الاقتصاد اللبنانيّ بين الشرق والغرب
بشارة مرهج*
من المواضيع الإشكالية التي تطرح نفسها اليوم على المنابر الاقتصادية والإعلامية موضوع التوجّه شرقاً بالنسبة للاقتصاد اللبناني. وهذا الاقتصاد كما هو معروف مرتبط بالغرب ويتبنّى النظرية الغربية القائمة على الاقتصاد الحر وآلياته لا سيما عوامل السوق التي تتأثر برغبات المستهلكين والثروات المتوافرة، وتعمل على استقراره.
أما إذا حدث خلل في هذا السوق فإنّ اليد الخفية جاهزة للتصحيح وهي اليد التي تحدّث عنها في الزمن الماضي آدم سميث، وروّج لها فان زيلاند، وأعطاها ميشال شيحا المفكر اللبناني والمصرفي الشهير إطارها الفلسفيّ وحتى بُعدها الروحي منطلقاً من أنّ لبنان بحكم موقعه المطل على المتوسط والمتصل بالداخل العربي هو مهيّأ للعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، خصوصاً أنه يملك معطيات ثقافية وقدرات علمية تؤهّله للعب هذا الدور بفعالية.
ومَن يدرس الاقتصاد اللبناني منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920، على يد الانتداب الفرنسي، يتعب كثيراً وهو يبحث عن طبيعته الحرة المزعومة في حين يكتشف بسهولة سمات أخرى غالباً ما يجري التمويه عليها. وأولى هذه السمات: تمركز النشاطات الاقتصادية في العاصمة وجوارها حيث المطار والمرفأ والإدارات الحكومية والجامعات والمدارس والمستشفيات والمصارف والمخازن الكبرى والشركات التجارية وحتى الصناعات الخفيفة والتحويلية، بينما تعاني الأرياف التي تعتمد على الزراعة والحرف الصناعية والتجارة المحلية من الإهمال والتخلف والبطالة مما يؤدّي مباشرة الى اختلال الأوضاع السياسية والاجتماعية في المركز نظراً لهجرة الأرياف إليه وخسارة كل من طرابلس وصيدا وصور مواقعها الفاعلة متأثرة أيضاً بإغلاق الحدود مع فلسطين المحتلة ونشوء الحواجز الجمركية والسياسية بين لبنان وسورية.
السمة الثانية للاقتصاد اللبنانيّ أنه حر على السطح احتكاري في العمق، حيث تسيطر عليه منظومات الاحتكار والوكالات الحصرية والكارتيلات والميليشيات، خصوصاً في قطاعات النفط والدواء والغذاء والإسمنت، حتى بات لبنان يحتلّ المرتبة 154 عالمياً على مؤشر الحرية الاقتصادية والمرتبة 12 عربياً والمرتبة 105 في ما يتعلق بمؤشر التنافسية العالمية، مما يدلّ على أنّ الحرية الاقتصادية التي يتغنّى بها أقطاب النظام اللبناني هي مجرد زعم أو خيال وانّ الحرية الحقيقية هي تلك التي تتمتع بها الطغمة المالية المصرفية الميليشياوية الحاكمة التي تضع يدها على ثروات الدولة والبلاد وتستنزف بصورة منهجية وحشية جهد الطبقات الشعبية ومحدودة الدخل وترغمها على الامتثال أو الهجرة مستفيدة من سيطرتها على أجهزة الدولة المختلفة لا سيما المتعلقة بالخدمات والتعيينات.
السمة الثالثة للاقتصاد اللبنانيّ هي انكشافه الدائم للخارج بسبب النمط الاستهلاكي القائم وتدنّي الإنتاج المحلي مما يكشف الميزان التجاري بشكل دائم وصولاً إلى ميزان المدفوعات نفسه باستثناء تلك السنين التي كانت تتدفق فيها تحويلات المغتربين والمواطنين العرب إلى لبنان، وتشهد حركة سياحية مزدهرة وتوجّهاً ملموساً إلى شراء العقارات، بحيث يستوي الدخل الوطني العام مع إجمالي الإنفاق السنوي فيستقر سعر العملة ويتحقق نوع من التوازن والاستقرار غالباً ما يكون ظرفياً.
السمة الرابعة أنّ الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات ويهمل النشاطات الزراعية والصناعية مما يجعله اقتصاداً يعتمد على الاستيراد. وهذا الاعتماد يؤدي الى اختلال كبير في مخزون العملات الأجنبية. وإذا أضيف إليه العجز الدائم في الموازنة العامة كانت النتيجة تراكماً في الدين العام مما يرغم الدولة على الاستدانة الداخلية والخارجية بفوائد عالية حفاظاً على الاستقرار المصطنع القائم على تجميد سعر الصرف ومراعاة الفساد وتمركز رأس المال.
وهنا تكمن اللعبة أو العملية المستمرة لنهب المال اللبناني العام والخاص من قبل قلة موجودة في الدولة والمصارف والبنك المركزي كانت أطرافها متوافقة، على شيء من التباين، في مقاربة الشؤون الماليّة والنقدية حتى انفجرت الأزمة الحالية بعد تخطي الدين العام المعترف به مستوى 95 مليار دولار وبعد انكشاف المصارف وعجز مصرف لبنان عن متابعة الدور الترقيعي التمويهي الذي اضطلع به خاصة على صعيد دمج المصارف والهندسات المالية وتجاوز الضوابط المصرفية والتغاضي عن انحراف بعض أصحاب المصارف وتغطيتهم وخرق قانون النقد والتسليف والانخراط في اللعبة السياسية ومتطلباتها الملوّثة بالفساد. ولما توقفت المصارف عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين وشرعت تسطو بطريقة أو بأخرى على أموالهم، تستقطع منها كما يحلو لها، وتمنع تحويلها كما يطيب لها (إلا لأصحاب الحظوة والنفوذ) أصبح الاقتصاد اللبناني وجهاً لوجه أمام الحقيقة المؤلمة التي تسبّب بها النموذج الحالي الساقط والقائم على الخدمات والرشوة والفساد والاحتكار والتلاعب بالفوائد والأرقام. ولما أصبح التفكير ببدائل من بديهيات الأمور أدلى العديد من الخبراء والعلماء بدلوهم مطالبين بنموذج جديد للاقتصاد الوطني قائم على التنوّع والتركيز على القطاعات الإنتاجية والخدمات واقتصاد المعرفة على اعتبار أنّ هذا النموذج المأمول يحدّ من الاستيراد واستنزاف العملة الصعبة ويزيد من فرص الإنتاج وإمكانات التصدير مما يزيد من احتياط العملات الأجنبية ومما يساهم بالتالي في تخفيض الفوائد وتحقيق نوع من الاستقرار يشكل بدوره جاذباً للودائع والاستثمارات في آن. وهذا هو بالضبط ما يحتاجه لبنان اليوم بعد أن أثخنته الطبقة الحاكمة بالجراح.
ولما كانت العلاقة مع الغرب غير قادرة على تأمين هذه التحوّلات الجديدة التي يحتاجها لبنان بسبب تناقص قدرة هذا الغرب على المساعدة نظراً للأزمات المتتالية التي يعاني منها ونظراً لعدم حاجته للاستيراد من لبنان. ولما كانت أسواق الشرق العربية والأجنبية قادرة على استيعاب السلع اللبنانية ومستعدة للانخراط في عملية النهوض التي يحتاجها لبنان بقروض ميسّرة وفوائد مخفضة، خصوصاً في ما يتعلق بمشاريع الكهرباء والماء والطرقات والسكك الحديدية والأنفاق والمطارات والموانئ كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار أكثر فأكثر نحو الصين المهتمة بالتوجه غرباً والمنفتحة على إمكانية العمل مع لبنان على أسس تجارية مناسبة للطرفين، لا سيما أنها أكثر البلدان تصديراً إليه وأكثر البلدان قدرة على التسليف والإقراض وإنجاز الأعمال نظراً لخبرتها الواسعة في هذا المضمار.
ومقابل هذا الطرح المنطقي بالتوجه نحو دمشق وبغداد ودول الشرق وصولاً الى الصين انبرت الأوساط المستفيدة من النموذج المتداعي والمتخوّفة من أيّ تغيير في السياسات أو التوجهات الاقتصادية يمكن أن يحدّ من سيطرتها وأرباحها انبرت للتشكيك بهذا التوجه مضخمة، عبر أقلامها وأجهزة إعلامها، من مخاطره السياسية وحتى أعبائه الاقتصادية نظراً للصراعات الدولية القائمة معتبرة، ظلماً وبهتاناً، أنّ التوجه الى الشرق يعني إلغاء النموذج الاقتصادي القائم واستعداء الغرب الأميركي في حين أنّ أحداً لم يطرح مثل هذا التوجه وإنْ أصرّت الأكثرية على تصحيح وإصلاح النموذج القائم واعتبار التوجه شرقاً عملية طبيعية تستدعيها الظروف والمعطيات القائمة.
اما الادّعاء بأنّ التوجه شرقاً لن يؤدّي إلى تصريف الإنتاج اللبناني وإفادة لبنان فنستشهد بمواقف السلطات العراقية اليوم وبالأمس التي تعلن عن رغبتها باستيراد مختلف السلع اللبنانية الزراعية والصناعية وتعلن عن رغبتها في تزويد لبنان بالنفط بأسعار تفضيلية، فضلاً عن انّ فتح الحدود بشكل كامل مع سورية بالتزامن مع تحقيق الإجراءات القائمة هناك من شأنه أيضاً الإسهام في فتح أسواق الخليج أمام المنتجات اللبنانية وزيادة التبادل التجاري بين لبنان وسورية ولمصلحتها، وذلك في زمن الحصار الأميركي الذي يكرّس جهده في المنطقة لخدمة مشروع التهويد الذي تقوده الحركة الصهيونية، ونصب الحواجز المصطنعة بين الأشقاء العرب ومنعهم من التقارب السياسي والتكامل الاقتصادي.
وإذا كان البعض يعزو معارضته للتوجه نحو الصين إلى استياء أميركا من هذا التوجه وخشيته من التداعيات السلبية لهذا الاستياء على العلاقات مع لبنان فنحيله إلى أرقام التجارة الخارجية التي تشير إلى أنّ الصين هي شريك أميركا الأكبر على صعيد التبادل التجاري. هذا مع العلم بأنّ أميركا هي الداعي الأول لحرية التجارة في العالم فكيف يجوز لها أن تنهانا عما تدعو هي إليه.
لكلّ ذلك نشعر أنّ تخوّف البعض ومعارضته التوجه نحو الشرق يخفي وراءه رغبة في إبقاء لبنان في المستنقع الذي يتخبّط فيه وصولاً إلى إفقار شعبه نهائياً وإسقاط دولته برمّتها كي يتسنّى له استكمال سيطرته على هذه البلاد الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية. وما يعزز هذا الشعور لدينا الصراع القائم بين أطراف الطبقة الحاكمة حول أرقام الخسائر الكبيرة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني وتوزّعها على قطاعاته ومؤسساته المختلفة مما تسبّب بتوقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يمسك بمفتاح «مؤتمر سيدر» ومساعداته وقروضه في وقت يحتاج فيه لبنان الى مساعدات عاجلة لا تغنيه هي الأخرى عن إصلاحات جذرية وعد بها رئيس الجمهورية والحكومة الحالية من دون أن نشهد حتى الآن توقيف مجرم واحد ممن سرقوا اللبنانيين طيلة عقود، ومن دون أن نشهد استعادة دولار واحد من الأموال التي نهبها أو هرّبها أصحاب السطوة والنفوذ الذين أخذتهم العزة بالإثم وباتوا اليوم يهدّدون الانتفاضة الشعبية وكلّ معارض بالويل والثبور وعظائم الأمور.
*نائب ووزير سابق.