«الجعجعة» متأجّجةٌ في زمن وطنيّ صعب
} د. وفيق إبراهيم
هذه معادلة فاضحة تكشف بين فئة تدافع عن لبنان، وجهات داخلية تواصل رهن وطنها منذ ستة عقود وأكثر لمصلحة النفوذ الأجنبي الأوروبي حيناً والأميركي في معظم الأحيان مع تأييد للعدوانية الإسرائيلية بالصمت او بمهاجمة حزب الله الذي يجابهها، وكلا الأمرين أكثر من فضيحة تستأهل اتهام العاملين بها “بالعِمالة” الكامل كحد أدنى.
هذا ما يستدعي سؤال هذه الفئات المجعجعة عن هوية مشروعها السياسي، ألا تنتمي الى الآلية السياسية التي تحكم لبنان منذ تأسيسه في 1943 وصولاً الى وصول بشير الجميل الى الرئاسة على متن علاقاته المرسخة بصوره مع قادة العدو الإسرائيلي في أكثر من زمان ومكان.
فهل ينسى أحد المقابلة التلفزيونيّة التي أجراها وريثه وشقيقه أمين الجميل مع محطة الجزيرة إثر تسلّمه رئاسة البلاد. وقال صراحة إن حزبه يتلقى المساعدات والسلاح من “اسرائيل” متباهياً بأنه لم يتلقّ حتى كباية ماء من اي دولة عربية… اليس هؤلاء هم من بنى “الكتائب” و”القوات” التي يترأسها حالياً سمير جعجع المشارك في القيادة قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982.
نحن إذاً الآن وسط صراع داخلي بين لبنانيين متمسكين بفكرة لبنان المستقبل وبين لبنان آخر يعمل في خدمة النفوذ الأميركي – الإسرائيلي.
لكن انكشاف التحالف الخليجي مع “اسرائيل” انعكس على اوضاع حلفائها اللبنانيين، فلم يعودوا بحاجة للتستر على تأييدهم للكيان المحتل، بل أصبحوا أكثر تطرفاً من تيار الكتائب والقوات ويضيفون عليهم مدداً في هذا الموضوع.
ما يستدعي سؤال هؤلاء عن مشروعهم السياسي، هل هو محايد ومستقلّ أم أنه جزء من المشروع الأميركي الإسرائيلي الخليجي؟ وماذا يعني مشروع على هذا النمط في بلد يحتوي على سبع عشرة طائفة ومذهباً لكل منها ارتباطاتها الإقليميّة ومشروعها السياسي، الامر الذي يؤكد أن المشروع القواتيّ الحريريّ يطمح إلى بناء دولة متصدّعة بطوائفيّاتها ومرتبطة جيوبوليتيكياً بالأميركيين وعمليانياً بـ”إسرائيل” وتمويلياً بالخليج.
لمزيد من التوضيح فإن سمير جعجع وفؤاد السنيورة وفارس سعيد قيادات دستورية وسياسية لا تزال حاضرة، وأطلقت منذ يومين فقط هجمات حادة جداً على التحالف بين الرئيس ميشال عون وحزب الله، وأصرت على تجريد حزب الله من سلاحه لأنه يدمّر لبنان.
هذه اتهامات قيلت بالتزامن مع قصف إسرائيلي أصاب قرى جنوبية لبنانية وتهديدات من الكيان المحتل نفسه بفتح حرب كبيرة تشمل الداخل اللبناني، وسرعان ما تلقف هذا النمط من القيادات، هذا النهج الإسرائيلي معتبرين أنها فرصتهم للعودة الى السلطة كعادتهم أي على متن ما يعادل حجمهم وهي دراجة هوائية إسرائيلية بديلاً من الدبابة الإسرائيلية التي امتطاها في الثمانينيات من القرن الماضي، بشير وأمين.
ماذا يريد جعجع؟ أعلن ان حلف عون – حزب الله دمّر لبنان السياسي والاقتصادي بما يؤكد ان “السمير” لا يريد ضرب حزب الله فقط، بل إطاحة كل من ينافسه في الساحة المسيحية، بذلك يستطيع الإمساك بالحصة المسيحية من الحكومة ورئاسة الجمهورية. وهذا ليس بجهود من صناعته بل من خلال العدوانية الإسرائيلية الأميركية الخليجية.
بدوره فؤاد السنيورة الذي ينتحل صفة “عروبي” يعتبر أن سلاح الحزب هو الكارثة الكبرى، التي يجب اقتلاعها بما يكشف ان سياسات السنيورة أكثر إقليمية من سياسات حليفه جعجع، لأن فؤاد يعرف ان وصوله الى السرايا الحكومية رهن بأمرين متلازمين: استئصال سلاح الحزب من الداخل ووضعه في خدمة السياسات الإقليمية السعودية التي لا تزال تشكل الطريق الاساسية للوصول الى رئاسة الحكومة في لبنان.
هذا يشير الى ان كل واحد من هؤلاء إنما يضرب على الجهة التي تفتح الدرب له لتحقيق طموحاته ومن خلال تلبية المشاريع الخارجية في لبنان.
اما على مستوى فارس سعيد النائب السابق فلا يزال يصرّ على تذكير اللبنانيين بمرحلة كانتون حداد في الجنوب، اي يريد تحويل لبنان بكامله الى مستعمرة إسرائيلية تحمي المشروع الطائفي في لبنان.
وهذا التصعيد من قبل سعيد عائد الى عدم امتلاكه لحزب في الميدان المسيحي وحاجته الى التصعيد لتحقيق أكبر تحشيد ممكن يتيح له العودة الى المجلس النيابي وربما أكثر، فيصبح ضرورة إلزامية حتى للأحزاب المسيحية الكبرى التي لن يعود بوسعها تجاهله كما فعلت في الدورات الانتخابية الماضية.
ما يؤسف له هنا، ان يصبح الطموح السياسي الشخصي أكثر أهمية من مصالح الوطن، وهذا يبرر للثلاثي جعجع السنيورة وسعيد بيع البلاد “بالجملة” للكسب بالمفرق وعلى قياسهم.
لذلك يحق للبناني العادي أن يسألهم كيف يهاجمون حزب الله في وقت تعتدي فيه “اسرائيل” على لبنان وتكشف الدوائر الأوروبية والأميركية علناً ان الانهيار الاقتصادي في لبنان ناتج من تراكمات سياسات اقتصادية بدأت قبل ثلاثة عقود، اي متزامنة مع مرحلة الشهيد رفيق الحريري صديقهم وممولهم.
يتبين أن هذا النمط من السياسيين يجري لاهثاً وراء أي مشروع خارجي يعاود دفعهم الى السلطة او يجعلهم يحتكرونها.
وهذا نوع من البساطة السياسية لأن السلطة وليدة توازنات قوى أمسك بها التيار الكتائبي – القواتي بعد انهيار توازن القوى كنتيجة للاجتياح الإسرائيلي للبنان.
أما التوازن الإقليمي واللبناني الحالي فهو لمصلحة حزب الله الذي أصبح أكبر قوة إقليمية جاهزة وله في لبنان دور سياسي في المؤسسات الدستورية، ارادة ان يبقى دون حجمه الفعلي، لكنه يؤدي له دور الحارس على المؤسسات الدستورية وعلاقتها به.
ان الإجابة الواضحة على هذا الثلاثي تنحصر في تأكيد كامل التحليلات السياسية على تناقض مصادرها بأن الحلف العوني مع حزب الله هو الذي انتج استقراراً لبنانياً وطنياً منذ عقد ونصف العقد، واي كلام آخر لا يندرج إلا في إطار الجعجعة في زمن وطني صعب.