الميليشيات المسلحة الأميركية… خلفيات التكوين والدور المحتمل
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
تميّز عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ببروز ملحوظ للميليشيات اليمينيّة المسلّحة، عدداً وتسليحا،ً وبخطاب سياسيّ ينشد تبسيطاً مُخلّاً للقضايا المعقّدة، يُؤجّل معالجات حقيقية مطلوبة للأزمات المختلفة والمركبة التي يعاني منها المجتمع الأميركي. وانتعشت تجليات حضور هذه الميليشيات مجدداً كردّ فعلٍ على موجة الاحتجاجات الشعبية عقب اغتيال الشرطة لجورج فلويد، وانطلاق صيحة موحّدة مدويّة للمحتجين، تطالب بمساواة حقوق السّود في أميركا، استجاب لصداها العالم أجمع، باحتجاجات موازية تنديداً بالطبيعة القمعية للأجهزة الأمنية.
اتّخذ الصراع المجتمعي في الداخل الأميركي طابعاً تصعيدياً، للإطاحة بتماثيل رموز العنصرية والعبودية البغيضة في الولايات المتحدة، وبريطانيا أيضاً، تطوّعت فيه الميليشيات اليمينية بدور الحامي لتلك التماثيل ورمزيتها، استمراراً للسردية الرسمية السائدة بأنّ هؤلاء الرموز يشكّلون جزءاً حيوياً من التاريخ الأميركي، ولجأت إلى استخدام السلاح ضدّ الخصوم المحتجّين في الدفاع عن معتقداتها بأفضلية الرجل الأبيض.
برزت فعالية التجمعات والمنظّمات المسلحة في أميركا منذ بدء موجات الاستيطان الأوروبي للأميركيتين، باستهداف إبادة السكّان الأصليين والسّيطرة على أرضهم، وسيلة الإنتاج الأهمّ، وتباعاً ضدّ نزعات التحرّر من ربقة العبودية والاضطهاد الاجتماعي، وكانت هذه المنظمات ولا تزال، ذراعاً احتياطية للمؤسّسة الحاكمة لتهديد الأقليات والمضطهدين، ما دفع الكاتب الأميركي الساخر جورج برنارد شو إلى القول «إنّهم يَعتبرون قتل الآخرين شجاعة».
امتشقت الميليشيات السّلاح للدفاع عن الكيان الاستيطاني الانكليزي الوليد، وأبلت بلاءً حسناً في «حرب السنوات السبع» لصالح البريطانيين ضدّ الفرنسيين، ومن ثم قاتلت البريطانيين، وحاصرت حاميتهم في 9 نيسان/ ابريل 1775، في مدينة بوسطن، وشكّلت النواة الأولى للجيش الأميركي تحت قيادة جورج واشنطن.
يشير تاريخ الكيان السياسيّ الأميركيّ إلى إحجام تلك الميليشيات عن تقديم الدعم لجيوش جورج واشنطن والهروب من أرض المعارك، ما أسهم في استصدار «مادة التعديل الثانية» من الدستور الأميركي، لتحفيز الميليشيات على البقاء وتشريع حيازتها للأسلحة.
لعلّ أبرز تجلّيات الميليشيات الأميركية المسلّحة عبر التاريخ كانت منظمة سرّية تدعى «كو كلاكس كلان»، تأسّست في خضمّ أجواء الحرب الأهلية الأميركية على أيدي التيارات المتطرفة الأصولية، وترعرت بحماية المؤسّسات الرسمية المحلية والفيدرالية لها في القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، واشتهرت بتعليق السود، رجالاً ونساءً، على أعواد المشانق وإحراق الصليب كشعار عن مسؤوليتها.
اقتضت تطوّرات القرن العشرين مواجهة «كو كلاكس كلان» ومحاصرتها وولادة منظمات متطرفة يمينية أخرى، تعبيراً عن استمرارية دفاعها عن النظام السياسي من منطلقات عنصرية، وأحياناً استوجبت المواجهة المسلّحة مع الأجهزة الأمنية الفيدرالية، بدءاً بالاعتصام المسلّح في منطقة نائية تدعى روبي ريدج في ولاية آيداهو في العام 1992، والذي اعتبرته الدولة تاريخ ولادة الميليشيات المسلحة في أميركا، وخصوصاً أنّ التنظيمات النازية الجديدة تتّخذ من تلك الولاية ميداناً ومقراً لنشاطاتها العنصرية.
تلى ذلك مواجهة في العام 1993 بمدينة ويكو في ولاية تكساس، ومواجهة مسلّحة أخرى في العام 1995، في انفجارات طالت مباني رسمية في اوكلاهوما سيتي، ما سلّط الضّوء على تنامي جهود تنظيمية واسعة لتشكيل منظمات مسلّحة موازية في عدة ولايات أميركية، اعتمدت آلية استقطاب عناصر جديدة أثناء معارض الأسلحة التي تقام في عموم الولايات المتحدة.
بيّنت وثائق الأجهزة الأمنية أنّ القسم الأعظم من جسم تلك الميليشيات أتى من صفوف القوات المسلّحة الأميركية، لا سيما أولئك العائدون من أفغانستان والعراق، ونقل خبراتهم المكتسبة في استخدام صنوف الأسلحة والمتفجرات وأجهزة الاتصال المتطورة إلى الأعضاء الجدد، عبر إقامة معسكرات تدريب صيفية مرخّصة.
هوية الميليشيات المسلّحة وأعدادها معروفة للأجهزة الأمنية، لا سيما عناصرها القياديّة والمؤثّرة. وتشير البيانات الرسميّة إلى ما لا يقلّ عن 165 مجموعة مسلحة منظّمة في عموم الولايات المتحدة، تنتمي معظمها إلى لتيارات «العنصرية من البيض.. تمارس القتل والتّهديد بالقتل ورمي المتفجرات». وقد رُصد استقطاب بعضها لعناصر من أجهزة الشرطة.
ولعلّ أكبرها عدداً، وفق بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي، منظمة «حرّاس القسم»، التي تضمّ نحو 3،000 عنصر أتوا من صفوف القوات العسكرية النظامية وأجهزة الشرطة المحلّية، و «أقسموا على عدم إطاعة أوامر غير دستورية تصدر عن الدولة» الفيدرالية. وقد برز صيتها في العام 2014 خلال مواجهة بين المزارع المتشدّد بَندي والأجهزة الأمنية قرب مدينة لاس فيغاس، واستطاعت المجموعة استقطاب عناصر من منظمات مؤيّدة مدجّجة بالسلاح إلى مركز المزرعة، مما دفع جهاز مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى التراجع وعدم الاصطدام معها.
كشف مركز التحقيقات الاستقصائية في العام 2019 عن انضمام نحو 150 عنصر شرطة، «بعضهم لا يزال على قمة عمله الرسمي» إلى تنظيم مؤيّد لحرّاس القسم ينشط في وسائل النشاط الاجتماعي، لا سيما فيسبوك.
وأضاف أنّ جهوده أدت إلى التعرّف إلى منظومة أوسع من رجالات الشرطة، تُدين بالولاء للتيار اليميني المتعصب، ومركزه الولايات الجنوبية، وهو تيار معادي للإسلام والمسلمين، وللمرأة أيضاً.
واشار المركز إلى أحد أبرز الأمثلة التي تخصّ رئيس قسم الشرطة في مقاطعة رافاللي في ولاية مونتانا، غريغ ماكويرتر Greg McWhirter، وعضويته في ما لا يقلّ عن 15 مجموعة مسلّحة، من بينها «حرّاس القسم»، بنشره شريطاً مصوّراً مطلع العام الماضي يحذر فيه من «جهود اليسار لإغراق الولايات المتحدة بالمهاجرين الذين سيصوّتون لصالح الحزب الديمقراطي وقلب معادلة توازن القوى القائمة»، من دون أدلّة أو بيانات داعمة.
إلى جانب «حرّاس القسم»، يأتي في التراتبية من ناحية الأهمية: حرّاس سلسلة الجبال الغربية، حركة 912، وحركة 3%. هذه المنظمات تعتمد في نشاطاتها، وفق البيانات الرسمية، على مجموعات مسلّحة صغيرة الحجم تستطيع طلب المساعدة من مجموعات أكبر عند الضرورة، تفادياً لانكشافها أمنياً.
واستنتج المركز قائلاً: «صعود حركة الميليشيات الأميركية يغذّيها الشعور بتفوق العنصر الأبيض والإيمان بنظرية المؤامرة والتعصّب».
انتشار «عدة مجموعات من الميليشيات» حديثاً في المدن الأميركية جاء بناءً على قلقها ورغبتها في توفير الحماية «للنصب التذكارية» لرموز العنصرية والعبودية المتعددة من غضب المحتجّين، على خلفية المطالبة بالمُساواة والعدالة بعد مقتل جورج فلويد، كما أشار مؤخراً مكتب التحقيقات الفيدرالي.
ساد قلق عالي الوتيرة لدى الأجهزة الأمنية الأميركية عقب نشر وحدة مؤلّلة تابعة لـ «ميليشيا البحرية الاستعمارية» لسلاحها المدرع في مدينة هيلزديل بولاية مشيغان، الأسبوع الماضي، وقوامها «18 عربة مدرعة».
تمّ إنشاء تلك المجموعة في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم على أيدي عناصر متقاعدة من سلاح مُشاة البحرية الأميركية في ولاية انديانا، واستطاعت استقطاب عناصر مماثلة منظمة في مجموعات تنتشر في «48 ولاية» أميركية، مقسمة على 116 فريقاّ قتالياّ، وتستند إلى استقلالية تسليح كلّ وحدة على حدة، مع ما يتطلبه ذلك من توفير «عناصر لوجستية خاصة، ووسائل اتصال متطورة، ومعدات طبية.. مسلحة بعربات مدرعة ومدافع خفيفة آلية الطلقات، تساندها موارد محمولة جواً، وطائرات نقل، وأخرى نفاثة»، تؤهّلها للانتشار السريع نحو أي بقعة من عموم الولايات المتحدة.
تاريخ الكيان السياسي الأميركي حافل بدور مميّز للمجموعات المسلّحة ومواجهتها لأجهزة الدّولة الفيدرالية، منها، على سبيل المثال، حالة التمرد الشاسعة في العام 1791، التي قامت ضد قرار الكونغرس بفرض رسوم إضافية على المشروبات الكحولية، قيمتها 25% للغالون، بدعم من الرئيس جورج واشنطن ووزير ماليته أليكساندر هاملتون، في العاصمة فيلادلفيا آنذاك، بغية تمويل العجز في ميزان المدفوعات الناجم عن موجة الحروب الأولى لتأسيس الدولة المركزية.
عارض توماس جيفرسون، الأب الروحي لإعلان الاستقلال، القرار بشدّة، معتبراً المحاولة «ضريبة جهنمية»، مُطالباً إمّا بإلغاء القرار أو خفض قيمته. ونجم عن تلك المحاولة انقسام في قمة القرار السياسي، كاد يطيح بوحدة الإقليم، وانضمّ جيمس ماديسون إلى جيفرسون حينئذ في التعرّض للقوانين «غير الدستورية والقمعية»، التي أدت إلى بروز تيار سياسي متباين من رحم المجموعة المؤسّسة للكيان الجديد (حزب الفيدراليين)، كان نواة تبلور نظام الحزبين الحالي.
مخاطر الميليشيات
تتّخذ السلطات الأمنيّة الأميركية إجراءات عقابيّة ضدّ بعض ممارسات المجموعات المسلّحة بين الفينة والأخرى، كي لا تخرج عن السّياق المسموح به، ووفق الضّوابط الدستورية السارية، إلى ما دون مرحلة الصدام المباشر.
إنّ توفر أسلحة قتاليّة في أيدي الميليشيات المسلّحة، يعزّزها التدريب العسكري الحديث لعناصرها، ويشكّل مصدر قلقٍ حقيقياَ للأجهزة الأمنية المنوطة بتوفير الحماية لمناطق واسعة، كما ظهرت في الآونة الأخيرة، وبدا عليها الإعياء أثناء مساعيها للحد من الاحتجاجات، لا سيما ضدّ المقرات الرسمية في العاصمة واشنطن والقواعد العسكرية عند الحاجة. في المقابل، تستطيع الميليشيات المسلّحة الانتشار بصورة فعّالة حين تقرّر ذلك، بالاعتماد على الخبرة القتالية لعناصرها.
تعجّ أدبيات التنظيمات العنصرية والميلشيات المسلّحة بضرورة إعداد عناصرها لمواجهة مقبلة مع الدولة المركزية شبيهة بحرب أهلية، على قاعدة خوض جولة ثانية من «الثورة الأميركية»، مسترشدة بتوجيهات قائد ميليشيا «لكسينغتون» في ولاية ماساتشوستس، جون باركر، في 19 نيسان/ إبريل 1775، ضدّ القوات الملكية البريطانية مخاطباً أتباعه: «لا تطلقوا النار إلا للدفاع عن النفس، لكن إن ثبت أنَّهم ينوون شنّ حرب، فلنبدأ بها هنا».