هويات متخيّلة أم مصطنعة؟

نظام مارديني

منذ انفجار الأزمة في سورية في آذار 2011، وقبلها احتلال العراق في نيسان 2003، امتلأت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من المقالات والدراسات تبحث في مكامن الخلل الذي تعانيه أكبر دولتين في الهلال السوري الخصيب، ليطرح بعده السؤال الفلسفي الخطير: من نحن؟

هل نحن جماعات وإثنيات وطوائف نعيش في هويات متخيّلة ومصطنعة وفي «عصر الهويات المتقوقعة» بحسب تعبير الباحث جورج قرم السفير 28/6/2014 ؟ وهل ثمّة حاضرٌ يجمعنا ويوحدنا؟ أم نحن «جماهير وكوارث» كما يقول المفكر هنري حاماتي، تتخيّل نفسها «شعوباً» و«أمماً»، وتدّعي أنّ لها تاريخها وجغرافيتها ولغتها وعاداتها؟ وهل نحن «سوراقيا» أم أمة سورية تامة؟

عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى اقتطعت القوتان العظميان في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا، دولاً وريثة لضمان سيطرتهما على نفط الشرق الأوسط ومفاتيحه الجيوسياسية وطرق العبور التي تمرّ خلالها إلى آسيا. وبفضل نهجهما الاستعماري الذي انعكس على سبيل المثال في اتفاق سايكس بيكو، نشأ نمط من التدخل الخارجي المدمّر. ثمّ ظهرت أميركا في وقت لاحق كقوة عالمية، فتعاملت مع الشرق الأوسط والهلال الخصيب بالطريقة نفسها، فأخذت تنصّب الحكومات أو تطيحها أو ترشوها أو تتلاعب بها بلا هوادة، وهذا كله في حين تتشدّق بخطاب الديمقراطية.

كانت التحذيرات الكثيرة التي تحدّثت عن «عش الدبابير» أو «صندوق باندورا» في أوقات سابقة تستعيد نفسها اليوم بإشعال الحرائق والتمهيد لها ودعمها ونشرها وتمويلها وتوفير سائر الخدمات اللوجستية العملية لها. وعلى ما يبدو، استهدف في إشعال الحرائق أكثر من هدف، منها تحويل اتجاهات الغضب الشعبي لأسباب معظمها اقتصادية، والعمل بالالتفاف والانقلاب على خياراته وتمزيق وحدته وسيادته وثرواته وموقعه في البيئات الساخنة حالياً.

لم تضع كياناتنا في الهلال السوري الخصيب أخطار المواطنة الغائبة والهويات المتخيّلة والمصطنعة في حسبانها، خاصة أننا نحيا ضمن «مجتمعات» أُريدَ لها أن تكون مركبة ومعقدة وقابلة للانفجار في كلّ وقت، وجاءت فكرة العروبة الوهمية لتكرّس هذا الاتجاه والانقسام العمودي والأفقي في كياناتنا القائمة، وبتنا نذهب ضحايا للإثنية الكردية وللسريانية، وللمذهبية السنية والشيعية، لا ضحايا الوطن الواحد والمجتمع الواحد.

لم تترسّخ بعدُ في الكيانات السورية الحديثة فكرة المواطنة على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهد كبير على صعيد الدولة والحكم السلطة والمعارضة إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حد سواء، نظراً إلى غياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيها فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!

هذا الحديث يتزامن والتوغل في مسألة الجماعات الإثنية والطائفية والمذهبية الأقليات في هذا المدى الواسع من الهلال السوري الخصيب، ومن الأهمية بمكان طرح مشكلة الجماعات عندما يتعرقل مشروع بناء الأمة وينسدّ الأفق أمام المشروع القومي الديمقراطي الذي هو ناتج التطوّر الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

يتحدّث كلّ من إيلي خضوري في كتابه حول «القومية» وإيريك هوبزباوم في كتابه حول «اختراع التقليد» عن الكيفية التي تصنع بها فكرة الهوية وارتباطها بالدور الذي تلعبه نخب ثقافية تشعر بالتهميش، أو سياسية لديها تطلع وطموح سياسي، في التقاط عناصر تاريخية وميثولوجية لصناعة سردية جمعية تقدم بوصفها بديلاً سياسياً واجتماعياً.

جميع الهويات الجمعية، يقول بينديكت أنديرسون، هي «هويات متخيّلة»، تحتاج إلى مَن يصنعها ويطوّرها بحيث تغدو قابلة للتخيّل بل وحقيقية بالنسبة إلى الذين يشعرون بالانتماء إليها. وربما كان أعظم مظاهر فشل الدولة الحديثة في العراق وسورية هو في أنّ نخبتيْها السياسية والثقافية عجزتا عن صناعة هويات وطنية قابلة لتوجيه ولاءات الغالبية السكانية، بل وفي حالة نظام البعث في كلا البلدين، كانت الفكرة الوطنية مناقضة للإيدولوجيا القومية العابرة للأوطان التي تبنّاها النظامان.

ما نشهده اليوم في العراق مثلاً يشبه إلى حدّ كبير ما شهده هذا الكيان منذ ستينات القرن الماضي، عملية صناعة هوية بديلة تستثمر في مشاعر السخط وعدم الرضا لدى الجمهور، وتعوّض عن تفكك الهوية الوطنية وغياب السردية الوطنية الجامعة، وتنسجم مع الخريطة الذهنية للنخب الفكرية المنتجة للمعنى وهي في هذه الحالة نخب إثنية وطائفية ومع مصالح مقاولين سياسيّين موجودين أو محتملين يريدون تحقيق أهداف سياسية عبر تشجيع هذه الدينامية .

إنّ الهوية المتخيّلة ذات الميل العرقي أو المذهبي المتنامية هي صناعة فكرية وسياسية بوظيفة أحادية، أو هي مواجهة عدو داخلي وخارجي. خارج إطار هذه المواجهة، ستواجه ما تواجهه أي هوية متخيّلة من أسئلة وأولها: ماذا سنفعل من دون العدو الذي صنعَنا وصنعناه؟

إنّ هذا الحطام الهائل من الفضلات التي خلّفتها عقود من الهيمنة المطلقة لأحادية الهوية الوهمية لا يمكن معالجته بالتعاويذ والتمنيات وباختراع هويات جديدة ووهمية أخرى. بل يحتاج إلى ما يُعرف بالنخب المثقفة الإنتلجنسيا ، ولكن عزلة المثقف وتلذّذه بدور المعارض الدائم وغير المنتج هي عزلة تاريخية أولاً، وعزلة طرد ثانياً، وعزلة تعكس فقر الثقافي لأدوات المواجهة ثالثاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى