حول رأس الرجاء الصالح.» صحيفة الشعب اليومية اونلاين-الصين، 24/12/2014
الامر نفسه بالنسبة للنقل بين مقاطعات الولايات المتحدة ذاتها عند نقل البضائع من شرقها الى غربها او بالعكس، خصوصاً المقاطعات الواقعة جنوب البلاد
– اقامة مناطق اقتصادية حرة صينية تحديداً على جوانب القناة كما هو الحال في قناة السويس مما يساعد على تسهيل وتنشيط التجارة
– حضور لـ«المحور الشرقي» في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة الاميركية والذي يمكن وضعه ضمن الخانة السياسية وليس فقط الاقتصادية
– «فك الطوق» الذي تحاول الولايات المتحدة تكبيل الصين به، لمنع صعودها او التخفيف منه، بغية ترتيب اوراقها مستقبلاً، خصوصاً ان اشارات على قيام الصين بشراء اراضٍ في استراليا يصب في هذه الخانة.
آثار مترتبة على المشروع
يوجد عدد من الآثار التي يرتبها المشروع، منها ما يخص نيكاراغوا، ومنها ما يخص جيرانها مثل بنما، ومنها ما يخص الوضع الدولي والتنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والقوى الصاعدة.
في ما يخص نيكاراغوا، يمكن الحديث عن عدد من الامور، اهمها:
– امكانية استثمار الولايات المتحدة للاعتراضات الداخلية سياسياً لوأد المشروع من الداخل. فلقد واجه المخطط العديد من المعارضات الداخلية. فقبل التصويت على الاتفاقية «تجمع العشرات من المتظاهرين أمام مبنى البرلمان حاملين لافتات تنتقد أورتيغا بسبب ما قالوا إنه بيع للوطن» موقع شعب مصر، 15/6/2013
– ان الرئيس النيكاراغوي دانيال اورتيغا كان احد زعماء السندينيستا، وهو بذلك يعدّ تهديداً طبيعياً وتلقائياً للولايات المتحدة، مما يعرّضه للاغتيال كنظيره البنمي عمر توريخوس عام 1981، بقنبلة وضعتها المخابرات الاميركية على متن طائرته، بعد 4 سنوات من توقيعه اتفاقية كارتر- توريخوس عام 1977 جون بركينز، اعترافات قاتل اقتصادي والتي بموجبها تمت استعادة القناة الى سيادة بنما بهدف اعادة التفاوض مع خلفه مانويل نورييغا الذي كان يلقى دعماً أميركياً قبل ان يصبح أحد السجناء في الولايات المتحدة
– سيحرم المشروع آلاف المزارعين من أراضيهم وسبل معيشتهم، ووفقاً لرأي المحلل السياسي أدريان سالبوتشي فإنّ «الولايات المتحدة قد تستغلّ هذا الوضع» أيضاً». وقال سالبوتشي ان «الحديث يدور حول مشروع واسع النطاق يقتضي نقل الكثيرين». ووفقاً لبعض التقديرات فسوف يتمّ نقل حوالي 30 ألف مزارع. كما أنّ بناء القناة سيؤثر على الطبيعة» روسيا اليوم، 26/12/2014
– يتمّ الحديث عن خطر بيئي حقيقي لجهة بحيرة نيكاراغوا التي ستعبر فيها السفن بمسافة 105 كلم من اصل 278 إجمالي طول القناة، والتي تعتبر من أكبر البحيرات العذبة في القارة الاميركية وهي تؤمن مياه الشفا والري. لذلك، حذر خبراء البيئة من ان القناة يمكن ان تقضي على البيئات الطبيعية الحساسة وتعكر مياه البحيرة سويز انفو، 24/12/2014
– الخوف من تخالط مياة البحر المالحة مع المياه العذبة الموجودة في البحيرة ما يضرّ بالمزروعات. وهذا التحذير ما زال قائماً بالرغم من انّ المشروع يلحظ إقامة سدّين على بابي القناة لمنع ذلك، وبرغم من تطمينات الرئيس اورتيغا ومحاولته تبديد تلك المخاوف من خلال تصريحه بأنه سيتمّ تكرير مياه السدود ثلاث مرات، لكن الخوف يقع من عدم القدرة على ذلك بسبب كثافة حركة المرور المتوقعة
– المشروع سيقضي على 400 الف هكتار من الغابات مكان مرور القناة، مما سيزيد الأزمة البيئية.
اما على صعيد بنما، فلقد أعلن مدير سلطة قناة بنما خورخي كويغانو، أنّ قناة نيكاراغوا، التي يبدأ بناؤها الاثنين، قد تحرمُ قناة بنما 30 في المئة من حركة الملاحة البحرية التي تعبرها. واضاف كويغانو بأنّ «التقديرات التي قمنا بها في شأن قناة نيكاراغوا تظهر أنها قد تستحوذ على نحو 30 في المئة من سوقنا، لأنَّها أقرب إلى الولايات المتحدة.» سكاي نيوز عربية، 27/12/2014
اما الآثار الكبيرة فستترتب على الصراع الدولي المتنامي بين الولايات المتحدة من جهة، ومحور شنغهاي من جهة اخرى وتحديداً الصين وروسيا.
لذلك، تسعى الصين من خلال هذا المخطط الى عدة امور:
التوفير في النقل والوقت بإتجاه السوق الاميركية والتي تعتبر السوق الأكبر لمنتجاتها حيث يتمّ تصريف ما يقارب 30 في المئة منها ضمنه. وهذا الأمر يجعل قدرتها التنافسية تزيد بسبب تناقص تكاليف النقل والوقت
المشاريع التي ستقام على القناة ستكون الإفادة الكبيرة منها للصين مما يشكل عائدات مالية اضافية لها
توسيع اضافي للأسواق في القارة اللاتينية
انشاء مناطق اقتصادية حرة على القناة لكي تكون جزءاً من «خيط اللؤلؤ» الاقتصادي والذي يمتدّ من شنغهاي الى القرن الافريقي وصولاً الى البحر المتوسط
استثمار القناة لمدة مئة عام قد يسهّل فك الطوق المفروض عليها وخروجها من «حزام الاناكوندا» البري
تقليص المسافات بين دول «بريكس» البرازيل إحداها مما يعزز العلاقات بينها ويمتنها
السماح للصين بالتمدّد العسكري البحري لناحية المحيط الهادئ لحماية مصالحها الاقتصادية.
ضمن نفس السياق، قامت روسيا بتفعيل علاقتها مع نيكاراغوا، إذ زار الرئيس فلاديمير بوتين العاصمة ماناغوا والتقى الرئيس اورتيغا، وأفاد ديميتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للرئيس الروسي، أنّ الرئيسين تناولا أثناء لقائهما عدداً من الأمور أهمّها «تصدير المعدات الزراعية الروسية وبناء مصانع لتصليحها في نيكاراغوا وتصدير القمح الروسي، ومسألة نشر محطات «غلوناس» البرية الروسية للملاحة وتحديد المواقع في أراضي البلاد، وكذلك تعاون البلدين في مجال الأمن.» روسيا اليوم، 12/7/2014
من الواضح انّ «التناغم» الروسي- الصيني سيثمر تعاوناً في هذا المشروع ولو بشكل غير مباشر، في ظلّ العقوبات المفروضة على موسكو، وهذا ما سيضاعف من «القلق» الاميركي تجاه القناة.
في المقابل، يعتبر المشروع تهديداً للأمن القومي الأميركي خصوصاً مع خروج القناة عن سيطرتها الفعلية. ظلت قناة بنما لسنوات «قاعدة للتدخل» فى شؤون كثير من دول أميركا اللاتينية فمن خلالها «انطلقت القوات الأميركية للتدخل فى هايتي وغرينادا، ثم تحوّل الأمر إلى التدخل فى بنما نفسها عام 1989، وذلك عندما قبضت على رجل بنما القوي ورجل وكالة المخابرات المركزية مانويل نورييغا وتمّ إيداعه السجون الأميركية،» ولقد شكل «هذا الانسحاب هواجس عديدة لدى كثير من الأميركيين لدرجة أنّ إحدى المؤسسات القضائية المحافظة فى الولايات المتحدة قدمت طلباً إلى المحكمة العليا الأميركية لوقف تسليم قناة بنما إلى السلطات البنمية وهو ما رفضته المحكمة العليا الأميركية.» هشام بشير، الانسحاب الأميركي من قناة بنما
لقد كان لواشنطن حق التدخل العسكري لحماية القناة في حال تعرّض امن احديهما للخطر. اما بالنسبة لقناة نيكاراغوا، فالامور مختلفة تماماً.
تعلم أميركا جيداً أنّ المصالح الاقتصادية تستجلب معها التواجد العسكري، فهي «لعبة» تتقن قواعدها، واعتادت على ممارستها بحجة تهديد مصالحها تارة التواجد في الخليج العربي ام امنها طوراً حربا افغانستان والعراق .
في الختام، هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها: هل ستصبح القناة «حصان طروادة» في الخاصرة الاميركية؟ وكيف سيكون ردّ فعل واشنطن على هذا المشروع؟ وما هي الخطوات التي قد تتخذها لمواجهة أي تقدم شرق على «مجالها الحيوي»؟ وما هي نِسب نجاحها؟!
اسئلة قد تجيب عنها الأيام المقبلة.
باحث في العلاقات الدولية