تأمّلات في أعمال الفنّان الأردنيّ مهند سهيل قسوس
نصّار إبراهيم
تشكل الصحراء خط انطلاق ابتدائيّ في أعمال مهند ووعيه. إنّما ليس الصحراء كمشهد طبيعي فحسب، أو كصورة فوتوغرافية، بل الصحراء كركيزة وجود في الذاكرة الأردنية والعربية إجمالاً، كركيزة أبدعت ثقافة وشعراً وسلوكاً وقيماً وأنماط حياة، فوطن معظمه صحراء عاش فيه ومعه الإنسان الأردني والعربي وسيعيش. من الطبيعي أن يضيئها مهند وأن يذكِّر بها دائماً، فالجغرافية والبيئة هما معطى ثابت لا يباع ولا يشترى ولا يستبدل. من خلال التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والنفسي مع البيئة يتشكل الوعي الجمعي إذن من الضرورة أن يؤكد مهند في أعماله على هذه الحقيقة الأزلية وبحسم: لا تنسوا أنتم من هنا، هنا جذوركم، وهنا تسكن أرواح أجدادكم فانتبهوا وتذكروا. بل ويجب أن يكون هذا التذكر فعلاً وسلوكاً طبيعيين مثل التنفس.
يستحضر مهند الصحراء كبيئة حاضنة للحياة وليس مثل «ستاتيك: ثابت. هو لا يذهب إليها كسائح أو عابر سبيل. يذهب إليها مثل الأم الحاضنة بكامل حنانها وصرامتها الضرورية والطبيعية. لذا تتبدى الصحراء في أعماله من خلال التأكيد على حضورها كحركة فاعلة في الوعي الاجتماعي. هو حضور حركة وفرح وتحد وتناغم وانتماء، ويتجلى هذا البعد الحيوي وبوضوح شديد في معظم أعمال مهند من خلال: الرجال والخيل، الرجال والجمال، حركة ووجود غزلان البدن، الأعراس، السهر حول المواقد ورائحة القهوة العربية، الرقص والدبكات الشعبية، المرأة التي تدخن أمام خيمتها بسلام هو جزء تلقائي من سلامها الروحي الذي تشربته على مدار عمرها من الأرض ونبضها، بحيث غدت سلوكاً طبيعياً ولغة خاصة في وعي الناس في الأردن ومحيطه.
بهذا المعنى لا يقوم مهند في أعماله الفنية بالتوثيق التاريخي، فليس الهدف مثلما قد يتبادر إلى ذهن البعض قد يتحقق ذلك بصورة عرضية، لكنه ليس الهدف الأساسي، وإلا كنا اكتفينا بما هو محفوظ في الأرشيف الوطني من صور ومخطوطات يمكن الرجوع إليها . هدف الفنان هنا أبعد من ذلك بكثير، بل وكثير جداً، بل وقد يتناقض حتى بصورة نسبية مع وظيفة التوثيق أو الوظيفة السياحية للمكان، فالوظيفة السياحية ليست الهدف أو البديل، بل ستكون كارثة أن يتحول التراث والبيئة الوطنية وجمالها إلى مجرد وسيلة للدخل والربح بأي ثمن الإفادة من ذلك ليست خطأ بالطبع، غير أنها ليست نقطة الانطلاق. ذلك قد يتحقق في السياق لكنه ليس الهدف الأسمى . ولذلك فإن دور مهند الفنان المسكون بالهموم والأسئلة الكبرى، الفنان الذي يستشعر أخطار التشويه وفقدان الذاكرة الجمعية، ليس الترويج السياحي. إنه يدرك ويعي وظيفته ودوره بعمق وقوة لأنه يعرف ما يريد تماماً، ولهذا يصر ويلحّ على تأكيده. إنه يستهدف في أعماقه إعادة الاعتبار إلى الوعي الجمالي للخافية الأم، وتظهير ضرورتها وضرورة حمايتها كي لا تتحول إلى سلعة أو مجرد فرجة. وهو لا يقارب هذا الموضوع المفصلي بعقلية موظف المتحف الأثري، بل بعقلية الأردني العربي الأصيل الذي لا يزال يحلم بأن يبقى هذا الجمال حاضراً وقائماً وألاّ تسحقه حركة التحديث كأنه يقول إن العمران أو الممارسة الاجتماعية، وعلى أي مستوى، ومهما بدت براقة في الظاهر، هي من دون روحها وجذورها وأصالتها مجرد بروق خلبية لا مطر ولا حياة فيها.
انطلاقاً من ذلك فإن مهند يفتح المجال للتفاعل الإنساني مع الثقافات والحضارات الأخرى، كأنه يقول: حسناً تقدموا، تفاعلوا مع العصر والحداثة، إنّما لا تفقدوا أرواحكم، فلو فقدتم ذاتكم أثناء الاندفاع الفوضوي في غمرة التقليد الأجوف والمتسرع، لن تفيدكم عندئذ ناطحات السحاب والفيلّلات الفاخرة بمَ يفيدكم ذلك كله إذا أضاع المجتمع ركائز هويته القومية/الوطنية وروحه وجذوره الضاربة عميقاً في الأرض/المكان وفي التاريخ، بما يعطيه الدفء والأصالة والعمق. إنّ تميز أي شعب وحضوره يبدأ من هنا تحديداً، وعلى ذلك يجب أن يتكئ ليبني ويتطور ويتفاعل ويتحرك ويبدع في المجالات كافة.
يؤكد مهند في أعماله قيد المناقشة على رسالة وموقف واضحين، التفاعل مع المحيط ممكن بل وضروري. لكن حذار أن يجتاح المحيط أعماق المجتمع/الشعب ويسحقه. تلك هي الرسالة، وليست مجرد رسالة بسيطة. إنها صرخة شاملة تشبه على صعيد الثقافة الصرخة التي يطلقها عادة علماء الاجتماع ارتباطاً بتفريغ الريف أو مدن الأطراف/ المحيط المتروبول أو القرى من أبنائها ورحيلهم أو هجرتهم أو تهجيرهم ليستقروا في العواصم وأحزمة الفقر ومدن الصفيح وليزدادوا فقراً واغتراباً واستلاباً فيصبحوا مجرد قوة احتياطية في أسواق العمل الأسود، أو مجرد أدوات في عالم المافيا الاجتماعية والعالم السفلي.
ولتوضيح هذه الإشكالية، أي إشكالية التحديث والحفاظ على الانتماء، وكيف يصوغ مهند فنياً المعادلة لمواجهتها ، نلاحظ ونلمس ذلك لدى المقارنة بين لوحة بيت الشَّعْر/الخيمة في الصحراء وبيت الحجر في القرية أو المدينة حيث يفتح مهند الأفق للحركة والتفاعل والإفادة من العصر والحداثة، لكن من دون الأساءة إلى العمق، إذ تتمّ هذه العملية بسلاسة ضمن نواظم وضوابط واضحة وواعية وعلى نحو يحمي روح الأصل ويبقيها حاضرة بوضوح وقوة. إنها تحوم مثل ملاك حارس للوعي لوحة النساء الجالسات أمام البيت بلباسهن الأصيل، القهوة و«الجواعد» التي يجلسن عليها وطريقة الجلوس، والاحترام، ورصانة الوجوه وعفويتها، والبيت المشرع الأبواب كأنه الخيمة نفسها المشرّعة دوماً للضيف والمحتاج، فليس هناك ما نخجل منه لنخفيه، بل نعتز بما نحن عليه .
في سياقات هذه العملية المتحركة بحيوية في أعماق مهند وأعماله الفنية، نراه يواصل التأكيد على أفكارة ومبادئه الناظمة وهنا يلجأ إلى ما يمكن تسميته بالتشريح الاجتماعي. إنه مشغول بالتفاصيل، كأنه يقول لن أترك شيئاً للمصادفة أو لسوء الفهم. ولذلك فإن أعماله تضج بالحركة والتفاصيل، إنها تفاصيل الحياة والمكان والفضاء. تفاصيل الناس الوجوه والأدوات والنباتات والحيوانات.إنه ينقل ويجسد نبض البيئة المتلاحم مع الناس في تناغم وانسجام مدهشين.
غير أن وعي هذه الحالة وفهم صيرورتها يستدعي التحرك على مساحة أعمال مهند كلها، أي تلك المساحة التي تحتل حيز المكان والزمان، حيث تخلق الأعمال بمجملها وبصورة تدريجية ما يشبه الحقل المغناطيسي في المعنى الاجتماعي والجمالي والانفعالي والنفسي، الأمر الذي يمنحها سطوة قوية تتبدّى في تأثيرها النفسي والبصري وتأثير ذلك كلّه في الوعي، بما يمهد لحركة فعل ميداني في اتجاه تحقيق ما يريده مهند كفنان صاحب رسالة عملية لا جمالية فحسب.
بهذا المعنى، ومن خلال متابعة الخيط الناظم أو القوة أو الطاقة السارية في أعمال مهند، تأتي مهمة اللون لفت نظري في هذه الأعمال الحضور الفاعل للون الحنائي، أو لأقل لون البتراء الوردي، أو رمال وادي رم. لون يشي ببهجة تشبه شروق الشمس أو فضاء الفجر أو شفق المغيب. إنه لون يذهب إلى القلب مباشرة، فالرمال حتى وهي تعصف تحتفظ بلونها الوردي. إنها لا تطارد الرجال الراحلين على الخيل أو على الجمال في أبعاد الصحراء ومداها بل ترافقهم. فتعطي حركتهم وعلاقاتهم نبضاً من روح وحنان وقوة وعزم وتآلف. يقول مهند: لتكن الريح ولتكن الرمال، فنحن أهل الحياة مع الرياح والصحراء برمالها، بغضبها وحنانها، بنعومتها وبأسها. كم هو جميل هذا البعد الذي يتبدى في الكثير من أعمال مهند فيشحنها بطاقة روحية ونفسية مضاعفة فيضاعف تأثيرها ويرتقي بجمالية البصر إلى مساحات جديدة تذهب نحو عمق الإنسان ووعيه.
أما البعد الآخر أو التجسيد الذي يركز عليه مهند في أعماله فيتجلى في الرسائل والدلالات التي تحملها وتعبر عنها الوجوه والأجساد الحاضرة في تلك الأعمال، سواء الوجوه الإنسانية أو وجوه الكائنات الحية الأخرى، الحاضر منها وفيها والغائب عنها. نظرات فيها مسحة من حزن ورجاء وانتظار ونداء. يبدو ذلك واضحاً في لوحة «غزالي البدن» حزن مشوب بالانتظار والتأمل والحذر ونداء صامت مع رجاء دفين. وهي النظرة ذاتها التي يرسلها الحصان الواقف في هدوء بجانب الخيمة في لوحة أخرى. إنه يقف وينظر بصمت إلى البعيد كأنه يفكر في ما يدور. نظرة تتقاطع مع لوحة الوجه للمرأة التي تدخن الغليون. إنها لوحة هائلة المعاني تجلس فيها تلك المرأة العنيدة والحكيمة مع الطبيعة كجزء منها. خلفها أفق بعيد، تدخن وتفكر وتنظر، تنحني قليلاً نحونا، تنظر في عيوننا مباشرة كأنها تحاكمنا. تدخن بصمت، لكنه الصمت الذي يقول كل شيء. إنها تدفع بتضاريس وجهها ويديها اللذين بلون الصحراء لكي تحكي قصتها، أو قصتنا الأزلية مع هذه الأرض. لقد أبدعت يا مهند في هذه اللوحة. جلسة تذكرني بالهنود الحمر، فيما يذكرني الغليون بغليون السلام لدى الهنود الحمر، كأننا أمام عملية تناصّ فني وروحي بين عالمين وروحين تواجهان التحدي ذاته وتحملان الهموم عينها ولهذا تخشى هذه المرأة الأردنية العربية المصير عينه.
كأني بتلك المرأة الباسلة تهمس لنا برجاء، لكن بقوة وحكمة: لا تجعلوا مصيرنا هو نفسه مصير الهنود الحمر. لا تسمحوا بأن تصبح ذاكرتنا وتراثنا وصحراءنا ووعينا مثل المحميات الطبيعية المحوطة بالأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة. انتبهوا، نحن الأصل. من هنا جئتم، فلا تجعلونا فرجة لأحد. هل وصلت الرسالة؟ هل قرأتك بصورة صحيحة أيها الفنان الأردني المبدع مهند قسوس؟
بعد ذلك كله تبقى هناك مسألة أخيرة، وبالتأكيد لن تفوتني كفلسطيني استخدم هنا تعبير فلسطيني لوظيفة محددة، فأنا إنسان عربي مسكون بالعرب أجمعين، وهذا لا يتناقض على الإطلاق مع فلسطينيتي .
المسألة التي أقصدها هي السؤال الآتي: أين فلسطين في أعمال مهند؟ هل يمكن لفلسطين أن تغيب عن وعي وذاكرة فنان بغريزة وحدس ورهافة مهند؟ أليست عمليات الشطب والتشويه للوعي والذاكرة في الأردن وغيرها هي عملية الشطب والتشويه واحتلال الوعي نفسها التي يقوم بها المشروع الصهيوني ضد فلسطين وشعبها العربي منذ نحو مئة عام ولا يزال؟ إذن أين فلسطين؟
أجزم هنا، إلى حد اليقين، أن فناناً بمستوى مهند ووعيه ومقيم على مرمى بصر أو رمشة عين من فلسطين، لا يمكن أن ينسى وطنه فلسطين. لا أعتقد ذلك، ولا أريد أن أعتقده. فنان بهذا العمق لا يمكن أن تغيب عن باله ووعيه وقلبه فلسطين. أي أنني متأكد كفلسطيني بأنني موجود وحاضر وبقوة في أعماق أعمال مهند، وفي أعماق وعيه، إذ وجدت ذاتي في تلك الأعمال ومن دون عناء… لكن كيف؟
مثلما قلت، مهند فنان مقاوم يقاوم التغريب والاستلاب، ويحرس في الوقت نفسه الذاكرة والوعي بعناد. فنان مسكون بالسياقات والتاريخ. انطلاقاً من ذلك، يمضي نحو أهدافه ويؤكد على ثوابته، بما في ذلك فلسطين، إنما بطريقته الخاصة. يعلن في أعماله أننا إذا نجحنا في حماية ذاكرتنا ووعينا وجذورنا كمجتمع وشعب عربي نستعيد ذاتنا، وبالتالي نستعيد حضورنا وحقوقنا، وفي الجوهر منها فلسطيننا. أما من يضيّع ذاكرته ولا يحمي وعيه ولا يحافظ على هويته فلن يستعيد وطناً، بل قد يضيّع ما تبقى. فمن يسمح باحتلال ذاكرته ووعيه يصمت على احتلال الوطن، أما من يحرر ذاكرته ووعيه ويستعيد ذاته فيملك الشرط الحاسم لتحرير الذات وتحرير الوطن. تلك معادلة شريفة وصادقة، وغير ذلك، أي حديث عن فلسطين في غير هذا السياق هو مجاملة ولغو. المقاومة هي فعل عميق وشامل وليست مجرد شعار. إنها تبدأ من روح الشعب وأعماقه وعند حماية تلك الروح وتغذييتها بالقوة الأصيلة يمكن مجابهة جميع العواصف الآتية من الخارج مهما تكن عاتية، فالعامل الذاتي هو الأساس، وجوهر العامل الذاتي هو الإرادة، والإرادة ركيزتها الهوية والثقافة والذاكرة المتوهجة المعتدة بذاتها التي ترفض أي اغتراب أو استلاب أو دونية أمام غيرها إنها مستعدة للتفاعل، تعطي تأخذ ولكنها لا تسمح بالضياع.
لم يقل لي مهند ذلك كله بصورة مباشرة، بل قاله لي وبوضوح من خلال أعماله، وسيقول لكم وبالوضوح عينه حين تتأمّلون أنتم أيضا تلك الإبداعات. من هنا قوة تلك الأعمال وتأثيرها وجمالها وخصوصيتها، إنها ليست في جمالياتها التقنية أو الأسلوبية، على أهمية ذلك بالطبع، بل في ما تحمله من رسائل وروح وفكر ورؤية، وما تمثله من قوة تحريض لوعي الذات والاعتزاز بالهوية والانتماء القومي والحضاري. لذلك كله وجدت نفسي بسهولة في أعمال مهند، ولذلك كلّه وجدت أيضاً فلسطين حاضرة بكامل ثقلها وبهائها فيها. إنها فلسطين التي تقيم كخافية مدهشة في وعي مهند وذاكرته المرهفة والحادة، مثلما تقيم في أعماق كل عربي. ولولا ذلك لما كنت وجدت نفسي ووجدت فلسطين بهذه السهولة في أعمال مهند الإبداعية، وبالتالي لما كنت كتبت ما كتبت.
فهل ما رأيت وأحسست ووجدت هو كذلك يا مهند؟
صفحة الكاتب:
https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374