الدين والدولة بين الوصل والفصل والمطابقة والمراوحة 1
د. حيدر حاج إسماعيل
يبدو أن ثمة فراغاً عقيدياً واسعاً موجوداً في طول العالم العربي وعرضه دفع شعوبه إلى العودة إلى دفتر الحسابات العقيدية القديمة عامة والكتب العقيدية الدينية بخاصة لملئه، بغية توحيد الصفوف وخلق الجبهات القادرة على صدّ المؤامرات الأجنبية العسكرية منها والفكرية!
لن نخوض، في بحثنا الحالي، في مسألة تحليل أسباب ذلك الفراغ العقيدي المخيف حقاً وظروفه، لكننا نكتفي بأن نسجّل الإشارات الآتية التي تصلح أن تعتمد، هي وغيرها، في بحث خاص في المستقبل:
أ ـ سقوط جميع الجبهات العسكرية والسياسية والإعلامية في الحرب مع العدو الصهيوني ممثلاً بدولته الاغتصابية لفلسطين، «إسرائيل». وما نجم عن تلك الهزائم من زعزعة في الثقة وخلخلة في أي أمل بقدرة البشر على تحقيق الفوز المبين.
ب ـ فشل الأنظمة السياية في العالم العربي في برامجها الاقتصادية وظهور أفواج واسعة من العاطلين عن العمل والفقراء. والفقر ملّة واحدة.
ج ـ إنهيار الأنظمة الاشتراكية في العالم بانهيار الاتحاد السوفياتي.
د ـ نجاح التجربة الإيرانية الدينية.
هـ ـ الأموال الكبيرة التي تصرفها بعض الدول العربية وغيرها على بعض التيارات والمؤسسات الدينية.
و ـ الضعف النسبي للحركات العلمانية في المنطقة العربية، على الصعيد الشعبي.
تلك الأسباب والظروف أفقدت الناس الإيمان بقدرة الأرض وأهلها على الإنقاذ فاتجهت العقول، كما يبدو، نحو السماء وكتب السماء. فصرنا نجد الحركات الأصوليّة يدها الأقوى في طول العالم العربي وعرضه.
نحن نعتقد أن تلك الحركات ليست سوى ردّ فعلٍ ليس له مقومات للثبات في عصر صارت الجبهات فيه جبهات أمم وليست جبهات أديان، والصراع فيه أصبح صراع مصالح قومية وليست صراع مؤمنين ضد كافرين.
هذه الحقيقة العصرية لم تقدر الحركات الأصولية على التنكر لها، لكنها، بالنسبة إليها، ما زالت مظهراً وليست الجوهر. من هنا اعتقادنا بعدم قدرة تلك الحركات على البقاء إلا إذا تحوّلت إلى حركات قومية عصرية من طراز ممتاز وهو الأمر المستحيل في نظرنا.
مع ذلك، مع كل الذي ذكرناه، نرى أن موضوع الدولة الدينية مطروح في هذه الأيام بقوة حتى في المجتمعات التي لا يتمتع أفرادها بتجانس مذهبي مثل مجتمعنا السوري في الهلال الخصيب.
وإذا كان المجتمع المتجانس مذهبياً، في قطر من الأقطار، لا يضرّه كثيراً العزف على وتر الدولة الدينية أو حتى إقامتها فإن المجتمع المتعدد المذاهب يقسمه منطق الدولة الدينية شرّ قسمةٍ ويبعثر قواه ويتركه لقمة سائغة للإرادات الأجنبية الاستعمارية الطامعة. والحق يقال، إن للدولة الدينية منطقاً خاصاً له عجائب سبع نذكرها في ما يأتي:
1 ـ إذا كانت الدولة الدينية حقاً، فإن كل جماعة دينية لها الحق في إقامة دولتها الخاصة بها. وهكذا تكون النتيجة إقامة دولة دينية سنيّة ودولة دينية شيعيّة ودولة دينية درزية ودولة دينية علويّة ودولة دينية مارونية ودولة دينية أورثوذكسية إلخ، في المجتمع متعدّد المذهب. وتكون النتيجة الأخيرة تفتيت المجتمع وزجه في حروب دينية ما يعني انهياره الكلي وانعدامه.
2 ـ ومنطق الدولة الدينية يفيد أيضاً ما يأتي: بما أن لكل جماعة دينية الحق في إقامة دولتها الدينية المستقبلية، وبما أن اليهود جماعة دينية، إذن يحق لليهود إقامة دولتهم الدينية المستقلة! وهذا معناه أن منطق الدولة الدينية سيقود أصحابه إلى الاعتراف بـ«دولة إسرائيل»، دولة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين والمحتلة لجزء من جنوب لبنان والجولان!
3 ـ ومن عجائب الدولة الدينية إدّعاء أهلها بأن الدولة لها سيادة على أرضٍ معينة أو قطر محدّد تزعم أنها تملكه، وأن لا إرادة إلاّ إرادتها فاعلة فيه. في حين أن الدين يقول بأن الملك هو ملك الله وحده وأن لا شريك لإرادته في الدنيا والآخرة.
4 ـ والدولة الدينية، إذا وجدت، يجب أن تكون مثل الدين. فإذا كان الدين للعالمين أو عالمياً، فيجب أن تكون الدولة الدينية عالمية. لذلك فإن كل دعوة لدولة دينية محددة في قطر معين ليست إلاّ تفصيلاً للمنطق الديني على غير مبدئه العالمين.
5 ـ إنّ الدولة الدينية من صنع البشر. فهناك في تاريخ الإسلام المحمدي، على سبيل المثال، دولة الخلفاء الراشدين، وهناك دولة الأمويين، ودولة العبّاسيين، ودولة الفاطميين، ودولة العثمانيين وغيرهم. مع ذلك يدّعي أصحاب الدولة الدينية أن تلك الدول التي قامت ودالتْ زالت هي من صنع الله!
6 ـ ثم، يريد دعاة الدولة الدينية أن يؤسّسوها على الكتب المقدّسة، في حين أن معارف تلك الكتب روحيّة وتهذيبيّة وتشريعها مدني وليس سياسيّاً.
7 ـ والدولة الدينية هي عربيّة عند العرب وغير عربيّة عند غير العرب. لذلك نجدها تنتج خلافاً في حين أن الدين جوهره الوفاق.
من كل ما تقدم نحصّل النتائج الآتية:
أ ـ إن تطبيق نظرية الدولة الدينية في مجتمعنا السوري في الهلال السوري الخصيب جريمة يجب منع تنفيذها.
ب ـ إن دعاة الدولة الدينية يدعمون من حيث يدرون أو لا يدرون بقاء الدولة الصهيونية «إسرائيل».
ج ـ إن رجال الدين في الدولة الدينية مهما بلغوا من «العلوم الدينية» لا يقدرون على السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات والتكنولوجيا المتقدمة ومختلف فنون الإرادة والمحاسبة والإحصاء والتخطيط العلمي المستقبلي، وغيرها من متطلبات الدولة الحديثة. لذلك يجب الفصل بين الدين والدولة، ومنع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة القومية والقضاء القومي الذين يجهلونهما ولا يقعان في دائرة اختصاصهم.
سعاده والدين
في خاتمة الفصل السادس من كتاب «نشوء الأمم» يقول سعاده إن القومية هي الدين الاجتماعي الجديد الذي أصبح أساس الدولة الحديثة. هذا بالضبط قول سعاده:
«عند هذا الحد نقف في استعراضنا نشوء الدولة وتطورها لننتقل إلى درس الأمة والقوميّة لنعرف حقيقة هذا المتحد الاجتماعي وأهميته التي أصبحت دين البشرية في العصور الحديثة وغطّت شخصيتها القوية الفعّالة على شخصية الدولة» 2 .
السؤال الذي ينشأ الآن هو الآتي: هل يقصد سعاده بالدين الجديد أن يكون بديلاً من الأديان السماوية؟
الجواب هو النفي. ففي رسائله إلى غسان تويني المنشورة في كتاب «شروح في العقيدة» وفي كتاب «الإسلام في رسالتيه» يحدِّد سعاده الدين بأغراض ثلاثة هي:
1 ـ إحلال الاعتقاد بالله محل عبادة الأصنام.
2 ـ فرض عمل الخير وتجنب الشرّ.
3 ـ تقرير خلود النفس والعقاب والثواب الحشر 3 .
المعنى الواضح لهذا التهديد للدين هو إخراجه من دائرة الاجتماع والسياسة. الدين في قراءة سعاده له هو صفة الفرد وليس صفة الدولة أو الأمة.
الفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين شأناً فردياً خصوصياً يؤكدها سعاده في رسالته الثانية إلى غسان تويني. يقول سعاده، وكان في معرض مناقشة وضع فخري معلوف الذي انقلب كاثوليكياً متعصّباً، ما يأتي:
«فلم يرقْ لي أن تفرض عليّ المواقف والنظريات فرضاً، ولا رأيت الفرصة مناسبة لترك متابعة قضايا نهضتنا القومية الاجتماعية ومسائل حركتنا السياسية والاقتصادية والحقوقية والإدارية وغيرها والخوض في قضايا لاهوتية قررنا أنها من شؤون الوجدان الفردي الخاص التي يجب أن لا تثير وأن لا نسمح بأن تثير قضية اجتماعية سياسية» 4 .
ثم يضيف سعاده محدّداً مبدأ منهجياً في النظر إلى الأمور، فيقول: «لا يمكننا ونحن نبغي الصحيح أن ننظر إلى الدين بمنظار سياسي ولا إلى السياسة بمنظار ديني. يحسن أن يكون الإنسان مؤمناً في الدين ولا يحسن أن يكون مؤمناً في السياسة».
وبالنسبة إلى حريّة الاعتقاد تكون المسألة واضحة كالبلّور عندما يذكر سعاده لغسان تويني مقطعاً من رسالة جوابيّة كان قد أرسلها إلى فخري معلوف أكّد فيها على مبدأ حرية الاعتقاد الديني وحرية التعبير عنها بالكتابة والنشر، يقول سعاده:
«ولا تنسوا أيضاً أن الحزب لم يمنع أحداً قط إظهار معتقداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته، فيمكنكم أن تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحشر والحساب وليوافقكم على ذلك من شاء وليخالفكم من شاء» 5 .
خلاصة استقرائنا هي في أن سعاده حصر الدين في المسائل الغيبيّة فدائرته هناك ويجب أن تبقى هناك. أما الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية للدولة القومية الاجتماعية فهي من اختصاص هذه الدولة لا غيرها. يقول في هذا الصدد:
«ضمنت العقيدة القومية الاجتماعية لجميع أفراد المتّحد وأعضاء الدولة القومية الاجتماعية حرية الاعتقاد الخارج عن حدّ العقيدة القومية الاجتماعية وحرية الضمير والجهر بالمعتقدات بشرط المحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي تمّم به إرادة الأمة وغرض الدولة، وحرية العمل الاجتماعي لممارسة طقوس المعتقدات المتعلقة بما وراء المادة بشرط أن تلزم هذه الأعمال حدودها ولا يكون غبار على أنها لا تتعدّى تلك الحدود إلى ما هو من شؤون الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية وإلى القول بحرمان أعضاء الدولة وأفراد المجتمع الذين هم من معتقد مخالف من حقوقهم المدنية والسياسية، وإلى محاولة فرض أشكال سياسية خصوصية للدولة وشروط خصوصية لنظامها السياسي» 6 .
ويعود سعاده إلى تحديد الدين تحديداً مقارناً لتحديده له في كتاب «الإسلام في رسالتيه» فيقول في الرسالة الثانية نفسها لغسان تويني:
«القصد من كل هذا التوسّع أن يرى فخري معلوف أنه يسير ضدّ المبادئ القومية الاجتماعية وضد قواعد دينية مقررة بإثارته خلافاً لا مبرّر له ولا داعي عليه بين العقيدة القومية الاجتماعية التي لم تتعرّض للدين وعقائده والعقائد الدينية غرضها خلود النفس بعد ارتحالها عن هذه الدنيا في مقامين مختلفين: مقام النعيم ومقام الجحيم» 7 .
هذا بالنسبة إلى رأي سعاده في الدين.
سعاده والدولة الدينية
بالنسبة إلى الدولة الدينية عامة، نقول، منذ البداية، إن سعاده يعتبرها «أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية». فالمجتمع متعدّد المذهب كمجتمعنا سيكون مصيره التمزق فالانهيار، إذا ما اعتمد مبدأ الدولة الدينية. فلا القومية ولا الدولة القومية تتأسسان على الدين 8 .
بالنسبة إلى الدولة الدينية الإسلامية المحمدية خاصة، يحدد سعاده موقفه بقوله إنها كانت واسطة الدين وليست غايته وإن دورها انتهى بتحقيق الدين، يقول:
«ولما كان قصد رسالة محمد الدين وليس السياسة أو فلسفة الاجتماع التي ترتقي بالعلوم الاجتماعية فلا بدّ من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية، وإن قيمتها لا يمكن أن تكون، من الوجهة الدينية، أكثر من قيمة واسطة. وبناءً عليه تكون الدولة الشيء الثانوي القابل للزوال عندما لا تبقى حاجة إليه شأن كل آلةٍ أو واسطةٍ أدّت الغرض من وجودها» 9 .
وربّ سائلٍ: ما دام سعاده يقرّ بوجود دولة إسلامية محمدية، أليس يعني ذلك إقراراً منه بوجود دستور قرآني لها؟
الجواب هو النفي. ففي كتاب «نشوء الأمم» يقول سعاده الكلام الآتي الواضح الذي لا جمجمة فيه: «لم يترك محمد دستوراً للدولة، فهو قد أتمّ الدين ولكنه ترك الدولة تهتم بمصيرها» 10 .
لذلك فإن دولة محمد لم تكن دولة بالمعنى السياسي الدستوري الدقيق، وإنما بمعنى بسيط هو معنى القوة القادرة. وسعاده يكمل وجهة النظر هذه في المصدر نفسه عندما يقول: «إن الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية» 11 . ويقول إن الدولة الأوليّة تقوم على مبدأ القوة الفيزيائية، والدولة التاريخية كان أساسها الملك والدين بالإضافة إلى القوة الفيزيائية، وأما الدولة الحديثة فتقوم على مبدأي القومية والديمقراطية المتجانسين.
نخلص مما تقدم إلى القول بأن سعاده يرفض إقامة دولة دينية لأن وظيفتها انتهت ولم يبقَ لها سوى القيمة المتخفية للدرس ومعرفة تطور الاجتماع البشري، ولأن تطبيقها في زماننا معناه الانقسام فالموت الاجتماعي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لأن الدولة، بمعناها العصري، تعدَّت وجود خليفة أو أمير على رأسها مع حاشية، إلى أن غدت مؤسسات اختصاصية في سائر العلوم والفنون، بالإضافة إلى صيرورتها ديمقراطية.
الهوامش:
1 المقصود بالوصل مفهوم حركة الإخوان المسلمين مثلاً، والفصل المفهوم العلماني للدولة والمطابقة اعتبار الدين هو الدولة والدولة هي الدين، وأوضح ما تجلّى ذلك عند العلاّمة محمد حسين فضل الله رحمه الله ، وهذه شهادته التي ذكره في مقابلة أجرتها معه جريدة «الخليج» ونشرت في 28/6/2013. يصف الشيخ العلاقة بين الدين والسياسة بمستوى علاقة المطابقة. يقول: «إن مسألة الفصل بين السياسة والدين تشبه مسألة أن تفصل الشيء عن ذاته أو أن تفصله عن عمقه». ومعنى ذلك واضح، فهو يرفض مبدأ العلمانية القاضي بفصل الدين عن الدولة، وهو، وبصراحة جميلة، يربط بين الدين والسياسة ربطاً قوياً، جوهرياً، مفيداً أنّ وجود الدين وجود السياسة وعدمه عدمها.
ولكي يثبت الشيخ السيد فكرته، يذكر ما يأتي: «لأن المفهوم القرآني للهدف الأساسي من الرسالات حدّدته الآية الكريمة التي تقول: «ليقوم الناس بالقسط … »، ويمضي شارحاً فيقول: «معنى ذلك أن إرسال الرسل وإنزال الكتب كان من أجل مهمة أساسية في حياة الناس لأنها تتصل بطبيعة الحكم في أي موقع من المواقع». إذن، الحجّة التي يقدمها السيّد هي حجّة العدل. وكأني به قائلاً: بما أن العدل أساس المُلْك، والقرآن يأمر بالعدل، إذاً هو يأمر بالمُلْك أو الدولة.
2 سعاده، أنطون: الآثار الكاملة 1، نشوء الأمم، ص 131.
3 سلسلة النظام الجديد، 5: الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، ص 111 وص 168.
4 كتاب «شروح في العقيدة» ص 38.
5 المرجع السابق نفسه، ص 38 ـ 39.
6 المرجع السابق، ص 47.
7 المرجع السابق، ص 49.
8 كتاب المبادئ: المبدأ الإصلاحي الأول: «فصل الدين عن الدولة».
9 كتاب الإسلام في رسالتيه، ص 196.
10 نشوء الأمم، ص 126.
11 المرجع السابق، ص 127، وفي تقسيمه للدولة في الفصل السادس من كتاب نشوء الأمم.