عواصم القرار زحمة حراك تحت النار!
محمد صادق الحسيني
يطلّ العام الميلادي الجديد على رزمة كبيرة من المتغيرات المتوقعة على أكثر من صعيد وفي أكثر من ساحة في عالمنا العربي والإسلامي، ما يدفع بالبعض للاعتقاد بأن ثمة تحولات استراتيجية في المشهد الدولي تتدافع رويداً رويداً لتأخذ بلادنا إلى مشهد متفاوت عما اعتدنا عليه وجديد نسبياً ستكون إحدى تداعياته كما السبب وراء حصوله إكراهاً هو الضعف والوهن المتزايد للأحادية الأميركية في الهيمنة على العالم.
لعل ما أسست له المصالحة السعودية القطرية أولاً، ومن ثم المصالحة القطرية المصرية ثانياً، وكلاهما يرصد على أنه على أنقاض «الربيع العربي» يمكن وضعهما في مقدمة لائحة المتغيّرات تلك.
فالكيان السعودي الذي يأفل نجمه وتتساقط قدراته الإقليمية ساحة بعد ساحة، وهو يرى العالم من حوله يسير على غير رغباته التقليدية، منذ أن خسر الرهان على تغيير المشهد الثلاثي الدمشقي الشهير الممتدّ من طهران إلى الضاحية قرّر على ما يبدو، واستجابة لرغبة دولية عليا الدفع بهاتين المصالحتين في محاولة منه للدخول إلى عصر ما بعد «هزمت الروم فأصبح بقاء الأسد محتوم»…
إذ لا دواء للتخلص من السم الذي اضطرت المملكة السعودية لتجرعه في أكثر من ساحة عربية والاستدارة نحو دمشق رويداً رويداً إلا البوابة المصرية كما يقول عارفون بنسخ الدواء العربية التقليدية.
خطوات كانت ربما لا بد منها عندما تترافق مع ما بدا وكأنه انفتاح أميركي مستجد على القاهرة تمظهر باتصال هاتفي من الرئيس باراك أوباما فمع الرئيس عبد الفتاح السيسي، مرفقاً بالإعلان عن وصول السفير الأميركي الجديد إلى مصر بعد تعلل كسرته واشنطن من الباب العالي.
مصر عبد الفتاح السيسي الذي لم يكن قد مضت أيام فقط على عودته من زيارة وصفت بـ»الاستراتيجية» إلى الصين المنافس الرئيس للولايات المتحدة الأميركية ليس فقط على الساحتين العربية والأفريقية، بل وعلى المستوى العالمي.
كل ذلك يأتي في ظل عملية خلط للأوراق قل نظيرها في أكثر من ساحة مشرقية.
تصعيد مغربي لافت ضد عاصمة المعز يرافقه انفتاح على أنقرة.
متغيرات على حدود رفح في حركة دحلانية مريبة فاقت التوقعات.
جهد حثيث ودؤوب من جانب حماس للعودة إلى مربع طهران.
انفتاح تركي غير مسبوق على بغداد وتغير مفاجئ في الأدبيات الأردوغانية بخصوص الملف السوري وحديث أوغلو عن الخطر الوهابي.
حركة «بوتينية» متدحرجة باتجاه أنقرة والقاهرة وتعزيز للتحالف مع طهران والضاحية الجنوبية في بيروت تدخل في صلب المتغيرات من بوابة لقاء «متميز» يجمع بين بوغدانوف والسيد حسن نصر الله، قيل إن الأول عرض على الثاني إمكانية تزويده بسلاح متطور ما قد يعتبر كاسراً للتوازن، بحسب التعبير الإسرائيلي.
ودائماً وبحسب المراقبين ازدياد منسوب التفاؤل بإمكانية حصول اتفاق إطاري ما بين واشنطن وطهران حول النووي الإيراني.
ما يهمنا في هذه القراءة السريعة هو الإدراك الصيني – الروسي وهو المحور المقابل للمحور الأميركي البريطاني لأهمية كل من القاهرة وطهران وأنقرة من جهة كبوابات أساسية لمقارعة الغرب في اليابسة كما في البحار لا سيما على الطاقة بأسعارها وخريطة أنابيبها وأمن وصولها.
بالمقابل إدراك محور شانغهاي هذا والذي يضم إليه كلاً من الهند وإيران ومجموعة مهمة من دول آسيا المركزية لأهمية البوابة الدمشقية في المزيد في الإمعان في إذلال الهيمنة الأحادية الأميركية وهزيمتها في الميدان وذلك في إطار الحرب على الإرهاب وفي المقدمة داعش وأخواته.
في دراسة نشرها دونغ مانيوان نائب رئيس معهد الدراسات الدولية الصيني التابع لوزارة الخارجية تحت عنوان: صعود داعش.
التأثير والمستقبل
يؤكد بين بنود عدة على ما يلي:
– إن «داعش» يشكل تهديداً للمجال الحيوي لروسيا والصين.
– إن واشنطن «تؤجل» تغيير النظام في سورية وتتقارب مع إيران أكثر فأكثر بسبب حاجتها لطهران في محاربة «داعش».
– إن واشنطن المضطرة للتعاون مع إيران وروسيا والحكومة السورية للجم «داعش» ستكون مضطرة للتخلي عن عقلية الحرب الباردة.
ونتيجة لمثل هذا التقدير فإن بكين ترى بأنها الفرصة التاريخية السانحة لتطرح تحالفاً استراتيجياً مع طهران وتالياً دمشق لمزيد من إضعاف النفوذ الأميركي وذلك من أجل جعله يصل إليها منهكاً في المحيط الهادئ وأن تتدارك للانقضاض على المغرب العربي انطلاقاً من القاهرة لإزاحة الأميركي المتهالك، من الخرطوم حتى كيپ تاون.
هنا يبدو مهماً ما يراه المصري من فرصة تاريخية لإدراك أهمية موقعه في اللعبة الدولية، وهو ما يظهر منعكساً في حركة الرئيس المصري الدولية وتوظيفه للمال السعودي الذي يبدو أن القاهرة لا تزال رهينة له ولا ترى بديلاً عنه في الأفق القومي المصري على ما يظهر من سلوك الرئيس عبد الفتاح السيسي.
بالمقابل وحده اللاعب الإيراني يبدو في هذه الأثناء بأنه اللاعب الرابح والأقوى والأكثر تمدداً في النفوذ على رغم حصار العقود العجاف الثلاثة الماضية وحرب النفط التي أشعلت ضده أخيراً وضد حليفه الدولي الروسي بقرار أميركي سعودي طبعاً كما يقرأ أكثر المراقبين، ومع ذلك لم يؤثر ذلك قيد أنملة في قراره الوطني المستقل كما يتراءى للناظرين.
مرونة عالية جداً مع الأعداء والخصوم، ومروءة مع الأخ والصديق، هكذا هو حال ربان السفينة الإيراني، تماماً كما جاء وصفه على لسان شاعرهم التاريخي الكبير حافظ الشيرازي… وما بينهما دبلوماسية حياكة سجاد، لن تجعله مضطراً لتوقيع «أي اتفاق كان» مع واشنطن حول النووي، بل على العكس من ذلك لا يزال يعلن أنه لا يثق بها وأنه سيهزمها في كل ساحات الاشتباك وأن طهران ستخرج مرفوعة الرأس، كما جاء في آخر خطابات القيادة الإيرانية العليا.
لقد تمرس البعض على رهن قراره بمال الغير وماله.
فيما تمرس البعض الآخر برهن ماله لرفع سقف التوازن الدولي، وإتقان لعبة الاشتباك كما التفاوض تحت سقف النار.
عالم جديد لن يحجز مقعد لائق فيه لأحد إلا من أتقن فن الحراك في الحرب كما في السلام.