مصر وتركيا… اشتباك التاريخ والاستراتيجيا
سعادة أرشيد _
درجت عادة الخلفاء من بني أمية وبني العباس في عهودهم الأولى على الزواج من قرشيّات أو من بنات أشراف العرب، وذلك بهدف عقد التحالفات والحفاظ على الثقافة وشرف النسب، وكان آخر مَن تمتع بهذه المواصفات الخليفة العباسي السادس الأمين محمد بن هارون الرشيد من ابنة عمه زبيدة، ورث المأمون ذو الخؤولة الفارسية الخلافة ثم خلفه عام 790 المعتصم بن هارون وأمه جارية تركية، واعتمد على أخواله من العنصر التركي في إدارة الدولة، الذين أصبحوا حكام هذه البلاد حتى عام 1918 بأسماء مختلفة، ترك، غز، ديلم، سلاجقة، زنكيّين، ثم مماليك وأخيراً العثمانيين.
قرعت حملة نابليون على مصر الجرس باتجاه التغريب – والذي كان يعني في حينه التقدّم والانفكاك من التخلف وإطلاق طاقات العقل الحبيس في القمقم العثماني –، تسلّم حكم مصر باسم الدولة العثمانية الألباني الشاب محمد علي باشا، الطموح والمعجب بما شاهده من بقايا الحملة الفرنسية، سرعان ما انطلق مشروعة للانفكاك والاستقلال عن الدولة العثمانية سياسياً ومعرفياً. في السياسة طرد فلولهم من مصر ثم ارسل ابنه إبراهيم على رأس جيشه العصري ليطردهم من سورية ووصلت عساكره إلى مشارف اسطنبول، ولكن القوى العالمية أجبرته على التراجع. معرفياً أخذ محمد علي عن الفرنسيين طرقهم العسكرية في الحرب وتنظيم الجيش وإدارته وتدريبه، ثم ابتعث آلاف الشبان المصريين الى فرنسا لنيل العلوم الحديثة من طب وصيدلة وهندسة وزراعه وهندسة الري وبناء السدود ثم في القانون والإدارة والترجمة، وهؤلاء من قاد لاحقاً نهضة مصر. كان ذلك في الوقت الذي سيطر فيه الخمول والكسل على الدولة العثمانية، التي أخذت مظاهر العفن والتآكل تعلن عن نفسها فيما السلاطين وولاتهم منغمسين بالفساد عصيين على الاستجابة لحاجات العصر. وفي عهد الخديوي اسماعيل أصبحت مصر مستقلة حقيقة إلا من حيث الشكل، وأتت بعثات محمد علي أُكلها فأصبحت مصر الأولى عالمياً في إنتاج القطن، ورائدة في الصناعة والزراعة، تملك مؤسسات تعليمية ومعاهد ذات مستوى رفيع، إدارة الدولة وفق النموذج الفرنسيّ، دواوين موظفين ومحاسبة وفتوى وتشريع، دار أوبرا ومعاهد موسيقى ومسرح وغير ذلك من مظاهر العصرنة.
لما كانت تركيا زعيمة العالم الشرقي – الإسلامي، في مرحلة ما قبل ظهور بوادر القومية التي بدأت في مصر مع محمد علي وفي سورية في نهاية 1860. ولما كانت تركيا مصطفى كمال قد تنكّرت لماضيها، فألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية الجامعة، وأطلق مشروعه القومي الطوراني الذي يرنو الى الغرب ويدير ظهره للشرق، باعتباره الطريق الوحيد لدخول العصر. لم يكن في الشرق أو عالم الاسلام من هو مؤهّل لوراثة ذلك الدور الذي استمرّ لأحد عشر قرناً إلا مصر، وباقي الشرق مستعمر او منتدب عليه.
لعبت مصر دورها بنجاح غالباً، وإخفاق في حالات قليلة، ولكنها بقيت الرائد والقائد في الحالتين، مارست دورها العربي والاسلامي، ثم انطلقت في العهد الناصري نحو آفاق أرحب، وأصبحت شريكاً رئيساً وقائداً في حركة عدم الانحياز، وعقدت تحالفاتها العالميّة بمعايير مصالحها العليا أولاً مع الاتحاد السوفياتي ومنظومته، وقادت أفريقيا نحو تصفية الاستعمار ودعمت حركات التحرّر من الاستعمار والتبعية عبر العالم.
مَن ينظر الى مصر اليوم لا يرى إلا الفقر والبطالة والفشل، وتراجع الصناعة والزراعة وكامل جوانب الإنتاج والإبداع، يرى بلداً ملحقاً بدول دونها تاريخاً وثقافة وإمكانيات، لا بل انّ بعضها لا يصل حجمه وتعداد سكانه الى حي من أحياء القاهرة متوسطة الحجم، فما الذي دهى مصر، “أمّ الدنيا”؟
يكمن جذر ما يحصل في مصر الى اتفاق كامب دافيد، وتخلي مصر عن دورها في الدفاع عن العالم العربي، وخروجها من دائرة الصراع، حيث افترض السادات انّ مصر عالم قائم بذاته، مستقلّ عن عالمه العربي والاسلامي، ودائرته الأفريقية، ومحوره في العالم الثالث (حركة عدم الانحياز)، مصر السادات لا تحتاج لهم لا بل انهم يمثلون عبئاً عليها، وإنها بتحررها من الصراع المحوري ومسألة فلسطين وتخففها من إرثها الريادي، وانّ مصر المتصالحة مع “إسرائيل” والمتحالفة مع الولايات المتحدة ستصبح عضواً في نادي الكبار، شأنها شأن روسيا ودول أوروبا الغربية.
هكذا تخلّت مصر عن دورها في قيادة حصتها من العالم لحساب الانكفاء الى الداخل واللعب مع الكبار، وبما أنّ السياسة تشترك مع الفيزياء في كرهها للفراغ، كان لا بدّ لغير مصر أن يملأ الفراغ الناشئ عن الغياب المصري، تخلت مصر أيضاً عن محدّدات أمنها القومي الثابتة، فلسطين ومنابع النيل، وأصبحت وظيفة الأمن ليست في حماية مصر ومصالحها العليا وإنما في حماية النظام والحاكم، وتحوّل الجيش من سياج الوطن وحاميه الى شيء من القطاع الخاص، في احتكار تربية الدجاج وإنتاج البيض، وفي تحويل الصناعات الثقيلة الى صناعات منزلية خفيفة.
عندما تصبح هذه هي مهامّ الأمن القومي ولا تعود المصالح العليا هي ما ترعاه الدولة وتدافع عنه وتستبدل المهام لتصبح الدفاع عن المصالح الضيقة والخاصة، والتراجع هنا لا يعود يتوقف عند حدّ الأمن والعسكر وإنما يتمدّد ليصل كافة مناحي الحياة الاقتصادية والمعرفية والفنية إذ إنها جميعاً من أدوات الأمن القومي الناعم، يمكن مشاهدة ذلك في التعليم المدرسي والجامعي أين أصبح… في الأدب والشعر، في السينما والتلفزيون والموسيقى والغناء.
هذه انعكاسات أربعة عقود من كامب دافيد والمبادرة البائسة، وسياسة الانفتاح الاقتصادي وضرب القطاع العام، هذه المفاعيل لا تحدث بشكل صادم وسريع، وإنما بتراكم التراجعات وتأخذ وقتاً، النظام أمام عجزه عن إيقاف الخطر الوجودي المقبل من إثيوبيا، استدرك وضع الجار الليبي، وقد أخذ الجيش تفويضاً برلمانياً للتدخل في ذلك المستنقع، وهو الذي كان يستطيع ان يتعامل مع الشأن الليبي قبل سنوات. وأمام عجزه عن معالجة الإرهاب في سيناء وقد أخذ يتعامل مع داعش باعتبارها واقع الحال، أخذ يهاجم الفقراء من سكان المقابر والعشوائيات بدلاً من أن يجد لهم مساكن ومدارس ومجالات عمل.
في المقابل ها هي تركيا التي يزعجنا عبثها بأمننا في سورية والعراق ولبنان ثم في السودان وليبيا، وتمدّ ذراعها القوية والطويلة باتجاه القرن الأفريقي والسودان ومؤخراً ليبيا حيث تتحدّى مصر وفرنسا وكلّ أوروبا، وتهدّد الروس بالتدخل بالحرب الأذربيجانية – الأرمينية التي قد تكون وشيكة الوقوع، استطاعت تركيا بعد ان تخلصت من حكم العسكر، تحقيق إنجازات في سائر مجالات الحياة جعلت منها اقتصادياً تحتلّ الرقم (16) في الاقتصاديات العالمية وسياحياً قبلة عالمية، وأنتجت بالأدب والمسرح والدراما التلفزيونية التي دخلت بيوتنا مدبلجة باللغة العربية.
هذا مصير مَن يتهاون في أمنه القومي ويستبدله بأمن حاكمه.
*سياسي فلسطيني مقيم في الصفة الغربية – فلسطين المحتلة