فضيلة الشيخ في مدرسة كاثوليكية!
} الياس عشّي
حدث ذلك في أواخر الستينيات :
وكنت يومذاك نائباً لمدير مدرسة البندكتان (الآباء البيض) في طرابلس _ القبة، ومدرّساً لمادتي الأدب العربي والفلسفة الإسلامية.
وفي اجتماع ضمّني والأب جوزيف سمعان مدير المدرسة المتميّز بقدرته على الحوار والانفتاح على الآخر، طرحت عليه مشروعاً تربوياً عاصفاً.
قلت له: سيبقى لبنان قنبلة موقوتة طالما أنّ المدارس الخاصة، في معظمها، تغذّي المشاعر المذهبية والطائفية، وترفض الخروج من دائرتي الإرساليات والفتاوى، ولا تقوم بعمل رائد يغيّر المشهد التربوي من أساسه. وأنت، يا أبتِ، قادر، بما لديك من حضور وعلاقات عامة وفكر نيّر، أن تخطو خطوة في الاتجاه الصحيح.
سألني: وماذا ترتئي؟
قلت: إدخال مادة التعليم الديني الإسلامي على تلاميذنا المحمديين، طالما أنّ للمسيحيين وقتاً مقتطعاً لممارسة واجباتهم الدينية.
أدهشه الطرح !
سألني من جديد: ومن، برأيك، قادر على تعليم هذه المادة في مدرسة كاثوليكية؟
قلت: شيخ عالم، منفتح، محاور، قادر على المساعدة في تربية مدنية منهجية بعيدة عن الكيد والأفخاخ، مسلم لا إسلامي، مؤمن بدينه لا متعصّب له، محترم للدين الآخر. باختصار: أتصوّره شيخاً جليلاً، عالماً، يحترم العقل، ويزاوج بين العقل والشريعة.
أخذ الأب «جوزيف» نفساً من «غليونه»، وقال: أنت يا عزيزي الياس تضع أمامي الخطوط الأساس لثورة حقيقية قد يدفع كلانا ثمنها غالياً! إنّ دخول «شيخ» إلى «حرم» مدرسة كاثوليكية ليس بالأمر اليسير، لا سيما أنّ الأجواء رمادية، والعاصفة التي سيثيرها قرار بهذا الحجم سيكون مدمّراً.
قلت: لكنه قرار، لو كتب له النجاح، سيؤسّس لمرحلة جديدة في النهج التربوي. دون أن ننسى أنّ لهؤلاء التلاميذ المحمديين حقّاً مكتسباً في أن يتعلموا الدين الذي نشأوا عليه، وتربّوا في رحابه.
ابتسم ابتسامة ذات مغزىً، وسألني:
ـ هل تسعى لتدميري؟
قلت:
ـ إما أن نخرج معاً منتصرين، وإما أن ندمّر معاً.
ـ وهل لديك شيخ تجتمع فيه الصفات التي ذكرتها؟
مع هذا السؤال أدركتُ أنّ الأب جوزيف سمعان قبل المغامرة، وصمّم الدخول في مشروع ثوروي حقيقي.
قلت له: لدينا صديق مشترك الأستاذ سعد الدين مطر، فما رأيك أن تستشيره في هذا الموضوع؟
تحركت أصابع «الأبونا» على قرص الهاتف، وبعد خمس عشرة دقيقة تحوّل الاجتماع إلى ثلاثي: الأب جوزيف، والأستاذ مطر، وأنا.
ـ ما الأمر؟ سأل سعد الدين.
وبحماسة لافتة طرح الأب جوزيف المشروع.
التفت سعد الدين مطر إليّ، وقال هامساً: إنه مشروعك… وأنا أراهن على ذلك.
اقترب الأستاذ مطر من الهاتف، أجرى مكالمة، ولم تنقضِ ساعة إلا وكان الاجتماع رباعياً.
رحّبنا بفضيلة الشيخ… تعارفنا… حدّدنا ساعتين في الأسبوع… رفض فضيلته أن يتقاضى أجراً لأتعابه؛
صار شريكاً في المشروع !
بعد ثلاثة أيام تغيّرت جغرافية المدرسة :
مرتان في الأسبوع يتوجه المسيحيون إلى الصلاة في كنيسة المدرسة، يقابلها مرتان ينصت المسلمون لآيات بيّنات، ودروس في الفضيلة، والمحبة، واحترام الآخر.
وبعد عام…
استدعي الأب جوزيف إلى خارج لبنان، ولم يعد !
واستدعيت أنا إلى الإدارة لأكتب استقالتي !
في هذا العام الأبيض أدّى فضيلة الشيخ رسالته بصدق وأمانة. وأحدثنا، الأب جوزيف وأنا، ثقباً في الإسمنت المسلح الذي يسوّر المدارس الدينية في لبنان، وثقباً آخر في ذاكرة المجتمع الديني المنغلق على نفسه وعلى الآخر.
وسأبقى فخوراً أنني أول من أقدم على هذه الخطوة، لا سيما أنّ تلاميذي الذين مرّوا في صفوفي في هذه المدرسة، وتحديداً في ذلك العام، وعبروا إلى العالم، هم اليوم الأفضل، والأنقى، والأكثر واقعية في مواجهتهم الشأن العام.