«اليونيفيل» والرسائل المشفّرة…
} د. عصام الحسيني
لم تكن العلاقات الدولية يوماً، إلا فعل توازن قوى، والحدّ المقبول من التنظيم القانوني، يعبّر عنه بالأطر التنظيمية الدولية المختلفة، وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وغاية هذا التنظيم القانوني، هو العمل على تأمين السلم والأمن الدوليين، كما نصت عليه مقدمة ميثاق الأمم المتحدة.
وفي نفس الهدف، وضمن إطار الصراع العربي – «الإسرائيلي»، صدر قرارا مجلس الأمن رقم 425 ورقم 426، تاريخ 19 آذار عام 1978، وأنشئت «اليونيفيل» بموجبهما، للعمل في جنوب لبنان، إثر الحرب العدوانية التي شنّها العدو الصهيوني، ويتضمّن قرار الإنشاء التالي:
1 ـ تأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان.
2 ـ إعادة السلم والأمن الدوليين.
3 ـ مساعدة الحكومة اللبنانية، على بسط سلطتها الفعلية في المنطقة.
وفي هذه القرارات نلاحظ التالي:
أولاً: أنها صدرت تحت الفصل السادس من الميثاق.
ثانياً: في طبيعة عمل القوات الدولية، قوات حفظ سلام وليس صنع سلام، أيّ أنها ليست قوات قتالية.
ثالثا: الحيّز الجغرافي المحدّد لانتشارها في جنوب لبنان.
رابعاً: وهو الأهمّ، مراقبة انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، وهو هدف رئيسي.
ثم صدر القرار رقم 1701 بتاريخ 11 آب 2006، إثر عدوان العدو الصهيوني على لبنان، ومن أهمّ نقاطه:
1 – مراقبة وقف الأعمال العدائية.
2 – مراقبة انتشار الجيش اللبناني على طول الخط الأزرق، بالتزامن مع انسحاب «إسرائيل» من لبنان.
3 – مساعدة الحكومة اللبنانية – وبناء على طلبها – في تأمين حدودها ومعابرها، لمنع دخول أيّ سلاح دون موافقتها.
وهنا تقوم قوات بحرية من «اليونيفيل»، بالانتشار البحري بطلب من الحكومة اللبنانية لمساعدتها، منذ تشرين الأول عام 2006، وهو الانتشار الأول من نوعه لبعثة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة.
وهذا القرار في مضمونه، يشبه مضمون القرارات الدولية السابقة ذات الصلة، من حيث:
أنها قوات حفظ سلام وليست قوات صنع سلام، وأنها تملك حيّز انتشار جغرافي محدّد في جنوب لبنان، ومن حيث صدورها تحت الفصل السادس.
وفي القرار رقم 2373 تاريخ 2017، دعا مجلس الأمن الدولي، إلى نشر سريع ودائم للقوات المسلحة اللبنانية في جنوب لبنان، والمياه الإقليمية اللبنانية، في إشارة إلى وضع استراتيجية، لمراحل نقل مسؤوليات قوة «اليونيفيل» البحرية إلى البحرية اللبنانية.
ويجدّد كلّ سنة في شهر آب، وجود القوات الدولية «اليونيفيل» في جنوب لبنان، وهي قوات تضمّ جنوداً من دول عديدة، وتقوم الولايات المتحدة الأميركية، بتمويل ما يقارب الثلث من موازنتها المالية.
فما الذي تغيّر في الموقف الأميركي من «اليونيفيل» لهذا العام؟
لقد تبلغت الحكومة اللبنانية بشكل رسمي، من السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشية، فحوى رسالة أميركية مشفرة تقول:
إنها لن تتعامل مع التمديد للقوة الدولية في الجنوب في الانتداب الجديد، على نحو ما كان يحدث في السنوات المنصرمة.
وأوضحت الرسالة المشفرة، المقصد الأميركي ويدور حول النقاط التالية:
1 – تعديل من مهام «اليونيفيل»، بحيث أنها تتحوّل من قوات حفظ سلام إلى قوات صنع سلام.
2 – توسيع رقعة انتشارها الجغرافي، ليشمل ذلك الحدود اللبنانية السورية، أيّ الحدود الشرقية والشمالية.
ولوّحت الولايات المتحدة الأميركية، بإمكانية منع تمويل القوة الدولية، في حال لم تنفذ مطالبها.
من الناحية القانونية:
لا يمكن التعديل في طبيعة وشكل القوة الدولية في جنوب لبنان، دون موافقة مجلس الأمن الدولي عليه ليصبح نافذاً. وهذا بالضرورة يستتبع نقله من الفصل السادس إلى الفصل السابع، لتغيّر طبيعته الوظيفية.
وهنا يوجد استحالة في قبوله وتمريره، لوجود الفيتو الروسي والصيني، مما يعني حكماً سقوطه في مجلس الأمن.
من الناحية السياسية:
الأهداف السياسية للإدارة الأميركية واضحة وأهمّها:
1 – منع وجود سلاح المقاومة في جنوب لبنان، وإخضاع مراكزها ومنازل أفرادها للتفتيش الدائم.
2 – قطع طريق المقاومة مع سورية، لمنع وصول الإمداد اليها وعزلها، وإخضاع الحدود للمراقبة الأمنية والاقتصادية، بحجة منع التهريب، والمساهمة في دعم الاقتصاد اللبناني المنهك، وخاصة بعد دخول قانون قيصر مرحلة التنفيذ الفعلي.
وكلّ الحديث الداخلي، الذي يدور حول وقف التهريب على المعابر غير الشرعية، يصبّ في هذا الهدف، خاصة أنّ المعابر الخاصة بالمقاومة، خالية من التهريب.
3 – التهويل والضغط على الحكومة اللبنانية، لإنهاء ملف الترسيم الحدودي البحري والبري، لمصلحة العدو الصهيوني، وهو مطلب أمني حيوي في السياسة الخارجية الأميركية.
أمام وضوح الأهداف الأميركية، وسعيها للضغط والتأثير على الحكومة اللبنانية، كيف تواجه الدولة هذه الضغوطات؟
لقد أوضح فخامة رئيــس الجمهورية العماد ميشال عون، لسفراء الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، وبالممــثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش، موقف لبنان الرسمي، بوجوب التمديد لقوات حفظ السلام الدولــية، دون أيّ تعديل في مهامها، أو فـــي جغرافية انتشارها.
ونبّه الموقف الرسمي اللبناني، من خطورة خفض الموازنة المالية لليونيفيل، لأنّ ذلك يؤثر سلباً على مستوى عملها وأدائها.
ويقف إلى الجانب اللبناني، في حال طرح الجانب الأميركي مسألة التعديل في مهام «اليونيفيل»، العديد من الدول الأصدقاء الداعمة له في مجلس الأمن، وخاصة الدولة الروسية والصينية.
وفي مراجعة تاريخية، لما قدّمه وجود «اليونيفيل» منذ تأسيسه في الجنوب اللبناني، نسأل:
1 – هل منع «اليونيفيل» العدو الصهيوني، من شن عدوان عناقيد الغضب عام 1996، والتي ارتكب خلالها أبشع المجازر بحق الإنسانية، في مجزرة قانا الأولى:
حيث قام العدو الصهيوني بتاريخ 18 نيسان عام 1996 بقصف مركز قيادة فيجي، التابع لـ «اليونيفيل» في قرية قانا، بعد أن هرب إليه المدنيين للاحتماء، وتسبّب القصف في استشهاد وجرح مئات اللبنانيين.
وعلى أثرها اجتمع مجلس الأمن الدولي للتصويت على قرار يدين العدو، لكن الولايات المتحدة الأميركية، أجهضت القرار باستخدامها حق النقض الفيتو.
2 – وهل منع «اليونيفيل»، العدو الصهيوني من ارتكابه مجزرة المنصوري، بتاريخ 13 نيسان 1996 والتي راح ضحيتها العديد من الشهداء والجرحى من المدنيين اللبنانيين.
3 –وهل منع «اليونيفيل» العدو الصهيوني، من ارتكابه بتاريخ 30 تموز عام 2006 لمجزرة قانا الثانية، والتي استشهد وجرح فيها، مئات اللبنانيين المدنيين، الذين لجأوا إلى مقر قوات الطوارئ الدولية هرباً من القصف الإسرائيلي.
4 – وهل نجح «اليونيفيل» في حصوله من العدو الصهيوني، على خرائط الألغام الأرضية، التي نشرها في جنوب لبنان، والتي تعتبر بمثابة احتلال ما زال قائماً، بحرمان اللبنانيين من مساحات واسعة من أراضيهم، والتي تعتبر تهديداً وخطراً دائمين.
لذلك:
هل نجح النظام القانوني الدولي، في إرساء معالم السلم والأمن الدوليين، في منطقة متفجرة في الشرق الأوسط؟
وكيف يمكن للمنـــظومة القانــونية الدولية، من صنع السلم الدولي والحفاظ عليه، في ظل تفلت الدول الكبرى من خضوعها له؟
وإذا كانت التوقعات ترجح، بحجب الولايات المتحدة الأميركية تمويلها لـ «اليونيفيل»، كما فعلت مع منظمة الصحة العالمية، فإنّ الرسائل المشفرة قد وصلت، وتتمحور:
حول الصراع القائم في الشرق الأوسط، وما صفقة القرن، و «قانون قيصر»، وإشكالية «اليونيفيل»، إلا صورة من صورها القاتمة، والتي ستشتدّ ظلامية، مع إعلان المحكمة الدولية في 7 من الشهر الحالي، أسماء المشتركين المفترضين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
إنها حرب القوى الاستعمارية، على القوى الضعيفة، لتحقيق استراتيجيتها، باستيلابها لثروات الشعوب، ومنعها حقوقها.
في كلّ هذا المشهد الرمادي، تأتي الرسائل، بالإنكليزية المشفّرة…!؟