الوطن

متى يتمّ جزّ صوف الكباش ويُمنع سلخ جلود الحملان؟

} علي بدر الدين

يُحكى أنّ أزمة مالية تعرّضت لها ولاية دمشق فأثارت قلق واليها وخوفه، فجمع مستشاريه على عجل وطلب منهم اقتراحات وحلول قبل تفاقم الأزمة المالية وبلوغ الانهيار، فاقترحوا أسهل الحلول والتي لا تحتاج إلى جهد وتفكير، فرض ضرائب على صناعة النسيج المزدهرة في ذلك الزمن. سألهم الوالي: وكم تتوقعون أن نجمع من أموال الضرائب؟ أجابوا: ما بين ٥٠ و٦٠ كيسا من الذهب. ولكنهم أصحاب دخول محدودة ومن أين سيأتون بهذا المال؟ أجابهم الوالي. ردّوا على الفور، يبيعون جواهر وحلي زوجاتهم وبناتهم وبعض ما يملكون من أرض يا مولانا. ردّ عليهم قائلاً: ما رأيكم لو حصلت على المبلغ المطلوب بطريقة أفضل من اقتراحكم؟ فصمتوا لسماع ما سيقوله الوالي عن طريقته، ولكنه وعدهم بالغد عله يكون خيراً.

وفي صباح اليوم التالي، فاجأ الوالي مفتي المدينة بزيارته، وقال له: «جئتك بشكل سري ولأمر مهمّ»، وأضاف: «عرفنا منذ زمن أنك تسلك في بيتك سلوكاً غير قويم وتشرب الخمر وتخالف الشريعة وسأبلغ اسطنبول بفعلتك ولكنني فضلت إخبارك أولاً حتى لا تكون لك حجة عليً». أصيب المفتي بصدمة على ما سمعه وراح يتوسّل الوالي ويعرض عليه مبالغ مالية كبيرة لكي يسكت عن الموضوع ويطوي صفحته، وفاوضه إلى أن وصل المبلغ إلى ستة آلاف قطعة نقدية.

وفي اليوم التالي استدعى الوالي قاضي المدينة وأبلغه بمعرفته بأنه يتقاضى الرشوة ويستغلّ منصبه ويخون الثقة الممنوحة له، فراح القاضي يناشد الوالي ويتوسل اليه لعدم تسريب هذه المعلومات ويعرض عليه مبالغ مالية كما فعل المفتي، ولما وصل القاضي إلى المبلغ الذي دفعه المفتي اكتفى ووعده بما يطلبه.

بعدها جاء دور المحتسب والنقيب وشيخ الكار وكبار التجار ورئيس العسس وغيرهم ممن يملكون الأموال عن طريق الفساد ومصادرة حقوق الناس. وعندما جمع الوالي المبلغ الذي يكفي لانتشال الولاية من أزمتها المالية، جمع الحاشية والمستشارين مجدّداً، وسألهم هل سمعتم أنّ الوالي فرض ضرائب جديدة لكي يجمع ٥٠ كيس من الذهب؟ ومع ذلك جمعت ٢٠٠ كيس بدل الـ ٥٠ التي كنت سأجمعها بفرض ضرائب جديدة.

فوجئ المجتمعون وسألوا الوالي كيف فعلت هذا يا مولانا؟ أجابهم: «إنّ جزّ صوف الكباش خير من سلخ جلود الحملان».

حكاية يمكن إسقاطها على الواقع اللبناني لجهة الأزمة المالية التي يغرق فيها لبنان وباتت عصية على المعالجة والحلّ وأدّت الى الانهيار الاقتصادي وتداعياته المعيشية والإفقارية والتجويعية بفعل الفساد الذي تحوّل عند المنظومة السياسية المتسلطة إلى نهج وثقافة، كما نهب المال العام وإفراغ خزينة الدولة منه وثم تهريبه إلى خارج الحدود وكذلك السطو على أموال المودعين في المصارف بتواطؤ منها مع المصرف المركزي والسلطة السياسية أو بعض منها.

والشبه يبدو جلياً وواضحاً بين حاشية الوالي الدمشقي ومستشاريه وبين الطبقة السياسية في لبنان وحكوماتها وأزلامها وأتباعها ومستشاريها الذين ليس في قاموسهم سوى اقتراح فرض ضرائب جديدة على الشعب والفقراء وتشليحهم حتى رغيف خبزهم اليومي ليبقوا في السلطة وليمتلكوا القوة والنفوذ وليمارسوا هواياتهم في الفساد والنهب والتحاصص وبمنأى عن المساءلة والمحاسبة رغم ما اقترفوه من ارتكابات بحق الوطن والشعب والاقتصاد والمالية العامة والبيئة والصحة والتعليم وانقطاع التيار الكهربائي وشحّ المياه وغيرها مما لا يعدّ ولا يُحصى والنتيجة الكارثية لها يحصدها اللبنانيون بطالة وفقراً وجوعاً وأمراضاً وانهيارات متتالية في كلّ شيء وحتى أنّ المقبل من الزمن لا يبشر بالخير ولا الأمل ولا التفاؤل وفق المعطيات الداخلية والخارجية التي تصبّ الزيت على نار الأزمات المتفاقمة التي حطت رحالها دفعة واحدة على هذا الوطن وهذا الشعب الذي لا يزال معظمه مبهوراً بجلاديه الذين صادروا ونهبوا كلّ حق له وهو يعيش على أحلام مزيفة ولن يصحو منها إلا عند سقوطه المدوّي وضياع الوطن الذي يأويه وإفراغه من كلّ مقومات الوطن وتحويله الى مزارع قبائلية وعشائرية يتحوّل فيها من كان مواطناً الى مجرد رقم في قطيع مسلوب الإرادة والكرامة والحرية والعيش الكريم.

إنّ حكاية والي دمشق وحرصه على ولايته وشعبه وإخراجهما من الأزمة المالية ومعالجة الداء بنفس الدواء الذي استخدمه الفساد والتجار والمتسلطون وأصحاب المناصب في الولاية أو خارجها هي الحكمة بعينها وأمانة الحاكم الصالح والعادل الذي لم يرض أن يتبنّى اقتراح حاشيته الانتهازية بإنقاذ أزمة ولايته المالية على حساب الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة، ولحرصه عليهم فكر وقرّر ونفذ وحقق ما أراد وأنقذ ولايته وشعبه وجمع أضعاف أضعاف ما كان متوقعاً جمعه من فرض ضرائب جديدة على الشعب، كما تفعل الطبقة السياسية في لبنان منذ عقود والتي تبني أمجادها وتراكم ثرواتها على حساب مواطنيها الفقراء وعلى حساب الوطن الذي سقط بالضربة القاضية وقد لا ينهض مهما بلغ التعداد لأنه فقد مقوّمات الوقوف من جديد وتخلى عنه الذين نصّبوا أنفسهم حكاماً له إلى أبد الآبدين أو أنهم سيخلدون استثنائياً مكافأة لهم في لبنان.

من أين سنأتي بحاكم على شاكلة والي دمشق يحمي الفقراء ويعرّي أصحاب المال والسلطة والنفوذ ويهدّدهم بنشر وسخهم وغسيلهم وفضائحهم إذا ما تخلوا في الازمات عن وطنهم الذي فيه ومنه ومن شعبه ودولته تراكمت ثرواتهم وشهدوا البحبوحة التي هم وعائلاتهم وأزلامهم يتنعّمون فيها اليوم وغداً وربما بعد بعد غد، الى أن يفيق الشعب من نومه الذي طال كثيراً ويقرّر الخروج من تبعيته وارتهانه وضعفه واستسلامه لواقعه المذلّ.

من أين نأتي حاضراً ومستقبلاً بمن يتبنّى مقولة الوالي الجريئة والشجاعة، «إنّ جزّ الكباش خير من سلخ جلود الحملان».

فهل يأتي اليوم الذي نشهد فيه جزّ صوف الفاسدين والمستبدّين والظالمين وإسقاطهم عن عروشهم وأبراجهم المشيّدة من أموال الدولة والشعب والفقراء رداً على سلخهم المتمادي لجلود الفقراء والمعدمين والمقهورين من أبناء هذا الوطن قبل أن يعمّم الفقر ويتفشى الجوع ويزداد الظلم والاستبداد والاستعباد ويعدم الوطن؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى