قصة قصيرة … إلى الفلك الإلكترونيّ وما قبله
} زياد كاج*
سؤال يطرح نفسه بقوة في هذا العصر الإلكتروني والمتحرّك بسرعة تبدو مخيفة لاتساع وتمدّد الفضاء المعلوماتي من دون توقف؛ إيهما أهم في تكوّن شخصية ووعي وخيال الإنسان عامة وإنسان اليوم… الكلمة أم الصورة؟ الكتاب أم الفيلم؟ هل يستمر ويبقى جيل القرّاء؟ أم أنه سيختفي مع تقلّب الأجيال، ليستمر ويبقى جيل المشاهدة بالكلام المنطوق والصورة المتحركة؟ يكاد الكتاب الورقي يختفي! لا أجده بين أيدي الشباب والشابات في المقاهي. ونادراً ما أرى طالباً متأبّطاً كتاباً في حرم الجامعة. ولّى ذلك الزمن الذي كان فيه المثّقف يمشي في الشارع رافعاً الرأس؛ حاملاً كتاباً وصحيفة ورقية. المقهى اليوم مهما علا شأنه، إذا لم يقدم خدمة «Wifi» مع فنجان القهوة ستبقى مقاعده فارغة. جيل اليوم يطلب «password » قبل طلب السلعة، لا يفارقه اللابتوب أو الهاتف الذكي (نافذته على العالم).
سأحاول الإجابة من خلال تجربتي الشخصية مع عالم المعرفة المكوّن من أحرف وصور وأمور أخرى كثيرة.
شخصياً، اشتغلت وصنعت ثقافتي بنفسي. فكوني من الجيل المخضرم الذي تفتّحت براعم عقله وخياله على أصوات باعة الصحف خلال الحرب وقرّائها «ساخنة» (بعض الصحف كانت تصدر بعض الظهر). دخل التلفزيون بيتنا باكراً، وكان من نصيبي الكثير من الأفلام النوعية في دور السينما في شارع الحمراء. وصولاً إلى عالم الكومبيوتر والسايبيري الذي نهلت منه نتفة من هنا ونتفة من هناك؛ كولد صغير أرسله أهله في موسم «البزيق» في القرية لأول مرة.
قرأت كتباً كثيرة ولا أزال، وشاهدت الكثير من الأفلام والمسلسلات التي تركت فيّ بصمات ميّزت تفكيري. ودخلت عالم «الفيسبوك» و»الانستغرام» و»اليوتيوب» كصبيّ يُرمى في المياه العميقة ليتعلّم العوم بالطريقة الصعبة والسريعة. بهرني عالم الإنترنت الذي يقدّم خدماته 24 على 24 ساعة. بقيت ثقتي في الكتاب الورقي… في الكلمة المقروءة… لا أريد لخيالى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في عالم إفتراضي يكاد «يتفرمت» من بين يدي في أية لحظة.
اكتشفت أول مرة فيها سحر الكتاب وعالمه كانت في مكتبة «British Council» الغنية في رأس بيروت؛ كنت أنا وأخي رياض نستعير منها الروايات الإنكليزية المبسّطة لقاء أجر زهيد. كنّا نشتري الكتب المستعملة، خصوصاً الروايات باللغة الإنكليزية المبسّطة، من الباعة الذين كانوا يفترشون أرصفة شارع الحمراء خلال فوضى الحرب الأهلية. فقرأت «روبنسون كروزو» وتهت معه في مغامرته على الجزيرة النائية مع صديقه الذي سمّاه «Friday « كل ذلك الجمال الطبيعي ورائحة البحر وأنا مستلقٍ في فراشي أقرأ على نور شمعة والحرب تستعر في المدينة. وكرّت السبحة ومعها فاض الخيال وبنيت عالمي الخاص من «مغامرات هاكلبريفين» و»قصة مدينتين» لـ Charles Dickens، والكثير غيرها.
وفي مرحلة الشباب، طرقت باب همنغواي في رائعته «لمن تُقرع الأجراس»، وشكسبير في أجمل وأعمق مسرحية عن التاريخ الروماني والصراع عن السلطة «يوليوس قيصر»، وبلزاك في رائعته «الأرض». وأيضاً، كان لي حظّ التعرّف على سرفانتس وطواحين الهواء وصاموئيل بيكيت في مسرحيته التي أثّرت بي كثيراً «Waiting For Godot ».
كلّ الشكر للجاحظ، أبو النثر العربي الذي صالحني مع اللغة العربية وآدابها، خاصة في بخلائه وبقوله «الناس مولعة بحكاية كل غريب». والشاعر أبن الرومي الذي عاد وحرّك الإحساس في عروقي العربية وأبكاني في رثاء ابنه الأوسط، والمتنبي العظيم الذي لا يزال الناس حتى اليوم يذكرون «خيله وليله… وبيداءه والقلم» ومديحه لسيف الدولة وهجاءه لكافور الأخشيدي (لو سمع به الرئيس الأميركي ترامب اليوم لتبنّى بعض أشعاره العنصرية) وقوله: «الكتاب خير جليس في الزمان».
أعطتني الجامعة حريتي وأطلقت يديّ، فصرت أقرأ ما أختاره وليس ما يفرض عليّ من المناهج الدراسية. كانت جريدتا «النهار» و«السفير» خبزي اليومي. مقال سركيس نعوم لا بدّ منه؛ ثم الصفحة الثقافية والكاريكاتور. كنت ولا أزال شديد الإعجاب بالعبقري الشهيد ناجي العلي الذي فرض نمطاً خاصاً في فنّ الكاريكاتور العربي وأبدع بشخصية حنظلة. فنّ الكاريكاتور هو صورة أكثر من كلمة. كثرة الكلام تضعف الرسم. يقال إن ريشة ناجي أدّت إلى اغتياله! أما بيار صادق، العبقري الآخر، كان لافتاً في «النهار»؛ رسومه تشبه خطّ صحيفته. عندما تحوّل إلى الرسم الرقمي والمتحرك على شاشة «LBC» ، شعرت أنه فقد الكثير من بريقه لكثرة استخدامه للكلمة في فنّ هو للصورة والخط في الأصل.
في الجامعة، ألقيت بنفسي وسط الكتب السياسية لأفهم خلطة هذا البلد الغريبة – العجيبة ولماذا كان أبي يردّد: «فالج لا تعالج».
أعجبني كريم بقردوني في «السلام المفقود»، وسليم الحص في مفهومه للدولة القادرة والعادلة، وكتب الدكتور كمال الصليبي: «بيت بمنازل كثيرة» و»تاريخ لبنان الحديث» و»طائر على سنديانة».
كما لفتتني كتابات الصحافي روبرت فيسك، خصوصاً «Pity the Nation «؛ وكتاب مترجم بعنوان «عن طريق الخداع» – كتاب «ذي الزفت» عن عمليات الموساد ضدّ العلماء العرب وغيرهم في أوروبا.
مع تبدل الأحوال، دخلت عالم الكتابات الإسلامية لأفهم سرّ «الغرام» التاريخي بين المسلمين السنة والشيعة والملل الأخرى. تحية لهشام جعيط لكتابه القيّم «الفتنة»، وألف تحية للعلامة الشيخ العلايلي لكتابه عن الحسين. وكل الاحترام والتقدير للدكتور علي الوردي وجواد علي اللذين شخّصا بحرفية علل وآفات العالم الإسلامي؛ فبانت سجادة تاريخ الجزيرة العربية بكامل تفاصيلها قبل الإسلام. فسقطت كلمة «الجاهلية» بالضربة القاضية.
قرأت لأدباء عرب ولبنانيين حداثيين كثر. أذكر حنا مينا وعالمه البحري وهو الذي عاش على الميناء طوال حياته. «حدّثني ي. ث.» ليوسف سلامة، كان أول كتاب ممتع أقرأه بالعربية. أهداني إياه الصديق الناشر سليمان بختي. عالم الراحل يوسف ســـلامة عقد الصلحة بيني واللغة العربية. لفتني جبور الدويهي في رائعته « مطر حزيران»؛ فتوقفت مراراً عند الصفحات التي تصف سائق البوسطة وهو يجلب الأطفال من المدرسة بعد حصول الحادث الرهيب في البلدة. غسان كنفاني صدمني في «أرض البرتقال الحزين».
أحببت قصص رشيد الضعيف وعلوية صبح وسحر خليفة في «أرض وسما» وغيرهم. «عمارة يعقوبيان» هي الرواية الوحيدة التي تمنيت لو لم أشاهدها فيلماً. والسبب أن المخرج لم يضف شيئاً من عنده، بل تعدّى على خيال الكاتب وكبّله أمام المشاهد. واليوم أتابع قراءة رواية لميخائيل نعيمة «اليوم الأخير».
كان للصورة الجامدة والمتحرّكة ـ الى جانب الكلمة ـ الأثر الكبير في تشكيل وعيي العام وإغناء مخيلتي. أمام الشاشة الصغيرة، أضحكني توم وجيري طفلاً، وخدعتني عدالة الغرب الأميركي في مسلسل «بوننازا»، وعلّق في ذاكرتي «ستارسكس اند هاتش» و «Mind Your Language» و»فليبرز» المسلسل الفَرنسيّ الذي يحكي مغامرات دولفين فائق الذكاء.
محلياً، أخافني مسلسل «عشر عبيد زغار» رغم تعلّقي بالأغنية واللحن، واسمتعتُ كغيري من أبناء جيلي بمسلسل «الدنيا هيك» والقصف شغّال على بيروت. شوشو كان حضوره مميّزاً، وأبو سليم وفرقته (كان يلفتني فهمان وأسعد) أدخلوا البهجة الخفيفة لبيوت الفقراء والأغنياء. وأخوت شاناي وبربر آغا وأبو ملحم: صور وشخصيات ناطقة أغنت المخيلة الجامعة. ثلاثة لا يبارحوا ذاكرتي كمشاهد لبنانية مصوّرة: مشهد فيليب عقيقي كأب محبط أقام حفلة في البيت لأبنه العائد طبيباً من الخارج. كان ثورة غضب، بركاناً ثائراً؛ حتى اليوم أسمع أصوات تفقيع البوالين والشرر يتطاير من عيني الممثل القدير والأب المصدوم بابنه المتشاوف. الثاني دموع شوشو في مسلسل «المشوار الطويل» بعد علمه بسفر وحيده بحراً من دون وداعه. والثالث، أداء إيلي صنيفر في مسلسل «الأخرس» المقتبس عن رائعة «أحدب نوتردام».
بيروت كانت كريمة جداً معي ومع مجايلي قبل الاجتياح «الإسرائيلي» 1982. على شاشاتها الكبيرة شاهدت أفلاماً عالمية من نوع الأكشن، الكومدي والرومانسي. شاهدت «روميو وجولييت»، وأفلام «البي جيز» مع جون ترافولتا، وأفلام بروس لي، والكثير من الأفلام الاجتماعيّة الراقية وأحياناً الهابطة. منحتنا الحمرا وصالاتها نوافذ على العالم في زمن ندر فيه الهاتف المنزلي. أذكر أفلاماً مميزة مثل: «Quest for Fire»، «غاندي»، «الرجل الفيل»، «The Englishman Who Went Up A Hill And Came Down A Mountain.» وأيضاً «The Man Who Flew Over the Cucko’s Nest».
في نيسان من العام الماضي، أرسلتني الجامعة الأميركية في بيروت ضمن برنامج تبادل للخبرات إلى جامعة «Koc University «. حضّرت محاضرتي جيداً، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة إدخال «Slide Show» بعد أن نصحني زملائي المحترفون بضرورة الإكثار من الصور وعدم الاكتفاء بالنصّ المكتوب. في الجامعة وبحضور وفود من أميركا، روسيا، إسبانيا، كوريا الجنوبية، بولونيا، فرنسا.. لاحظت الفرق. معظم المشاركين والمشاركات استخدموا تقنية «اليوتيوب» مع عدد قليل من التعليقات المطبوعة. الوفد الكوري كان لافتاً.. وأنا كنت الوحيد الذي قرأت عن الورق. شعرت بالإحراج.
الزمن زمن الصورة وليس أيّ صورة. هي متحرّكة، سريعة، لاهثة.. وأحياناً كثيرة، قد تكون الصورة مفبركة وغشاشة؛ لأنها رُكبت وصُورت على يد صانعها. يقال إن الخيال البشري المستقلّ في خطر! ربما. لكن الكلمة تبقى صامدة. في مراهقتي اشتريت «بوستر» من أحد المحال في شارع بلس قرب الجامعة الأميركيّة وألصقته على الحائط فوق سرير لشدّة إعجابي بالصورة والكلمات المطبوعة في الأعلى. كانت صورة شاب رياضي يقفز من على صخرة عالية جداً إلى البحر. تقول الجملة القصيرة: «أنك تعيش مرة واحدة في الحياة. لكن إذا عشت بطريقة صحيحة، فمرة واحدة تكفي».
في البدء كانت الكلمة، ثم الصورة. لكن لا الكلمة من ماء، ولا الصورة من زيت. كلاهما يكملان بعضهما البعض. قال سقراط منذ مئات السنين: «تكلم كي أراك». حكمته لا تزال تصلح لهذا الزمن.
أنزلت مؤخراً «بوست» لشهادة نجاح ابني ونيله جائزة جامعية. معظم التعليقات كانت موجّهة إلي.
لم يقرأوا الاسم!
*روائي لبناني.