الدرع السعودية تتشقّق

د. وفيق ابراهيم

ليس من قبيل المصادفة أن يجري تشبيه مملكة آل سعود بسلحفاة مدرّعةٍ، فهي مثلها بطيئة، لكنها محمية بدرع لا تنكسر إلا حين تتشقّق. والمصادفة الأخرى أنّ أقدم سلفٍ معروف لآل سعود كان يُكنّى بأبي درع. وبلدتهم الأولى في هضبة نجد أسموها الدرعية أيضاً، تيمُّناً بها.

هذه معلومات قد لا تضيف إلى السؤال السياسي، وهو: هل بدأ أوان تشقّق الدرع السعودية؟

لذلك يتوجب بداية تحديد مصادر القوة التي يتمتع بها آل سعود للحكم على متانة مملكتهم. وللتذكير فإنّ هذه المملكة كيان سياسي ناشئ تأسّس في ثلاثينات القرن الفائت بعد عدة محاولات خائبة لأسلافهم في القرن التاسع عشر.

ما هي عناصر قوة المملكة إذاً؟

أولاً، القوة الاقتصادية: فالمملكة أكبر مصدر للنفط في العالم تبيع 9.7 مليون برميل يومياً، وهي على استعداد لرفع الكمية إلى مستويات قياسية لأنها البلد الأول في احتياطاته، وتزيد إيرادات المملكة منه عن 300 مليار دولار سنوياً، وقد تدنّت بنسبة 60 في المئة بعد انخفاض الأسعار. ولدى المملكة أيضاً مناطق واسعة جداً لم تُكتشف بعد ويُرجَّح أنها تحتوي على مختلف مصادر الطاقة والمعادن. إنّ السعودية رهينة الريع النفطي بمعدل يفوق التسعين في المئة من موازناتها، وقد كوّن آل سعود فائضاً أودعوه مصارف أميركا وأوروبا ويفوق الثلاثة آلاف مليار دولار وربما أكثر.

ثانياً، القوة الدينية: تضمّ السعودية الحرمين الشريفين والمدينة المنوّرة ومواقع الصحابة والأولياء والشعراء الجاهليين ومختلف المراحل الإسلامية ومعظم التراث الإسلامي، ما يمنحها سلطات كبرى، أقلها الإشراف على تنظيم موسم الحج. وقد منحها هذا الوضع علاقات واسعة بالعالم الإسلامي، فاخترقت وأسّست علاقات هائلة مع المدارس والجمعيات الدينية والمساجد والمذاهب الكبرى، وأصبح لها الكلمة الفصل في تحريكها والاستناد إليها في نفوذها.

وهنا تستعمل الرياض مرجعيتها الدينية للتقريب ونفوذها المادي للإقناع. وينبغي لفت الانتباه إلى أنّ القوة الدينية أقوى من القوة الاقتصادية عند آل سعود.

ثالثاً، القوة الأمنية: لدى المملكة قوى عسكرية وأمنية لها مهمّات حصرية داخلية، تكفي للتعامل مع الاضطرابات الداخلية مهما بدت قوية، يُضاف إليها جهاز «المطاوعة» المسؤول عن تطبيق نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بما يشبه دور شرطة أخلاق إسلامية.

رابعاً، العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تربطها بالسعودية معاهدة كوينسي التي عقدها عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت على متن طرّاده كوينسي عام 1945، وكانت صالحة لغاية 2005 وجرى تجديدها للعام 2065. وتنصّ المعاهدة على أن تتعهد الولايات المتحدة الأميركية بحماية أمن السعودية، مقابل أن تتعهد الأخيرة باستمرار تدفّق النفط إلى العالم الغربي. ولم تتوقف مفاعيل هذه المعاهدة عن العمل منذ تأسيسها دقيقة واحدة.

خامساً، التحالفات الدولية والإقليمية والعربية: في هذا الإطار، ترتبط الرياض بتحالفات أقلّ شأناً من تحالفها مع الأميركيين، لكنها تعوّل على النفوذ الفرنسي ـ البريطاني والألماني ولها علاقات جيدة مع كلّ دول الجوار، باستثناء العراق واليمن وإيران.

أمام هذا العرض، ما الذي يخيف السعودية ويسبب لها أرقاً؟ هناك عدة ملفات، أولها الملف النووي الإيراني الذي كاد يخرج من القمقم لولا الصراخ السعودي المدعوم من «إسرائيل» واللوبي السعودي القوي في مجلسي الشيوخ والبرلمان في آنٍ معاً. لذلك تجد واشنطن نفسها في وضع لا تُحسد عليه، فهناك عرض إيراني فعلي يثبت عدم امتلاك طهران أي إمكانات نووية، ووكالة الطاقة النووية متأكدة من هذا الموضوع، لكنّ عدم الوصول إلى اتفاق كامل بين دول الخمسة زائد واحد مع إيران، يجعلنا نقرأ دوراً سعودياً و«إسرائيلياً» يفرض على أميركا الحذر في هذا الموضوع، لكن إلى متى؟

إنّ إيران حاجة أميركية لإعادة تموضع قواتها في بحر الصين. قد يبدو الأمر غريباً، لكنّ الحقيقة هي أنّ طهران خليفة الصين، ويؤدي تكتل روسيا معهما إلى ولادة المحور الأقوى في العالم، وهو ما تحاول واشنطن منعه.

وبالعودة إلى التدبُّر السعودي الذي يندرج في إطار نظام «المعاملات»، قدمت السعودية نفسها في مرحلة التأسيس، «دولة وهّابية» مضطرة لإحداث تعديلات، مراعاة للعلاقات الديبلوماسية مع الغرب، وتصدّت لغلاة الوهابية بالعنف تارةً وبالمال طوراً، حتى طوّعتهم وجابهت صعود الخط القومي مع عبد الناصر و«البعث» برفع شعار «الأمة الإسلامية»، ولم يهنأ لها بال إلا بعد هزيمة عبد الناصر في 1967، وقد اقتصرت الكلفة على أضرار مالية فقط، بالإمكان استعادتها مع كلّ قفزة للذهب الأسود.

ورفعت السعودية شعار الجهاديات الإسلامية في وجه الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ودعمتها بالمال والتدريب والسلاح إلى أن سقط الاتحاد السوفياتي وانهارت دولته. إنها لعنة «الإسلام»!

ولا بدّ بعد هذا العرض من السؤال: أين تشققت الدرع السعودية؟

تشقق بعدة عوامل أولها تأثير دول الجوار عليه، فالعراق يُعاد تجميعه على نحو لن يرضي آل سعود، ولو أعيد تجميعه في الرياض لن يختلف عن الموجود حالياً. والمشكلة عند السعوديين هي أنّ الشيعة يشكلون 65 المئة من سكان العراق و75 في المئة من العرب فيه، وأي معادلة لن تكون سارية إلا إذا أرضتهم.

أما اليمن، فهو جار مزعج آخر لم تنفع تدخلات الاستخبارات السعودية في إلحاقه بالرياض، ولن تعارض حتى طهران تقسيمه إلى دولتين هما صديقتان لها في الشمال والجنوب.

وفي ما يخصّ البحرين، تحتاج السعودية إلى نشر قواتها في الجزيرة وقوى أصدقائها الأردنيين والإماراتيين والقواعد الأميركية والبريطانية لتحميه، لذلك يزداد القلق السعودي على أوضاع هذا البلد.

أما الكويت وعُمان، فهما يتجهان إلى إقامة علاقات ديبلوماسية مع سورية، مع ما يعنيه ذلك من سقوط سياسة العزل السعودية.

إنّ تراجع التدخل العسكري الأميركي المباشر في العالم والاستعانة ببدائل إقليمية، يصيب آل سعود بالذعر، لذلك يريدون تأكيداً على استمرار معاملتهم بموجب معاهدة «كوينسي».

ولا يجب إغفال حركات التمرد في الداخل السعودي، ومدى اختراق «داعش» و«النصرة» والقاعدة لمناطقه. من جهة أخرى، تتوهم السعودية أنّ إيران تتحين الفرصة لاجتياحها، لذلك تنبِّه يومياً، إلى أخطارها وتدعو دول العالم إلى الاهتمام بها.

يبقى أنّ الداخل السعودي الذي أصبح متصلاً بثورة المعلومات والتواصل، يريد حركة تغيير قد تُنهي هذه المملكة القرون أوسطية، لكي يذهب الطغاة ولا يبقى إلا أصحاب المصلحة الحقيقية في تحرير السعودية من هيمنة القرون الوسطى والعصر المملوكي ونظام الحرابة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى