الاقتصاد اللبناني يعاني… هل الحلول متوافرة؟
د. فؤاد زمكحل*
إنّ أزمتنا الاقتصادية والاجتماعية بدأت منذ أعوام عدة، حين بدأت المداخيل ونسبة العيش الكريم تنحدر وتتراجع على نحو ملحوظ، حيث بدأ كلّ ربّ عائلة، أو ربّ عمل أو شركاء الإنتاج وكلّ الشعب اللبناني، يشعر بالضيق الاقتصادي، والنقص بالسيولة ويتعثّر مالياً ونقدياً منذ نحو عامين أو ثلاثة أعوام.
المعلوم، أنّ «ثورة 17 تشرين» 2019 كانت نتيجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ومطالب لأدنى الحقوق البدائية والإنسانية للشعب. صحيح أننا نعلم لماذا اشتعلت النيران، ونعلم أساس هذه النقمة الشعبية المحقة من وراء تراكمات كبيرة، وسوء الإدارة التي أشعلت غضب الشعب والشوارع، وأجبرت الشباب أن ينزلوا إلى الأرض، كي يُطالبوا بأدنى حقوقهم المشروعة.
اليوم، نسأل أنفسنا، لماذا وصلنا إلى هذا الدرك؟ ومَن المسؤول؟ وعلينا أن نعرف جميعاً كيف نُسلّط الضوء على المشكلات التي تعترض الاقتصاد والعيش الكريم وأيضاً على المسؤولين الحقيقيين:
أُذكّر أنّ المسؤول هو الدولة والإدارة والسياسيون الذين تحاصصوا السلطة، ووزعوا المشاريع لبعضهم البعض، وتداوروا المراكز على مدى زمن تراكمي، في السنوات الثلاثين الأخيرة. هي الدولة عينُها، والأشخاص ذاتهم، والسياسيون أنفسهم، الذين توزّعوا المشاريع وكلّ مناصب الدولة حتى هذه اللحظة، كي يتقاسمونها.
هنا تكمن المسؤولية الحقيقية للمشكلة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، والتي وُلدت جرّاء إدارة فاسدة تخلو من الحوكمة الرشيدة، وتفرغ من المسؤولين المخلصين لوطنهم الأمّ.
إذن، هنا تقع المسؤولية الحقيقية، إذ توالت الأزمات وتراكمت المشكلات الاقتصادية في ظلّ عجز مالي كبير في الدولة اللبنانية منذ سنوات عديدة.
في الوقت نفسه كان القطاع الخاص اللبناني في لبنان والعالم، في غير كوكب تفكيري، وكان في الوقت عينه يُجاهد ويُثابر ويحفر مكاناً له ويبني على أسس متينة، ويستثمر، ويُوظف، وكان لديه ثقة في لبنان، وبالشباب اللبناني، وبالأجيال الشابة من ذوي الكفاءات العالية.
بالتوازي، كان القطاع العام يتراجع يوماً بعد يوم، بسرعة دراماتيكية، ويهدر الأموال العامة ويبني قصوراً من الفساد، في حين كان القطاع الخاص في لبنان والعالم يتقدم على نحو مضطرد في كلّ القطاعات والمجالات المنتجة، ويُنافس الشركات الدولية، من خلال ابتكاراته وعطاءاته.
ماذا حلّ في القطاع الخاص اللبناني في الوقت الراهن بعدما كنا نتباهى بنجاحاته؟
لقد تركت ثورة «17 تشرين»، تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة، جرّاء التراجع الكبير بنسبة الأعمال، والأرباح، والتمويل وإمكانية الدين، إذ كان القطاع الخاص اللبناني يرزح تحت الديون، من أجل أن يستثمر او يستورد البضائع من خلال السيولة المتوافرة له من القروض، كذلك أن يستورد المواد الأولية للإنتاج. لذلك حلّت «ضربة كبيرة» اقتصادياً واجتماعياً على القطاعات الصناعية، التجارية، السياحية، الخدماتية، الزراعية وغيرها.
كما لا يمكننا أن نغفل أنه في 7 آذار/ مارس 2020 كان أُعلن عن التعثّر المالي في لبنان، بمعنى عدم دفع التزامات لبنان النقدية تجاه البلدان المانحة بـ اليوروبوندز. هذا يعني أنّ لبنان خسر ثقة البلدان المانحة، في ظلّ تراجع تصنيفه الإئتماني إلى أدنى المستويات. من هنا بدأ التراجع الكبير للاقتصاد اللبناني وزيادة الضغوطات الدولية.
علماً أنّ معظم الاقتصادات العالمية دفعت ثمن جائحة «كورونا» التي بدأت منذ نحو 20 شباط/ فبراير 2020، وهي مستمرة حتى تاريخه. لكن ما يُميّز اقتصادات المنطقة والعالم عن اقتصاد لبنان، أنّ الدول المتقدمة والنامية تستطيع أن تطبع سيولة نقدية لتغطية خسائر اقتصاداتها كي تستعيد نموّها، وأن تبني خططاً إنقاذية وإنمائية ناجحة وملاحقة تنفيذها. لكن الاقتصادات الضعيفة والهشة، والتي كانت تعاني تراجعاً قبلاً مثل الاقتصاد اللبناني، من المؤكد أنها باتت تعاني من مشكلة مضاعفة، لكن يبدو هذه المرة كأنها ضربة قاضية للاقتصاد اللبناني حيث لا وجود للسيولة ولا للثقة ولا لأيّ خطة واقعية إنقاذية.
إنّ الاقتصاد اللبناني يوظف نحو مليون و800 ألف شخص، مقسّمين كالآتي: نحو 350 ألف شخص في القطاع العام، 250 ألفاً في القطاع الزراعي، و400 ألف عائلة في القطاع الصناعي، 800 ألف شخص في القطاع الخدماتي، 26 ألف شخص في القطاع المصرفي، و10 آلآف شخص في قطاع السيارات وغيرها.
في المحصلة، كلّ هذه القطاعات، تدفع ثمن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والنقدية والمالية الراهنة. فالقطاع السياحي يُحقق تراجعاً لافتاً، من الصعب أن يتابع مسيرته على هذا النحو، كذلك الأمر في القطاع الصناعي، الذي يفتقر للمواد الأولية نتيجة استحالة استيراد وتمويل هذه المواد بما سمّي الـ «فريش فونز»، الأمر عينه ينطبق على القطاع التجاري، الذي يفتقر للمواد الضرورية التي تحتاجها السوق اللبنانية وغيرها.
كذلك القطاع الاستشفائي الذي تبرز لديه مشكلة الديون المتراكمة بالمليارات تجاه الدولة اللبنانية، والذي يتعذّر على هذا القطاع استيفاء هذه الديون الطائلة، من أجل تحسين وحتى صيانة تجهيزاته الاستشفائية والطبية الضرورية.
كما أنّ القطاع المصرفي، بات يعاني بعدما تراكمت خسائره ما فوق 70 مليار دولار، حيث يعتاش منه نحو 26 ألف عائلة، من دون أن نتجاوز النقمة الشعبية على هذا القطاع كما بات معروفاً. ومن الواضح أنّ عليه مسؤولية، وعليه ان يُشارك ويُضحّي لإعادة هيكليته. لكن علينا ان نكون واقعيين ونعلم أنه إذا دُمّر هذا القطاع المصرفي، سيكون من المستحيل إعادة بنائه، وتدميره سيدمّر العائلات التي تعتاش منه، فضلاً عن دمار ودائع المواطنين في المصارف.
كذلك القطاع العام، يجب ألاّ ننسى أنّ لدى هذا القطاع بعض الموظفين الصالحين والمبتكرين، ونتكل عليهم لبناء الدولة، لكن يجب ان نعلم جميعاً انه قد تراجعت مداخيلهم وقدراتهم الشرائية إلى نحو 75%، لكن في المقابل زاد مصروفهم بنحو 500%. علماً أنّ البطالة تخطت نسبة الـ 40%، ولدينا نحو 45% من جيل الشباب خرّيجي الجامعات والذين لا يجدون عملاً. كيف بذلك سنبني الاقتصاد وإعادة النمو؟
بناء على ما تقدّم، إنّ القطاع الخاص اللبناني يعاني، وسيعاني أكثر، جرّاء ندرة التوظيفات، وعدم إمكانه التوظيف، والصرف التعسفي وضعف استثماراته، حتى أنّ هذا القطاع لا يستطيع ان يحمي استثماراته على المدى القصير والمتوسط.
هذا يعني أنّ على القطاع الخاص أن يُخفّف مصاريفه الشهرية، وكلفته الثابتة والمتغيّرة، وأن يُقاوم الأزمة الراهنة كي يصمد في السنوات المقبلة. وهذا يعني لسوء الحظ، أنّ البطالة في هذا الوقت ستزداد، ويُتوقع صرف موظفين وعمال من أعمالهم، وتخفيض الرواتب، لأنّ القطاع الخاص اللبناني لم يعد بمقدوره أن يتابع مسيرته أو يُموّل أو يُتموّل.
أُذكّر مرة أخرى وبصوت عال، أنّ المسؤول الأساسي عن كلّ هذا الانهيار الاقتصادي هي الدولة، وجميع السياسيين ومَن تداول السلطة خلال السنوات الثلاثين الماضية، حيث كانت عناوين وأركان الإدارة مبنية على الفساد، والهدر، وعدم الحوكمة الرشيدة في الدولة، وعدم الالتزامات الرسمية بالوعود تجاه دول العالم.
نستطيع أن نسمّي لبنان «شركة لبنان ش. م. م.» أي شركة من دون مسؤولية ومن دون مسؤولين، فلدينا سياسيون أداروا هذه الشركة وأوصلوها الى الفشل والإفلاس، ويضعون أنفسهم تحت الأضواء عندما يريدون، ويتهرّبون من المسؤولية لتخبئة فسادهم، ويهربون من الأضواء ويُوجّهونها إلى أماكن عدة، وإلى أشخاص وقطاعات أخرى، لتوريطها وتحميلها مسؤوليات وهمية. لكن على الشعب أن يكون هو من يُسلّط الضوء على المسؤولين الحقيقيين، وليس ملاحقة الأضواء الوهمية والخاطئة التي يُوجهها السياسيون حيال القطاعات المنتجة التي ضحّت ولا تزال تُضحّي وهي رهينة هذه المنظومة الفاشلة.
رسالتي لكلّ شاب لبناني مبتكر: لقد حان الوقت كي نحفر مكاننا بأظافرنا وبأسناننا، وبعقلنا الإبتكاري، ونُحفّز ابتكارات وأفكار صدّرناها ونُصدّرها إلى العالم. حان الوقت أن نتخلّى عن عقلية دق أبواب السياسيين بحثاً عن وظيفة، بل علينا أن نخترع وظائف ريادية مبتكرة، عندها نبني اقتصاداً حقيقياً مبنيّاً على المعرفة والإبتكار والإبداع اللبناني. وهكذا نبني وطناً ناجحاً وحقيقياً، ونتخطّى الفشل، محقّقين يداً بيد النجاح بالمثابرة والعمل الجدّي.
*رئيس تجمع رجال وسيدات الأعمال اللبنانيين في العالم