رالف رزق الله.. الرحيل الباكر الموجع
إعداد: لبيب ناصيف
من بقي من رفقاء السبعينات، قيد الحياة أو مستمراً في العمل الحزبي(1) لعلّهم يذكرون مثلي الطالب المثقف والنشيط، والواعد، رالف رزق الله الذي خسرناه بشكل مأساوي في أواخر العام 1995.
لم أكن على علاقة وطيدة جداً بالرفيق المذكور، وكان انتقل للتدريس الجامعي، إلّا أنّني كنت على معرفة به، ونتعاطى معاً بمودّة كلّما التقينا. لذا، أورد أدناه ما كان نشره الشاعر عبده وازن تعريفاً عن رفيق كان له حضوره في الحزب قبل ان يتوقف عن العمل ثم ينتهي منتحراً، كما كان كتب ايضاً الدكتور نسيم خوري، مدير الفرع الثاني لكلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، والشاعر والكاتب شوقي بزيع.
* * *
رالف رزق الله: انتحار مثقف
بقلم الشاعر والكاتب عبده وازن
الحياة، تاريخ 4/11/1995
« ليس انتحار رالف رزق الله إلا انتحار مثقف لبناني. فالكاتب الذي رافق «أمراض» المدينة قتلته المدينة، والباحث الذي حلّل ظواهر الحرب تحت مجهره قتله السلام الذي فُرض كحلّ جاهز لمسألة صعبة ومعقدة.
رمى رالف رزق الله بنفسه في البحر قرب المقهى الذي كان يرتاده هو ورفاقه الذين حلموا وناضلوا وخابوا. بحر بيروت لم يرحمه، ولا زرقته الخريفية شفعت به.
مات رالف رزق الله انتحاراً، قتل نفسه بنفسه كما يُقال، وكان هو الجلاد والضحية في وقت واحد.
الكاتب والباحث والمحلل النفسي والمثقف والمناضل…. لماذا انتحر الآن؟ أليست المرحلة هي مرحلة النهوض من الهاوية؟ أم تراه نسي ذاك الرجل أن الحرب انتهت وأنّ صورتها احترقت تحت شمس السلام والجرافات؟
العبرة من انتحار رالف رزق الله ستكون حادة وجارحة، ولكن من سيبحث عنها؟ بل من سيجرؤ على البحث عنها في زمن بات كلّ شيء مؤجلاً فيه ؟
لم يحتمل ذاك الكاتب أيّ تأجيل آخر: كان كمن يقف على شفير الهاوية، ولم تكن تنقصه إلّا تلك الخطوة الحاسمة! ومات، عفواً انتحر. وخلفه رمى حلمه المؤجّل، وأمله المؤجّل وموته المؤجل. انتهى كل شيء، كما لو أنّ شيئاً لم يكن. حين تناهى إليّ خبر انتحاره، رحت أبحث عن صورة له في ذاكرتي ومخيّلتي، علّني أفهم سرّ ذاك الانتحار المفاجئ. ولم أستطع أن أصدّق أن شخصاً مثله كان قادراً فعلاً على إخفاء مأساته إخفاء محكماً. كان كلّ ما يتبدّى منه يدلّ على متانته وصلابته وحياديّته. فرحاً كان فرحه الخاص، مرتبكاً ارتباكه الخاص، مقبلاً على الحياة، مضطرباً ساخراً، محباً، رحب السريرة. وفي ما كتب كان ذلك المحلّل الشغوف والعميق والنافذ البصيرة، الحديث والمعاصر والمتيقّظ والمرهف والحذق… ولم ينكفئ طوال الحرب عن خوض غمارها خوضاً نفسياً وتحليلياً. وكان حقاً فريداً في تجربته ومقارباته وقراءاته للحرب والسياسة والأفكار والعقائد، جريئاً وبريئاً ونقياً كلّ النقاء.
لم يعزل رالف رزق الله نفسه مثل بعض علماء النفس، ولم يعش حياته في مختبره، بل خاض الحياة العامة وخبرها عن قرب، وغرق في أوحالها وشجونها وراح يستخلص العبر والنتائج بجرأته المعهودة وطرافته وإلفته.
مثقف حقيقي كأفضل ما يجب أن يكونه المثقف. قلق وشغوف، منفتح كلّ الانفتاح، قارئ نهم، ملمّ باللغات والفلسفات والقضايا. لم تفته مسألة ولا ظاهرة، وظلّ متحفّزاً يراقب وينتظر ويحلّل.
ترى هل كان رالف رزق الله يائساً كلّ هذا اليأس، أم تراه كان مثالياً حاول أن يبحث عن صورة شخصية صنعها بنفسه ولم يجدها، وحين لم يجدها قتل نفسه بحثاً عنها ؟
ترى هل اختار الموت طوعاً، أم أنّ أسباباً أخرى دفعته إليه فانتحر في لحظة من الإحباط الكلّي انتحاراً مجانياً ؟ هل انتحر رالف رزق الله انتحاراً فلسفياً مطبّقاً مقولات نوفاليس وألبير كامو وسواهما عن حقيقة الانتحار ؟
سيظلّ انتحار رالف رزق الله سرّاً من الأسرار التي تصخب بها ذاكرة المدينة، ولن يتوقّف رفاقه عن طرح تساؤلاتهم عن غيابه المفاجئ والصاعق الذي جعلهم في حال من الارتباك والحيرة !
ويخيّل إليّ أن الكاتب والباحث اللبناني الشاب لم ينتحر إلّا لأنّه لم يعد يحتمل الحياة، فهجرها قبل أن تهجره. ومهما اختلفت ظروف انتحاره وأسبابه، فإن ذاك الانتحار سيظلّ علامة من علامات المرحلة في كلّ ما تعني من يأس وإحباط وخيبة وأسى. ولم يتأخر رالف رزق الله عن قتل نفسه، إذ احتاج فعلاً إلى قتلها على عكس ما قال المفكر سيوران مرة. إنّها إحدى الصور القاتمة التي لن تفارق ذاكرة المدينة والأصدقاء.
* * *
السقوط
بقلم الشاعر شوقي بزيع
(إلى رالف رزق الله، منتحراً بالنيابة عنا)
آن لي أن أُعِدّ لهذا الهباءِ ضياعي
آن لي أن أحالف مجرى الرياح
المقيمة في ثقب رأسي
وأرهقَها باتساعي
آن لي،
بعد هذي السنين التي انصرفت،
أن أزيّن جدران صدري
بأحلك ما في دمي من سوادٍ
وفي غابتي من ضباعٍ
آن لي أن أقلّد قتلاي
أوسمةً ونياشين
كي يرقدوا بسلامٍ،
وأنسلَّ من موتهم
كي أنظِّم في ضوء ما خلّفوه خطوط دفاعي
آن لي أن أنظف عينيّ
من شهوة الانتصار
وأن أشتهي سقطة يتباهى ظلامي بها
وأشيّد من حجر الخوف
أبهى قلاعي
دخلت إلى عمق نفسي
لأمتحن الموت فيَّ
وأبحث عمّا يحدّ الحقيقة
فالتهمتني الوحوش التي كنت ربّيتُها
كالأظافر في ظلمة العقل
وافترستني السموم
التي تتطاحن أنيابها في دمي
كالأفاعي
غائصاً في مرايايَ
لا أتجلّى لأرض سوى صورتي
في نهاية هذا الممرّ
ولا أتوحَّدُ مع صخرةٍ
لا تحالف قاعي
لتقرع، إذن، هذه الأرض أجراسها
بانتظار الحشود التي تترامى
على جانبَي وحشتي
ولتقف أمّتي في وداعي
ليصطف حولي الغراب الحنون
ورهطٌ من القبّرات الثكالى
ومنديل أمّي المطّرز بالعشب
ولتتأبّط بلادي ذراعي
سأُعيد إلى كلّ أنثى عرفتُ ارتعاشاتها
وإلى كل حرب كوابيسها
وأقسّم بين يتاماي
مملكتي وضياعي
فقد آن لي أن أنكس قلبي
كصارية أنهكتها الرياح
وأطوي بنفسي شراعي
ليس ينقصني البأس
كيما أدرّب روحي على يأسها المتعاظم،
لكنني لا أرى جبلاً واحداً
كي يليق بهذا السقوط ارتفاعي!
* * *
هوامش:
أرجّح أن الأمين عبدالله حيدر وكان عميداً للتربية، إلى مسؤوليات قيادية أخرى، على معرفة بالرفيق رالف رزق الله، وارجّح ايضاً ان يكون حضرة الامين د. مروان فارس على معرفة به في فترة الدراسة الجامعية