بيروت.. لا تحزني
غدير حمية
منذ صغري وأنا أتعلّم حب الوطن، أشرب مع كوب الحليب الصباحي العنفوان والأصالة، أتذوّق مع منقوشة الزعتر محبة تراب وطني الشامخ، وأعي أن شموخ رجاله ورقي نسائه وطيب ثغور أطفاله عزة لا بديل عنها.
منذ صغري وأنا أدرس تاريخ بلادي العظيم المبجّل.. أشعر بالقوة والكرامة بين سطور قصة التحرر من الانتداب والاستعمار.. أقدس حكاية الوحدة التي تعمّدت بالدم والتضحيات..
اليوم، انقلبت موازين الدنيا وتحول بلدي الجميل إلى «صندوق أسود» يسجل دقائق الانفجار والنكبات.. ذهب الطهر ليستدلّ على أدراج غير أدراجنا، وصعقت الكرامة من حفنة لا تعرف معنى الكرامة.
وحدهم الضحايا قرّروا، ولو بغير إرادة، الذهاب بعيداً عن بلد ملوا العيش في زواياه الطائفية ـ المذهبية الضيقة. قرّروا أن يبقوا في تضامن أبديّ، حيث لا لون لمذهب ولا حياة لطائفة بعينها.
عروس لبنان أصيبت في الصميم، تشوّه وجهها الجميل ونزف قلبها.. هي بيروت التي ترقد اليوم في العناية الفائقة.. تحتاج إلى من يلملم جراحها وينتشل أبناءها من تحت الركام.. موت وجروح عميقة ومخيفة ومفقودين.. تحتاج «ست الدنيا» إلى من يكفكف دموعها وأبناءها..
الكلام لم يعد يجدي نفعاً.. فالسبب الأول للانفجار الذي عصف ببيروت وكل لبنان، هو السبب الأول ذاته الذي أبقى لبنان على قارعة الأزمات والنكبات تتناهشه الطوائف والمذاهب.
ماذا عسانا أن نقول عن ضحايا الانفجار ـ النكبة الذي اخرجوا من الحياة قسراً… لا ذنب لهم سوى أنهم يحملون جنسية بلد خانته سلطة وفتك به فساد.
وقبل الموت القسريّ، موت على قيد حياة مسلوبة ومعيشة منكوبة.. بلد لا مقوّمات للحياة فيه.. لا حقوق مؤمنة ولا كرامة تذكر.. بلد منهوب مسروق.. يكدون ويعملون فيه وعرقهم مجبول بالدم، يذهب تعبهم إلى جيوب آخرين ولا يقتاتون وعيالهم سوى الفتات..
ماذا عسانا نقول عن «وطن النجوم».. وهو منذ نشأته محكوم بنظام طائفي وعقلية تحاصص وفساد وسمسرات. إن هذا المسمّى «وطناً» يعيد إنتاج هيكله بالنعرات والفتن حتى في خضم المحن..
ما تبقى من وطن ما عاد يعرف إلا لملمة الجراح وتنظيف بقع الدم ومسايرة هذا ورجاء ذلك. ما عاد يعرف غير الفظائع والإيغال في تقطيع شرايين الحياة وحرمان الناس من العيش تحت سقف الحد الأدنى من المواطنة. ولكن إلى متى؟ أليس هنالك من حلّ؟
بلى.. الأمل دائماً موجود.. بيروت ستنفض عنها كل هذا الدمار والخراب، والبلد كله سينهض من تحت الركام بإرادة أبنائه الذين يفيضون عزاً وكرامة، ولن يقبلوا الموت مجدداً تحت الركام..
يا بيروت لا تحزني.. أنتِ ست الدنيا التي لن تموت.