الثامن من تموز: تاريخٌ ينبضُ عزاً ويرشحُ دماً…
} زهير فياض
«حكاية الفداء» التموزيّ جزءٌ لا يتجزأ من تراث الأمة الحي والمستمر عبر التاريخ. الثامن من تموز له رمزية الشهادة في سياقٍ تاريخيٍ متصل بمراحل وحقب تاريخية شكلت وتشكل تراثاً أصيلاً ينبع من منظومة القيم التي جسّدها إنساننا عبر الزمن.
في الثامن من تموز، ثبت أنطون سعاده المنهج التاريخي في تجسيد قيمة «الفداء» والتضحية وتماهي الفرد وانغراسه في قلب قضايا مجتمعه وأمته وشعبه.
هذا التاريخ غدا عصياً على النسيان لأنه ترسخ في تلافيف الذاكرة «الجماعية» لأمة تأبى أن يكون القبر مكاناً لها تحت الشمس، أمة مصارعة مناضلة مكافحة تختزن في داخلها كل مقوّمات الصمود والاستمرار، أمة حرةً هادية – كما أرادها سعاده – للأمم عزيزةً تتنفس حريةً وشموخاً وإباءً، وتحملُ قيم الشهادة باعتبارها أقنوماً من أقانيم الحياة وثقافتها وقيمها ومناقبها وفلسفتها الأصلية.
من أمثولات الثامن من تموز أن «الفداء» منهج حياة يحمل قيماً ترتبط ارتباطاً عضوياً بفكرة الحياة، إذ لا قيمة لحياة من دون حرية، ولا سبيل لحريةٍ من دون صراع، ولا صراع من دون استشهاد، فالشهادة هي القيمة المحورية التي تتركز فيها كل القيم.
ثمّة مَن يريد القضاء على هذه القيمة في وجدان الناس عبر إحداث إشكالية تناقض بين «الشهادة» و»الحياة»، وتساوٍ بين ثقافة «الشهادة» وثقافة «الموت»، وتساوٍ تماماً بين ثقافة «الحياة» وثقافة «العيش».
إنها أزمة مفاهيم ابتليت بها الأمة وهي تقف في قلب حركة الصراع…
في زمن انقلاب الصورة تغدو الحاجة ملحّة لتثبيت «المفهوم» وتركيز سلّم قيميّ يساعد في إعادة صياغة رؤية تكون مرتكزاً لسلوك الأمّة حاضراً ومستقبلاً…
ثمّة استبداد فكريّ ظلاميّ يريد أن يسيطر على عقولنا عبر إيهامنا أن فكرة «الحداثة» هي نقيض فكرة الانتماء، وأنها نقيض فكرة «الهوية»، ونقيض فكرة «المقاومة»، ثمّة مَن يريد إيهامنا أن الحداثة تستوجب تعطيل حركة العقل والاستجابة الى منتوج «العقول المستوردة»…
والأخطر هو محاولة إيهامنا أن لغة الانتماء الى التاريخ، الى الجغرافيا، الى وحدة الحياة، هي لغة خشبية وأن لغة الشهادة هي لغة من خارج العصر…
الثامن من تموز محطة للتجلي والقراءات الهادئة لمعاني استشهاد سعاده في الملمح الزمانيّ والمكانيّ وسط الزلازل السياسية والعسكرية التي ضربت وتضرب البنى التحتية لمجتمع تعرَّض لأقسى التجارب الإنسانيّة في الاحتلال والقهر ومحاولات التطويع والتجهيل والتهميش والاختزال، مجتمع لا يخرج من دائرة تآمر حتى يدخل في دائرة تواطؤ من قوى محليّة وأجنبيّة تقاطعت مصالحها واستهدافاتها ووجهت كل جحافل ترسانتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية صوب قلب المجتمع وجسده المثخن بالجراح لإحداث التشظيات العمودية والأفقية وضرب وحدة الأمة ونسيجها الشعبي لإخضاعها وتطويعها على كل المستويات.
إن الجريمة التي ارتكبتها الرجعية المحلية باالتكافل والتضامن مع القوى الأجنبية والصهيونية العالمية استهدفت ضرب الحركة السورية القومية الاجتماعية التي بات تأثيرها وفعلها النهضوي في السياسة والأمن والاقتصاد والسلطة واضحاً للعيان، مع ما يعنيه هذا الأمر من تغيير في موازين القوى لصالح حركة التغيير الجذريّ والبنيويّ لكل البنى السياسيّة القائمة في بلادنا.
ولكن، الوعي القوميّ الذي أوجده سعاده شكل الضمانة لاستمرارية شعلة النهضة واستمرار حركة النضال القومي الاجتماعي باتجاه تحقيق أهدافها، رغم كل الصعوبات التي واجهتها في مسيرتها اللاحقة سواء في لبنان أو الشام أو غيرها من الكيانات.
نحن نحيا الآن، وعلى مسافة 71 عاماً من الاستشهاد الحقبة الأخطر ونعيش مخاضاً تاريخياً صعباً هو الممر الإلزاميّ للانتقال من حالة إلى حالة، مخاض دونه صعوبات وتحديات، ودونه تضحيات هائلة للانتقال بمجتمعنا الى مصاف المجتمعات الراقية المتمدنة التي تليق بها الحياة ويليق بها التمدن، ويليق بها الصراع من أجل الحرية.
الثامن من تموز ذكرى نستلهم منه عبرة وقفة العز التي وقفها سعاده على رمل بيروت دفاعاً عن كرامة وعزة هذه الأمة.