هيبة الدولة من كرامة مواطنيها… وسارقو الشعب معروفون بالوجوه والأسماء
القنصل خالد الداعوق _
علة العلل في بلدنا الجميل هي في سياسيّيه، أو لنقل في الأعمّ الأغلب من سياسيّيه. فهؤلاء لا همّ لهم إلا في كيفية الوصول إلى المناصب والبقاء فيها مهما كلّف الأمر، ومن دون أيّ اعتبار لكلّ القيَم الوطنية والقومية والأخلاقية والإنسانية.
هم مستعدّون لفعل أيّ شيء لتحقيق أهدافهم وأغراضهم ومصالحهم، يتاجرون بالطائفية والمذهبية. يتّبعون الأساليب الفاسدة والمفسدة. ينفذون الأوامر الخارجية، ويتزلّفون خانعين أمام الدول الكبرى، سواء في المنطقة أو على مستوى أوسع، لكي يحافظوا على امتيازاتهم ومكتسباتهم وعلى المناصب بكلّ مستوياتها لهم ولذريّتهم من بعدهم.
تاجروا بالقضية الفلسطينية وتعاملوا معها كسلعة لِجَني الأموال، ولتقديم الولاء لمن يلزم في الخارج أيضاً من أجل الحفاظ على الكراسي والحصص والمغانم.
هم ممثلون للشعب كما يُفترض، لكنهم تفوّقوا على نجوم هوليود في التمثيل على المواطنين وبيعهم الأوهام بغد أفضل بينما هم يبيعون البلد وأبناءه ومستقبل أجياله، فقط من أجل مصالحهم الآنية الضيقة.
مارَسوا السرقة علناً ومن دون أيّ وازع أو رادع، ضخموا قيمة المشاريع ولم يلتزموا بما تقتضيه الأصول عبر إخضاع هذه المشاريع التي كلفت المليارات من الدولارات لإدارة المناقصات، ثم للرقابة المسبقة واللاحقة، بل كانت تلزيماتهم بالتراضي، وكانوا هم أنفسهم المقاولين بأسماء صورية يدور أصحابها في فلك كبار القوم، فكانت النتيجة أنّ المشاريع لم تنفذ كما يجب، في كلّ القطاعات من دون استثناء، في الطرقات التي نراها اليوم مليئة بالحفر، وفي الأنفاق المعتمة والمهترئة جدرانها وسقوفها، وفي الكهرباء التي لا تأتي، وفي المياه التي تذهب هدراً، وفي الهاتف العادي والخلوي الذي تنقطع اتصالاته على عدد الدقائق ثم تأتي الفواتير الزعبرة على عدد الدقائق أيضاً وليس الثواني كما هو معمول به في كلّ دول العالم، ويُقال الأمر نفسه عن الإنترنت وأليافه البرية والبحرية التي سمعنا عنها الكثير ولم نرَ سرعة ولا من يسرعون.
ثم جاءت المصارف ومِن خلفها ومِن أمامها المصرف المركزي، ومعهم أرباب السلطة الذين طوّبوا كراسيها ومفاتيحها بأسمائهم طوال ثلاثة عقود من الزمن، جاؤوا ليتواطأوا على ودائع المواطنين مقيمين ومغتربين، ويواصلوا النهب الذي مارسوه ولم يشبعوا طيلة الفترة السابقة.
بأيّ حق أو عدالة أو قانون تقوم المصارف، ويسمح لها البنك المركزي، بالتقنين على المودعين وإجبارهم على سحب مبالغ محدّدة وقليلة من ودائعهم، وبالليرة اللبنانية حتى لمن كانت وديعته بالعملات الأجنبية، وبسعر أدنى بكثير من سعر صرف هذه العملات في السوق، في حين أنّ هذه الودائع هي بكاملها حقّ لأصحابها ويمكنهم متى أرادوا التصرّف بها، وسحبها بالعملة التي أودعوها في المصارف التي تفرض عليها القوانين أن تكون على قدر الأمانة، لا أن تخون هذه الأمانة وتخالف القوانين.
والأمر الذي يشكل مدعاة للأسف الشديد هو أنّ مَن أعطيت لهم مسؤولية تنفيذ القوانين نراهم يعاونون المصارف في ما تقوم به تجاه المودعين، بدلاً من أن يكون دورهم منع هذه الممارسات وإلزام المصارف بأن تلبّي حاجات الذين وثقوا بها وأودعوا لديها جنى أعمارهم، خاصة أنّ هذه المصارف حققت طيلة السنوات الثلاثين الماضية أرباحاً طائلة نتيجة استثمار أموال المودعين في سندات الخزينة اللبنانية بفوائد عالية جداً. بما يعني أنّ ما تراكَم من أرباح في خزائن المصارف هو بفضل أموال المودعين الذين تحجز المصارف أموالهم اليوم بذرائع غير مقبولة بكلّ الأشكال والمقاييس.
هذه الأرباح الطائلة مضافة إليها المبالغ الهائلة التي ذهبت في مزاريب الهدر والسرقات والصفقات، هي نفسها التي تمثل اليوم حجم الدين العام الذي يرزح لبنان تحت أعبائه الثقيلة. لأنّ هذا الدين العام الذي وصلت أرقامه إلى الفلك، لم يتكوّن نتيجة الاستدانة من أجل تنفيذ مشاريع إنمائية وإعمارية في البنى التحتية وفي قطاعات ومرافق من شأنها أن تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد والنمو بما يعيد إلى الخزينة العامة كلفة تلك المشاريع أضعافاً مضاعفة. بل أتى الدين العام ليُصرَف أو بتعبير أدقّ ليُهدَر بنسبة كبيرة جداً منه على تغطية الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة، التي وصلت في منتصف التسعينيات إلى حوالى 45 في المئة، وقد دخلت هذه العائدات الخيالية إلى خزائن المصارف وإلى حسابات أصحابها وأصحابهم في لبنان والخارج.
من هناك بدأ مسار تعاظم أرقام الدين العام حتى وصل اليوم إلى نحو 100 مليار دولار، أيّ بما يفوق مرّتين أو أكثر حجم الناتج المحلي المقدّر بنحو 55 مليار دولار عام 2018، والذي انخفض بل تدهور في العامين 2019 و2020 إلى مستويات متدنية جداً نتيجة انفجار الأزمة المالية وانكشاف قصة تركيب الطرابيش التي كانت تغطي الفضائح الحاصلة في إدارة المالية العامة في البلد.
والأكيد أنّ المسؤولية عن ذلك يتحمّلها كلّ مَن شارك في السلطة طوال تلك السنوات، سواء في الحكومات المتعاقبة أو في مصرف لبنان. ولذلك فإنّ الخطوة الأولى على طريق المعالجة تكون بأن يتحمّل هؤلاء المسؤولون ومعهم أصحاب المصارف وإداراتها تبعات ما ارتكبوه من جرائم موصوفة بحق اللبنانيين عموماً وبحق المودعين خصوصاً، وأن يعيدوا إلى الخزينة العامة كلّ ما جنوه من أموال بشكل مخالف للقوانين، وتحديداً الفوائد المضخمة عن قصد على سندات الخزينة والهندسات المالية التي حصلت بين 2016 و 2019، وهي مبالغ بمليارات الدولارات وتفوق بأضعاف المساعدة التي يطلبها لبنان من صندوق النقد الدولي.
وإذا لم يتمّ تنفيذ هذه الخطوة، ولم تتمّ محاكمة هؤلاء على ما اقترفوه من جرائم بحق الوطن واقتصاده وشعبه، فإنّ كلّ ما يُقال عن خطط إصلاحية ومعالجات اقتصادية ومالية سوف يبقى حبراً على ورق ولن يؤدّي إلى النتائج المرجوّة.
ثمّ كيف يمكن الحديث عما يُسمّى هيبة الدولة؟ فيما كرامة الشعب تُنتهك يومياً إما على أبواب المصارف أو المستشفيات أو مخازن بيع المواد الغذائية، حيث لم تعد الغالبية العظمى من المواطنين قادرة على تأمين قوت يومها نتيجة تفاقم الأزمات المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والمالية؟ هناك مواطنون حُجزت أموالهم في المصارف وتدنّت قيمتها كثيراً نتيجة القرارات الدكتاتورية لمصرف لبنان الذي يريد تغطية المصارف وحمايتها، حيث يُسمح للمودعين بالعملات الأجنبية سحب أموالهم بالليرة اللبنانية وبسعر أقلّ من نصف السعر الفعلي للعملات الأجنبية في السوق، وأيضاً للمودعين بالليرة اللبنانية يتمّ تقنين سحوباتهم وفق ما تراه إدارة هذا المصرف أو ذاك، وأحياناَ يعود القرار لفروع المصارف. والأمر نفسه ينطبق على تجار المواد الغذائية الذين يتحكّمون بالأسواق والأسعار كما يشاؤون…
إنّ هيبة الدولة هي من كرامة المواطن، وإذا كانت الدولة عاجزة أمام مافيا التجار والمحتكرين، أو خاضعة لضغوط داخلية أو خارجية. فهذا يعني أنّ هناك انتهاكاً للاستقلال والسيادة، ولا بدّ في هذه الحال أن يتحرك اللبنانيون باتجاه المطالبة باستفتاء شعبي تجريه شركة خاصة محلية أو أجنبية يتمّ تكليفها بهذه المهمة كما يحصل في كلّ دول العالم لاستطلاع رأي المواطنين ومعرفة ماذا يريدون، وبالتالي العمل على تحقيق إرادتهم. ولكن عندنا لا يُسأل المواطن عن رأيه، لأنّ المسؤولين لا يريدون ذلك خاصة أنهم يدركون أنّ الناس وصلت إلى مرحلة لم تعُد معها قادرة على تحمّل كلّ هذه الأعباء، وملّت من اللجان والاجتماعات والوعود، وباتت الحاجة ملحة إلى حلول سريعة لتأمين أبسط مقوّمات الحياة…
*أمين عام منبر الوحدة الوطنية