ممَّ الخوف…؟
} لواء العريضي
هو ذاك الذي تهزّ وقع حروفه مجتمعات. هو الذي يخشاه كلّ أمير ويتقن لعبته كلّ سلطان. البعض يعرّفه بقلّة الرفاهية، والآخر يقول إنه قلّة الحكمة والعقل. والأكثر دقّةً يحدّده بعدم القدرة على تأمين الحاجات الأساسية كالأكل واللباس والدفء، والعيش بأقلّ من الحدّ الأدنى من الدخل والموارد. تعايش البعض معه بالماضي وعرفوا مشقّاته. إنّه الفقر.
تتردّد كلمة الفقر اليوم أكثر وأكثر في الإعلام، وبين الحين والآخر تؤدّي إلى تهافت الناس على المحلات التجارية للتبضّع والتموّن. فمعظم هؤلاء قد تعايش مع الشحّ والقلّة في الحرب الأهلية وشبح الفقر لا يفارقهم. فالإنسان يُدَمَّر مرّة في الحياة ويستغرق نصف عمره للنهوض من هذا الدمار، فكيف إذا أيقن أنه على شفير دمارٍ آخر ويدرك أنّ عمره أُتلِف بدمارٍ بعد دمار! فبعد الحرب اللبنانية عمل كلّ أبٍ جهده كي لا يعيش أولاده ما عاشه هو من حرمانٍ وعسرٍ وقتلٍ وتشرذم، وفجأةً يصحو على لحن ماضٍ مريرٍ يلوح في الأفق من جديد.
تتعدّد مفاهيم الفقر مع اختلاف نظرة الفرد للحياة. والأكثرية تتفق على أنه العيش دون الحدّ الأدنى من الموارد، حيث يكون جلّ تفكير الفرد كيف يؤمّن قوت من يعيل. لكنّ للفقر أشكالاً أخرى ذات وقعٍ أشدّ على المجتمع ككلّ. وهذه الأشكال ترتبط بالشحّ والقلّة ارتباط السبب بالنتيجة. وأهمها هو التخلّف. والتخلّف يكون اقتصادياً واجتماعياً، فعدم إدراك المصلحة الوطنية عند توفّر موارد الاستثمار واعتماد خطط آنيّة لا جدوى منها على المدى البعيد يُعتبر تخلّفاً. مثلاً، استثمرنا بالسياحة منذ ثلاثين عاماً واستثنينا الزراعة والصناعة، واليوم نتهافت على هذين القطاعين لسدّ النقص في المواد الغذائية بعد الإقفال المتتالي للكثير من المؤسّسات وتعذّر الشراء من الشركات العالمية. ناهيك عن التخلّف الاجتماعي السائد منذ قرن، طائفية مقيتة، وأنانية فردية «أنا أو لا أحد» تكلّمنا عنها سابقاً. فنحن متخلّفون إذن من دون أدنى شك.
نحن فقراءٌ بالعاطفة والمودة، نتنمّر على كلّ ضعيف في مجتمعنا ونقتدي بشريعة الغاب حيث البقاء للأقوى. نسينا أننا بشر والبشر يبنون مجتمعهم بالمحبة، فافتقادنا للوجدان القومي ساهم بتفقير الكثير من أبناء بلدنا.
كما أنّ الفقر يتجلّى عندنا بقلّة المعرفة والجهل، فنستثمر بما يُعيد إلينا أرباحاً نقديّة فقط ونترك الاستثمار بالقطاعات العلمية لغيرنا، فتهاجر الأدمغة ويبقى لنا تجّار الأزمات.
المجتمع الفقير قسراً أو إرادياًّ يُشبَّه بالكائنات الفطرية، يعيش على نفقة الآخرين وغير قادرٍ على القيام بنفسه. ومع زوال الجسد الذي يتغذّى منه يزول. هنا مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها، هل الاكتفاء الذاتي وبناء اقتصاد متين يعدّ فقراً؟ هل التضحية بالترف ونمط الحياة الرفاهي مقدّس؟ ألا يُعْتَبَر التخلي عن القليل لكسب الكثير في المستقبل فرصة لا تُعَوّض؟ فإذا أردنا كلّ شيء اليوم، ماذا سنترك للأجيال القادمة غير الدَين والذّلّ؟ اليوم بعد تهافت المجتمع بمختلف طبقاته على المواد الغذائية، أدركنا أنّ النقص في هذه المواد يهدّد الغني كما الفقير. فلو كان عندنا شبه اكتفاء ذاتي غذائي لما كنا نشهد هذا الهلع. فالاكتفاء الذاتي هو أساس التقدّم والاستقرار في أيّ مجتمع. ومَن غذاؤه متوفّر لا يعدّ فقيراً بالتعريف التقليدي.
ما هو مقياس الصمود في مجتمعنا؟ أهو مدى الرفاهية أو مدى تفشّي الفقر؟ غنيٌّ ذليل أو فقيرٌ حرّ؟ أليس «الفلّاح المكفيّ ملكاً مخفياً» كما يُقال؟ علينا أن نعي أنه لا سياسي واحد ولا حكومة واحدة دفعتنا للوصول الى ما نحن عليه اليوم، بل سوء التخطيط والجهل عند الانتخاب والفشل المتراكم منذ عقود يجبرنا على العودة لبناء هيكل جديد لا أمل في نجاته إذا لم يكن متيناً أساسه: نأكل مما نزرع ونلبس مما ننسج.
إنّ الاكتفاء الذاتي والتخلي عن الترف ليس فقراً بل شبع وإدراك للمصلحة الوطنية والمستقبل. وصمودٌ في وجه الأوراق الاقتصادية وسياسات الضغط الخارجي. فإذا أردنا قياس الفقر على الصعيد الاجتماعي في لبنان فهذا يعني أننا فقراء منذ زمن على كافة الأصعدة وباتت خيوط الفقر تنسج حياتنا اليومية، فلماذا الخوف إذاً ممّا تآخينا معه؟