الخاطرة، الشذرة والومضة: أية حدود؟
} الحبيب الدائم ربي*
} حدود الإبداع وحدود النقد:
لقد بذل أرسطو مجهوداً استثنائياً في رسم الحدود النظريّة بين الأجناس الأدبيّة الكبرى القديمة، مع تركه خانة فارغة ستحتلها الرواية في ما بعد، وسيتولّى من بعده فلاسفة ومنظّرون آخرون البحث في الخصائص النوعيّة لكل جنس أدبي على حدة. مع ما تطرحه هذه المهمة من صعوبات منهجيّة وإجرائيّة، وذلك لدينامية الفعل الإبداعي، من جهة، وانضواء أنواع تفريعيّة رجراجة التكوين ضمن أكثر من جنس في آن. فضلاً عن كون التجنيس لا يرتهن إلى ما يحايث النصوص من أنظمة تركيبية وبنائية، وحدها، وإنما يخضع كذلك إلى حيثيات سياقية. فإذا كانت الملاحم، مثلاً، لسان عصر تحققت فيه الكلية Totalité أي ساد فيه التناغم بين الذات الفردية والذات الجماعية، حيث حضرت الأجوبة قبل الأسئلة، فإن التراجيديات كانت مؤشراً على الشرخ الذي أصاب هذه الكلية فوجد الفرد نفسه خارج «الحقب السعيدة»، داخلا في صراع مع قوى غيبية ساحقة لا سبيل إلى مواجهتها إلا ببطولات شبه انتحارية. وهكذا انطبع كل عصر بما شكلَ لديه «لسان حال». فكانت الرواية ملحمة بورجوازية (حسب تعبير جورج لوكاش) والقصة صوتاً للمهمشين والفقراء، وهكذا. بمعنى أن هناك أسياقاً شارطة قد تتحكم، بشكل أو بآخر، في هيمنة جنس أدبي على غيره من الأجناس. ولربما يكون لموت السرديات الكبرى، أثر في إفساح المجال لفنون أدبية جديدة، كان من ضمنها الأدب الوجيز، بما هو «هويّة إبداعيّة تجاوزيّة» تستجيب لمتطلبات اللحظة الراهنة، كما يؤكد ذلك الأستاذ أمين الذيب في وثائق التأسيس.
إن الأشراط السوسيوتاريخيّة والثقافيّة المترتبة عن تسارع وتيرة الإحساس بالزمن الذي صاحب الثورة الرقميّة، كان من نتائجه جيل رابع من المنمنمات والمضغوطات والمختزلات والأشكال التعبيرية الحديثة، من ضمنها الأدب الوجيز الذي ينهل من نسوغ تاريخية تم إخراجها من طبيعتها الحدسية والعارضة إلى ممارسة جديدة واعية بشروط اشتغالها ووظائفها، باعتبارها ضرورة فنيّة.
وإذا كان الإيجاز واضحاً، من الناحية النظرية، بما هو نقيض للإسهاب والترهّل والحشو والاستطراد. لذلك أطلق على تصريحات الزعماء الى وسائل الإعلام بـ»الإيجازات الصحفيّة». والأدب الوجيز هو الأدب الذي يتصف بخاصية الوجازة فإن الأجناس المعدودة ضمن هذا الأدب، وهي أجناس حديثة تظل، لتداخلها، عصية على التحديد. بل لم يستقر النقاد على تعريف موحد يجمعهم حولها. لاعتبارات منها:
ـ أن الحدود بين الأجناس الأدبية لم تكن مرسومة بدقة قط، وإنما هي معالم تتسع وتضيق حسب الأحوال، وكلما كانت النصوص موجزة ضاقت الحدود بينها أكثر.
ـ أن الانتقال من الجنس إلى النص إلى الكتابة، على مستوى الممارسة النصية، أربك فعل التصنيف لدى دارسي الأدب ونقاده الذين اطمأنوا، باستسلام، إلى ما سموه بـ»شعرية النص المفتوح».
ومع ذلك فإن التنازع الأجناسي لا يلغي الخصائص الجوهرية التي قد تصنع الفرق بين الأجناس مهما تجاورت أو تماهت مع بعضها بعضاً. ولعل مَن يتأمل التخارج والتعالق بين الخاطرة والشذرة والومضة سيدرك إلى أي مدى قد تتقاطع هذه الأشكال الأدبية من دون أن تتطابق تماماً. وهي إلى ذلك في حاجة إلى مزيد من التعريف والتحديد لإبراز تمايزاتها وتداخلاتها. علماً بأننا لسنا مطالبين، هنا، بإعادة التذكير بالتعريفات التي لا تجمع ولا تمنع، والتي يتم استنساخها دونما إضافة فعلية أو تدقيق وظيفي. فما يعنينا بالأساس، هو ما لا تكونه هذه الأجناس الثلاثة، لا ما هي.
} الخاطرة:
باستثناء «المعجم الوسيط»، وهو من المعاجم الحديثة، فإن مفردة «خاطرة» لم ترد بصيغة التأنيث في أي من المعاجم العربية القديمة، وإن كانت قد وردت بالتذكير «خاطر» بمعنى الهاجس أو السانحة التي قد ترد على النفس و الذهن. وهي مشاعر وأفكار تجول بالبال مقتضبة سريعة. إنها ما «يتحرك في القلب من رأي أو معنى (…)، يقال منه: خطر ببالي أمر، وعلى بالي، وأصل تركيبه يدل على الاضطراب والحركة». وهي وإن كانت في اللغة تعبيراً عن سلوك فإنها في الاصطلاح الأدبي جُنيس قائم الذات، قد يقترب من القصة القصيرة جداً ومن قصيدة الهايكو حد التماس والتلاقي لكنه يظل من الناحية الاعتبارية والتداولية أقلهما شأناً. ومع ذلك فهو لا يعدم قيمة في اقتصاديات الأدب والفن. ورغم أن الدكتور عزالدين إسماعيل رأى فيها فناً صعباً لا يخوض فيه إلا خبير بأدوات الصنعة الأدبيًة، بحيث قال «وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان. إلا أننا قد نختلف معه في هذا التقدير، لا لأن هذه الشروط لا محيد عنها في خوض كل الفنون والآداب وحسب، وإنما لأن ما يغلب على «الخاطرة» هو العفوية والبداهة. من ثم عنون ابن الجوزي كتابه «صيد الخاطر» مسجلاً فيه ما عنت له من سوانح. وهي في الملفوظ الأدبي ونقده تكاد تكون مرادفاً للذوق والهوى اللذين لا يتحرّيان التدقيق والتعليل. وهو التعريف ذاته الذي أورده «لمحة أو فكرة عارضة مؤقتة تختلج أو تعرض في النفس، ليست بحاجة إلى أسانيد أو براهين لإثبات صحتها أو صدقها»، بل إنها شكل ما «قبل أدبي» بالمقايسة مع الأشكال الراسخة كالقصة والقصيدة وسواهما. أي أنها لا تلزم صاحبها بشروط الدكتور عز الدين إسماعيل، وهي إلى ذلك تمرين تدريبي في الكتابة وليست «كتابة» إلا على سبيل المجاز. ما دامت «الكتابة» ـ كما تبلور مفهومها لدى رولان بارت وجاك ديريدا شكلاً مفكراً فيه بوعي مسبق، وممارسة لها نحوها الصارم والمخصوص.
لذلك فإن الخاطرة هي فعل خام يرد على بال المرء، أسواء قام بتدوينه أم لا. وهي إن دُوِّنتْ لا تشترط تدويناً عالِما بالضرورة، اللهم إلا إذا وُصفت بـ «الأدبية». حينها وجب على كاتبها أن يلتزم، لا بمقتضيات الخاطرة، بل بما يفرضه عليه الأسلوب الأدبي، من محسنات بيانية وبديعية وجمالية.
} الشذرة والتشذير:
يرتبط الشذر، لغة، بالذهب واللؤلؤ وكل ما هو ثمين. ورد في اللسان «الشَّذْر قِطَعٌ من الذهب يُلْقَطُ من المعْدِن من غير إِذابة الحجارة ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر». والشذر، في المجاز، لا ينأى عن هذا المعنى. وعليه فإن الشاذر، أي منتج الشذرة، يرمي جواهر الكلام لا سِقطه. وجواهر الكلم هي تلك التي يذهب فيها المتكلم إلى أقصى الممكنات في تصيّد شوارد المعاني وسوابكها. مما جعل أهل البلاغة حين يفرقون بين مدح بعض الشيء وذمه، حتى لو كان كلاماً، بقول «شذرة وبعرة». وكلتاهما حدّان ضدّيان في ثنائية الإتقان ونقيضه. لأن التشذير، من منظور نقدي، إبداع وجيز جداً يختلف عن نسقيّة ما هو معمول به في الخطابات التحليليّة أو الشارحة. مما جعل فريديرك شليجيل يصفه بكونه «شبيهاً بتحفة فنية لا بد لها أن تكون منفصلة عما يحيطها. ومنغلقة على نفسها كما قنفذ». وطوال تاريخ الفكر والأدب ظل الشاذرون خارج الإطار، أي مختلفين في رؤاهم وضد النمطية في التفكير والحياة. إنهم الفلاسفة والحكماء والمبدعون الخلصان والمجانين منذ عهد لاوتسو إلى اليومو لدى كل الشعوب. وما يجمع بينهم هو بلاغة النثر المصفّى جيداً من شوائب الإطناب.
} الخاطرة، الشذرة والومضة: في الاتصال والانفصال
علينا أن نعترف بأن الحدود الأجناسية، مثلها مثل القوانين، لم توضع إلا لتخرق. وهي بذلك لا تلزم إلا واضعيها من المنظرين والنقاد. والحدود وإن كانت تقيّد المبدع ضمن شرطيّة المؤسسة الأدبية والفنية، فإنه كثيراً ما يتحداها بفرض انزياحاته الخاصة في اللحظات القصوى. من دون أن يعني ذلك لا جدوى الحدود. وإنما بضرورة إعادة ترسيمها تبعاً لكل مستجدّ انزياحي.
صحيح أن هناك ترخصاً في تجنيس النصوص المتآخية تفرضه التقاطعات بينها كما تفرضه ترجيحات النقاد وسلطاتهم التقديرية اجتهاداً أو تقصيراً. لذلك شاع الخلط، مثلاً، بين الخاطرة والشذرة والومضة. وإذا كنا قد حاولنا فك الارتباط بين الخاطرة والشذرة فإنّه ينبغي علينا كذلك إبراز التمايزات بين هذين الجنسين الأدبيين من جهة والومضة من جهة أخرى.
ولعل أول ما تمتاز به الومضة هو كونها مفتوحة على الملفوظ اللغوي وكل التمظهرات الإشارية والإيقونية بينما تظل الخاطرة والشذرة مشدودتين إلى الحامل اللغوي. ولو أنه لا مانع يمنع الومضة والشذرة من الوميض، وإن كانت الشذرة إلى ذلك أقرب.
ليس غريباً أن يتم إطلاق أسماء مختلفة على الظاهرة الواحدة. لأن تمثل هذه الظاهرة يختلف باختلاف الزمان والمكان. فما يطلق عليه اليوم، في المجال الأدبي، الرواية القصيرة كان بالأمس القريب في عداد القصة الطويلة، وقصة اليوم القصيرة كانت تنتمي، حتى عهد قريب، إلى جنس القصة القصيرة جداً. هذا على الأقل بالنسبة للحجم. بيْد أن الأمر لا يتعلق بالطول والقصر وحدهما في الحكم على النصوص وتجنيسها. وهما وإن كانا مهمين فإنهما لا يكفيان للحسم في ذلك. ويسري هذا الحكم على «الومضة»، باعتبارها تمظهراً من تمظهرات «الأدب الوجيز». إنها قد تتداخل مع «الحكاية الصغرى» لكن الواحدة منهما لا تستغرق الأخرى. فإذا كانتا تشتركان في النهاية الحجم المضغوط والنهاية المشدودة الصادمة، فإنهما قد تختلفان في بعض التفاصيل الأخرى، فالومضة، مثلاً، لا تستلزم توالياً سببياً سردياً أو إحالة مرجعية كالخاطرة والقصة القصيرة جداً. مما يقربها من الشذرة أكثر في استقلاليتها.
وحتى لا نرهق أنفسنا بالبحث عن المحدّدات النوعيّة لكل من الخاطرة والشذرة والومضة ما دام هذا المنحى قد لا يسلمنا إلا إلى مزيد من التيه والغموض، فإننا قد نجازف بالقول بأن الومضة قد لا تخرج عن احتمالين ممكنين:
الاحتمال الأول: يميل إلى ترجيح كون الومضة جٌنيساً عَبرياً transversal أي أنه يخترق كل الأجناس الصغرى التي تنضوي تحت مظلة «الأدب الوجيز». فتارة يستغرقها وتارة يحاذيها. إنه، والحال هذه، يقيم في منطقة الضوء في كل هذه الأجناس متى ما توفر هذا الضوء. ويغيب عنها إذا ما غاب عنها الشعاع.. وهو بذلك مقيم ومسافر، موجود ومفقود حسب درجة الارتقاء بالنص الوجيز إلى قمة الوهج. لذلك فبوسعه أن يحايث الخاطرة، لكن ليست أية خاطرة كانت. كما يتلبس الشذرة الشذرة… وهو في تلبس هذه الأخيرة أقرب من سواها.
الاحتمال الثاني: وهو بظننا الأرجح، حيث يعتبر الومضة «حالة» نصية في الأدب الوجيز لا جنساً قائم الذات. إنها لحظة تخلق في النص ما سماها كمال أبوذيب «فجوة التوتر». لا في اشتغال النص وحسب، وإنما في ذهن المتلقي أيضاً. وهي فجوة لا يبلغها أي نص كان. فالذي يجعل من النص «ومضة» هو المتلقي بالدرجة الأولى… لذلك نجد كثيراً مما يتمّ تجنيسه من طرف كتابه «ومضة» يخلو من الومض أو هو قليله في أحسن الأحوال.
*الأدب الوجيز – المغرب.