حزيران 1949 في دمشق تحضيراً للثورة القومية الاجتماعية
} الأمين بشير موصللي
في مذكراته، يتحدّث الأمين بشير موصللي (الصفحات 287 – 289) عن التحضيرات التي قام بها في دمشق قبيل الثورة القومية الاجتماعية.
ننشر ذلك للإطلاع على أحد جوانب الاستعدادات التي كانت تتمّ في دمشق للمشاركة في الثورة القومية الاجتماعية.
ل. ن.
*
«السائق تحسين، سائق يعمل أمام فندق «أوريان بالاس» في دمشق بسيارته التاكسي الشامية عند ساحة محطة الحجاز. وهو مواطن عادي مؤدّب مهذب كتوم قدّمه لي وعرّفني عليه مدير الفندق نجيب الشويري، وهو عضو في الحزب – ونذكر أنّ الزعيم يقيم في بيت نجيب الشويري ببناء كسم وقباني – وبناء عليه اتفقت مع تحسين على دفع مبلغ مقطوع يومياً ليبقى تحت تصرّفي طوال أربع وعشرين ساعة في اليوم، ابتداءً من الأيام العشرة التي سبقت إعلان الثورة وبدء العمليات العسكرية.
كنّا بحاجة إلى سيارة للتنقّل بين الأحياء وتفقّد البيوت التي بدأت تستقبل بعض الرفقاء المقاتلين. وكان بيت الرفقاء هواويني(1) واحداً من البيوت التي استوعبت أكبر عدد من الرفقاء المسلحين، ولم يكن لدى أيّ من أعضاء الحزب في دمشق سيارة خاصة سوى رياض سكر، وهي لوالده، وجورج غناجة وصبحي فرحات، وسيارة زكي نظام الدين تحت تصرّف الزعيم وهو من القامشلي، وسيارة إدمون كركور(2) في حماة.
بدأ المقاتلون يصلون دمشق أفراداً أو في مجموعات صغيرة حسب الوضع، وأنا أتولى استقبالهم بدءاً من أواخر شهر حزيران. وتوزّعوا على بيوت أعضاء الحزب حسب إمكانية استيعاب كلّ بيت. ولا بدّ هنا من تسجيل العطاء والبذل والسخاء والتضحيات من الجميع، ضيوفاً ومضيفين. ففيما بعض البيوت استوعبت ما فوق طاقتها، تحمّل «الضيوف» أيضاً ضيق الأمكنة والنوم على الفرش الضيّقة في أشدّ أيام الصيف حرارة، وبعض آخر أرسل زوجته وأولاده عند أهله أو أهلها للحصول على مساحات أوسع. وكان المشكل أنّ معظم أعضاء الحزب شباب لم يتزوّجوا بعد في تلك السن المبكرة، ولم يكن عمر الحزب تجاوز السبعة عشر عاماً، فمعظمهم يقيم عند أهله وفي ذلك صعوبة لاستضافة ضيوف. ويومها تحوّل منزلنا في المهاجرين إلى فندق لكثرة ما استوعب، بمن فيهم الصدر عسّاف كرم.
الطعام كان في معظم الحالات يؤمّن ذاتياً، ومن دون تعويض أحياناً، لرفض صاحب البيت التعويض. وفي أحيان كثيرة كنت أرغم صاحب المنزل على قبول التعويض لتأكّدي أنّه سيستدين ليؤمّن الطعام للمقاتلين. وفي أحيان أخرى كنت أزوّد الجميع بطعام جاهز من «الصفائح» أو السندويش المحشوّ بالكورن بيف.
«جميع المقاتلين» كانوا مسجّلين في دفتر حضّرته خصيصاً يتضمّن الاسم والعمر والمهنة والمسؤولية والوحدة الحزبية والسلاح الذي يتقن استعماله والبيت المقيم فيه بدمشق، حتى يتأمّن جمعهم لحظة الانطلاق بهم نحو المعركة. أمضيت تلك الأيام شبه مقيم في تاكسي تحسين، أنتقل من بيت إلى بيت أتفقّد المقاتلين وألبّي حاجاتهم المعيشية والصحية والنفسانية، وأعود إلى البيت قُبيل الفجر لأجد عساف كرم قد وصل قبلي بقليل أو بعدي بقليل.
أذكر أنني كلما زرت المقاتلين ليلاً ينظرون إليّ جميعهم نظرة واحدة، تنطق أعينهم بمعنى واحد وسؤال واحد في وقت واحد، تتساءل من دون كلام: «هل صدر الأمر بالتوجّه نحو ساحة المعركة؟». أجيبهم بالأسلوب ذاته، ابتسامة ترفع حاجبي إلى الأعلى أن «لا» لم يصدر الأمر بعد. وأمضي بينهم فترة من الوقت نتداول بعض الأمور، أو نتسامر إلى أن أشعر بلكزة ساعة يدي تنبّهني إلى أنّ الوقت حان للزيارة التالية.
في الصباح الباكر، أراجع مع الصدر عساف كرم كل ما قمت به من جولات، من خلال تقرير عن روحيّة المقاتلين وحماسهم، وأتلقّى توجيهاته. ثم أبقى منتظراً حتى يلتقي الزعيم ويتلقّى توجيهاته، ويبلغني إن كان فيها شيء يخص مهمتي قبل أن أنطلق في جولتي اليومية.
في وقت موازٍ للاستعدادات في دمشق، يصل نواف حردان إلى مقرّ الزعيم في أوائل تموز بعد رحلة شاقة من لبنان ويتعرّف على عساف كرم وزيد الأطرش، ويجلسون معاً يناقشون خطة المعارك وخطة نواف حردان، قبل أن يدخل عليهم سعاده محيّياً نواف بحرارة ليبحث معهم في الموضوع».
*
وفي الصفحات 249 – 251 يروي الأمين بشير:
يعود من بيروت إلى دمشق منفذها العام عصام المحايري عقب حادث «الجمّيزة» مباشرة، وقد حضره وشاهد بعينه مداهمة بيت الزعيم وتواريه واعتقال كلّ من كان في الحديقة من أعضاء الحزب… ولولا الحظ لاعتقل المحايري معهم. وها هو بعد خمسة أيام من عودته يزور سعاده فور وصوله إلى بيت معروف صعب في دمشق، ويستمع منه إلى تفاصيل رحلته من بيروت إلى دمشق، وهي لا تختلف جوهرياً عن رواية فؤاد زحلان.
يطلع المحايري الزعيم على استعدادات القوميين، ونقرأ ما كتبه لي بخط يده حول هذا الموضوع:
«… أطلعت الزعيم على وضعنا في المنفذية، وعلى استعداداتنا وخطتنا للقيام بعمل في لبنان (احتلال قلعة راشيا ورفع علم الزوبعة لمدة أربع وعشرين ساعة وقيامنا بحملة تبرّعات لشراء الأسلحة)… تمكنّا خلال عشرة أيام من جمع خمسين ألف ليرة سورية (وهو مبلغ كبير جداً في ذلك الزمن يمكّن المرء من شراء 12 شقة سكنية على الأقل أو ما لا يقل عن خمسين سيارة)، خصوصاً أنّ القوميين كلّهم من الموظفين وصغار الكسبة. وما من ريب أنّ اندفاع الرفقاء وعطاءاتهم ممّا يستحق الفخار، بعضهم باع «مصاغ» عائلته وتبرّع بقيمتها، بعض رفقائنا كانوا يعملون في «كيّ الثياب» في «سوق الخجا» على مكاوٍ كبيرة بالأرجل كان يتمّ تحميتها على وابور الكاز، هؤلاء باعوا مكاويهم وقدّموا ثمنها تبرّعاً. الرفيق الدكتور راتب حراكي(3)، وكان تخرّج منذ عام أو عامَين من الجامعة وعمل طبيباً في الأرياف الفقيرة، جاءنا ومعه ثماني ليرات ذهبية هي حصيلة عمله، وأصرّ على تقديمها متمنياً أن يشترك في العملية العسكرية. وقد احتاج الأمر أن يستدعيه الزعيم ويبلغه عدم الحاجة إليه، وهو الطبيب، لإقناعه بعدم المشاركة لعدم إلمامه باستعمال السلاح». (الدكتور حراكي من معرة النعمان انتميت للحزب بواسطته، شارك في العمليات الحربية مع زيد الأطرش كطبيب، وكذلك شارك غيره بالتبرّع بالمال – الكلام للأمين بشير).
ويتابع المحايري ذكرياته فيروي لنا كيف «أنّ الرفيق راتب حراكي كُلّف مع رفيق آخر بشراء الأسلحة عن طريق ميشال الديك في درعا وأديب الصلاحي الأردني الضابط العامل على الحدود الأردنية في الجمارك (كلاهما سيشارك بقتل رياض الصلح في عمّان بعد سنتين)، ليقوم الاثنان بشراء الأسلحة من عمان، حيث كان بيع الأسلحة مباحاً، وتمّ نقل السلاح بالشاحنة إلى الحدود حيث تمّ توقيف الشاحنة. وبعد المراجعات مع دمشق، أبلغتنا الشرطة العسكرية أنها ستحتفظ بالسلاح لنا كأمانة، ويمكن لنا استلامه في يوم تنفيذ العملية. وهكذا كان، ونقل السلاح معنا إلى الحدود قرب دير العشائر في سيارة للشرطة العسكرية، وهناك تسلّمه رفقاؤنا». (انتهى حديث المحايري).
لم يكن السلاح المشترى من الأردن وحده السلاح المتوافر لدى القوميين بعد حادث «الجميزة»، فقد تبرّع عدد من الرفقاء في «سورية» بما لديهم من سلاح عادي، وتسلّمته أنا شخصياً بتكليف من عساف كرم وأودعته في عدد من بيوت أعضاء الحزب، ويوم التوجّه إلى لبنان في الباصات لبدء العمليات اصطحبناه معنا.
تلك كانت بعض صور الوضع في دمشق بُعَيد وصول سعاده واتخاذه من دار نجيب الشويري مقراً رسمياً له بعلم السلطة. ولم يكن يسمح لأحد بزيارة المقرّ، ما لم يكن مسجلاً في قائمة المسؤولين الحزبيين أو الموافق على حضورهم بأمر من الزعيم وتزكية من المنفذ العام وقائد العمليات العسكرية عساف كرم، ولكلّ وظيفة ومهمة إدارية أو عسكرية أو مالية أو سياسية. أما مصطفى سليمان نبالة(4)، فقد استدعاه الزعيم من بيروت، وكان يدرس في الجامعة الأميركانية، وعيّنه ناموساً خاصاً، وهو فلسطيني من قرية بيت نبالة، رافق الزعيم حتى لحظة دخوله سيارة الموت والخيانة إلى القصر الجمهوري في المهاجرين، كما سيتبيّن لنا. وقد ذيّل توقيعه بعض البلاغات التنفيذية لقرارات الزعيم وأوامره الخطية.
غرفة العمليات ببناء كسم وقباني بدمشق يداوم فيها عساف كرم ويحضرها الزعيم أحياناً عندما لا يكون مجتمعاً أو في لقاء مع آخرين، فيقوم باستقبال القادمين من لبنان ومعظمهم يحضرون إلى مكتب يوسف اليازجي قرب القصر العدلي اليوم، ومن هناك يتمّ نقلهم إلى المقرّ. وعلى الرغم من كلّ النشاط والحركة المنظمة، ظلّ المقرّ شبه مجهول حتى من معظم أعضاء الحزب في دمشق، فلا أحد يسأل أو تدفعه الحشرية ليعرف، يكفي أنّهم اطمأنّوا لوصول سعاده إلى دمشق سالماً «.
هوامش:
(1) عرفت منهم الأمين يوسف هواويني، وتواصلت معه كثيراً في فترة تواجده في سويسرا. وكتبتُ عن شقيقه الرفيق المناضل إلياس الذي بقي مقعداً لسنوات طويلة جرّاء إصابته برصاصة في عموده الفقري.
(2) إدمون كركور: للإطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
(3) راتب حراكي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(4) مصطفى سليمان: مراجعة الموقع المذكور سابقاً.