مقعد فرنسا في الأمم المتّحدة لفارس الخوري… خمساً وعشرين دقيقة
الياس عشّي
خمسة وعشرون عاماً هو عمر الانتداب الفرنسي على الشام. أعوام لم ترفع في أثنائها راية بيضاء واحدة. أعوام كان عنوانها الأبرز شرف المواجهة بين وزير الدفاع الشامي السوري الشهيد يوسف العظمة، وأحفاد الثورة الفرنسيّة الذين انتهكوا جميع المبادئ السامية التي على إيقاعها قامت تلك الثورة… وانتصرت.
بالعودة إلى تلك السنين، وكي لا تبقى حوادثها في الظلّ، لا بدّ من جدولة بعض الأعمال الثورويّة التي قام بها الشاميّون السوريّون، والتي أدّت في ما بعد إلى جلاء آخر جنديّ فرنسي عن الأراضي الشاميّة، في السابع عشر من نيسان 1946.
1 – إصرار الانتداب الفرنسي على تقسيم سورية دويلات طائفيّة، وإلغاء دمشق كأوّل عاصمة في التاريخ من ذاكرة السوريين والذاكرة العالميّة وترجم ذلك عمليّاً بنقل العاصمة إلى حمص سنة 1922، لكن حكومة الانتداب، وتحت ضغط الشارع الدمشقي، ألغت قرارها وعادت دمشق عاصمة للشام بعد ثلاثة أعوام.
2 – إعلان الثورة السورية الكبرى عام 1925، وتحوّل الغوطة إلى أحد معاقلها الرئيسة.
3 – في الثامن عشر من تشرين الأوّل من العام نفسه، استولى الثوّار على أحياء الميدان، والشاغور، ووصلوا حتّى سوق البزوريّة وقصر العظم مقر مندوبي المفوضيّة الفرنسية العليا، وطرد جميع عناصر الشرطة، والاستيلاء على الأسلحة.
4 – انسحب الثوّار تحت ضغط القصف العشوائي الذي تعرّضت له دمشق. هذا القصف أثار حفيظة الدول العربية والوجدان القومي الذي عكسه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته المشهورة سلام من صَبا بردى أرقّ .
5 – سنة 1936 كانت دمشق شرارة الإضراب الستيني الذي لم تُفتح فيه نافذة قط، إلاّ بعد إنهاء الإضراب، وتحقيق المطالب الوطنية.
6 – احتجاجات 1939 التي أدّت إلى احتلال ساحات دمشق من قبل الجيش الفرنسي – السنيغالي واستشهاد الكثيرين.
7 – معركة دمشق1941، وقد سيطر فيها الحلفاء الجيش البريطاني ـ وقوات فرنسا الحرّة .
8 – ما إن انتهت الحرب العالميّة الثانية حتّى أعلنت انتفاضة الاستقلال التي انتهت باستقلال الشام وخروج الجيوش الأجنبية من أرض الياسمين وشقائق النعمان.
إلى جانب الحراك الميداني الذي قاده الوطنيون من كل الأطياف، وفي المدن والقرى كافة، وبزعامات ما زالت بصماتها حاضرة حتّى اليوم، أقول : إلى جانب هذا الحراك، كان ثمّة حراك سياسيّ في الأندية الدولية، خاصة في الجمعية العامة للأمم المتّحدة. والسوريّون ما زالوا يروون بفخر قصّة السياسي الشامي المحنّك فارس الخوري الذي انتدب إلى الأمم المتّحدة الحديثة المنشأ، ليدافع عن حقّ الدولة الشاميّة في الاستقلال.
دخل فارس الخوري ببدلته الأنيقة وطربوشه الأحمر القاعة قبل الموعد المحدّد لمناقشة القضية السورية، وتوجّه فوراً إلى المقعد المخصّص لفرنسا واحتلّه. وعندما وصل المندوب الفرنسي، اقترب من مندوب سورية طالباً إخلاء المكان. لكنّ فارس الخوري كان منهمكاً بالنظر إلى ساعته، يحصي الدقائق، غير آبه باحتجاجات السفير الفرنسي، ولا بصراخه، ولا بتهديداته. وعندما أنهى الدقائق الخمس والعشرين أعاد ساعته إلى جيبه، ثمّ وقف بهدوء وخاطب المندوب الفرنسي قائلاً:
سعادة السفير، جلستُ على مقعدك لمدّة خمس وعشرين دقيقةً فكدتَ تقتلني غضباً وحنقاً، وسوريّة استحملت سفالة جنودكم خمساً وعشرين سنةً، وآن لها أن تستقلّ».
ولم تنتهِ الجلسة إلاّ وكانت سورية قد حصلت على استقلالها.