إضاءة على محطات مفصلية وأحداث وتحديات مصيرية.. وعلى عناصر قوة شكلت معادلات ردعية في زمن اختلال التوازنات الدولية
14 آب 2006 تاريخ مجيد أرسى معادلة الانتصار لعقود مقبلة من الزمن
ثبت موقف سورية معادلة التحرير التي حققتها المقاومة في لبنان عام 2000، والتي اكتسبت قوة التوازنات الدولية التي كانت سائدة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
***
لم يتخيّل الأميركيون وحلفاؤهم وهم يستبيحون سيادة العراق بالاحتلال ويدفعون بجيوشهم الى الحدود السورية، أن يقف الرئيس الأسد بعزّ وشموخ رافضاً كلّ الإملاءات الأميركية، وأن يتمسك بخيارات سورية ودعمها للمقاومة.
***
«قانون محاسبة سورية» الذي وقعه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أواخر العام 2003، زعمت الإدارة الأميركية حينذاك أنه وضع لأجل سيادة لبنان، فإذا هو بداية مسار لتدمير سورية.
حرب تموز 2006 ليست محطة عابرة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني والقوى الاستعمارية، بل هي محطة فاصلة وحاسمة، يدرك كل عاقل ومتابع أنها أرست قواعد اشتباك جديد، تقيّد غطرسة العدو.
***
حرب تموز 2006 على لبنان لم تكن حرباً «إسرائيلية» وحسب، بل كانت حرباً «إسرائيلية» ـ أميركية بمشاركة دول غربية وعربية، وهدف تلك الحرب، كان إتمام الانقلاب بتصفية المقاومة في لبنان، على اعتبار أنها تشكل ظهيراً للمقاومة في فلسطين.
معن حمية
مخطط تصفية المسألة الفلسطينية هدف موضوع على أجندة الحلف الصهيوني ـ الأميركي ـ الاستعماري منذ الاحتلال اليهودي لفلسطين، غير أن العدو وحلفاءه عجزوا عن تحقيقه، بسبب المقاومة التي نشأت في مواجهة الاحتلال، فاكتسبت هذه المقاومة شرعية دولية حقوقية وقانونية وأخلاقية وانسانية. أما العامل الحاسم الذي كرّس المقاومة رقماً صعباً، تمثّل بسورية التي شكلت حاضنة قومية للمقاومة الفلسطينية والمقاومة في لبنان وقدّمت كل أشكال الدعم والرعاية لهما.
مع تفكك الاتحاد السوفياتي سابقاً، وانهيار النظام الدولي الذي كان قائماً، بدأت الولايات المتحدة الأميركية مسار الهيمنة على المؤسسات الدولية وتجويفها من الأهداف التي تأسست عليها وجعلها مطية لتحقيق سياساتها، وكانت بدايات هذا المسار بالاحتلال الأميركي ـ البريطاني للعراق عام 2003 من دون صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي، ما اعتبرته الأمم المتحدة في ذلك الحين انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي.
قبل احتلال العراق، احتفل لبنان ومعه كل قوى ودول المقاومة بإنجاز التحرير في العام 2000، حيث تمّ إجبار العدو الصهيوني على الانسحاب من معظم الأرض اللبنانية تحت وطأة عمليات المقاومة، ومن دون أي قيد أو شرط، وهو حدث كبير رأت فيه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها، معادلة جديدة تُرسم على صعيد المنطقة، توازي بمفاعيلها السياسية، التوازنات الدولية التي كانت قائمة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً.
لم يكد يمضي أسبوع على احتلال العراق، حتى جاء وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول إلى دمشق، مطالباً سورية بتحقيق مجموعة شروط، منها إقفال مكاتب الفصائل الفلسطينية المقاومة، وطردها مسؤوليها من سورية، ووقف دعم المقاومة في لبنان، وهذه الشروط وغيرها قوبلت برفض حاسم وجازم من الرئيس الدكتور بشار الأسد الذي أكد بأن سورية لا يمكن أن تقبل بهذه الشروط، وهي ترفض التدخل في شؤونها ولن تساوم على المسألة الفلسطينية ولن تتخلى عن احتضانها للمقاومة في المنطقة.
رفض سورية في ذلك الوقت للشروط الأميركية، قابلته الولايات المتحدة الأميركية ببدء مناقشات عاجلة في الكونغرس لما سُمّي «قانون محاسبة سورية»، والذي وقعه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أواخر العام 2003، وزعمت الإدارة الأميركية حينذاك أنّ «قانون محاسبة سورية» الذي أقرّه الكونغرس ووقعه بوش الإبن، إنما وضع من أجل سيادة لبنان.
سياق الأحداث في العام 2003، يؤكد أنّ القانون الأميركي لمحاسبة سورية، لم يكن بدافع الحرص على سيادة لبنان، فالوجود السوري في لبنان هو وجود شرعي وبطلب من الحكومة اللبنانية، وقد ساهم هذا الوجود السوري في إحباط مشاريع التقسيم التي كانت مُعدّة للبنان وفي إعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية.
لقد كان الدافع الرئيس للقانون الأميركي، هو محاسبة دمشق لأنها رفضت الإملاءات والشروط الأميركية، ولأنها أكدت التمسك بدعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق. لم يتخيّل الأميركيون وحلفاؤهم وهم يستبيحون سيادة العراق بالاحتلال ويدفعون بجيوشهم الى الحدود السورية، أن يقف الرئيس الأسد بعزّ وشموخ رافضاً كلّ الإملاءات الأميركية، وأن يتمسك بخيارات سورية ودعمها للمقاومة…
موقف سورية من الاحتلال الأميركي للعراق، ورفضها حتى مناقشة الشروط الأميركية، أسقط كل السيناريوات والبروباغندا التي قامت على تقديرات خاطئة بأنه مجرد احتلال العراق، فإن دول المنطقة الداعمة للمقاومة ستخضع للإملاءات الأميركية. لقد ثبت موقف سورية معادلة التحرير التي حققتها المقاومة في لبنان عام 2000، والتي اكتسبت قوة التوازنات الدولية التي كانت سائدة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
رغم كل الضغوط والعقوبات على سورية، لم تتمكن الولايات المتحدة من تسجيل أي تقدم في مسار «قانون محاسبة سورية». فالعلاقات اللبنانية ـ السورية متينة ومحصّنة بمعاهدة أخوة وتعاون وتنسيق، لها قوة القانون الدولي، ولذلك ضاعفت الادارة الأميركية الضغوط على سورية ولبنان معاً من خلال القرار 1559 عام 2004، وهو قرار لم يلحظ آليات لتطبيقه، إلا بحدث أمني كبير، فكان اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وتم استباقه بتهيئة مناخ انقسامي فتنوي في لبنان، ظهر جلياً في سرعة توجيه الاتهامات وتحديد المسؤوليات، وفي حملات التوهين التي استهدفت مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والقضائية.
لقد شهد العام 2005 انقساماً حاداً في لبنان، وجرى التصويب على سورية وحلفاءها في لبنان، وكان المخطط باحداث انقلاب كامل على خيارات لبنان وثوابته، ونقله إلى محور الضفة النقيضة، المجتمعة على خيار ما عرف لاحقاً بصفقة القرن لتصفية المسألة الفلسطينية. ولكن، الانقلاب الكلي لم يتحقق، واقتصر على انقلاب جزئي، أراد العدو الصهيوني والولايات المتحدة وحلفاؤهما استكماله بحرب تموز 2006.
حرب تموز 2006 على لبنان لم تكن حرباً «إسرائيلية» وحسب، بل كانت حرباً «إسرائيلية» ـ أميركية بمشاركة دول غربية وعربية، وهدف تلك الحرب، كان إتمام الانقلاب بتصفية المقاومة في لبنان، على اعتبار أنها تشكل ظهيراً للمقاومة في فلسطين، وقد أعقبتها حرب استهدفت المقاومة في فلسطين المحتلة. ولكن النتائج لم تأت لمصلحة العدو وحلفائه، لا بل استطاعت المقاومة في لبنان أن تسجل انتصاراً مدوياً في حين تمكنت المقاومة في فلسطين من تكريس معادلة الصمود والبقاء.
انتصار المقاومة في العام 2006، دفع بالعدو وحلفائه إلى التفتيش عن جواب له، وما هي الأسباب التي مكنت المقاومة من إلحاق الهزيمة بالجيش الصهيوني، الذي بحسب المقولة ـ الخرافة «جيش لا يُقهَر»؟!!
لم يتأخر العدو وحلفاؤه كثيراً في اكتشاف الجواب، وبأنّ الحاضنة القومية التي ترعى المقاومة وتدعمها، هي التي توفر لها كل عوامل الصمود وأسباب الانتصار، إنها سورية ـ الشام، تحمل راية فلسطين وتدعم المقاومة، وهي التي حمت وحدة لبنان واستقراره ودعمت مقاومته المنتصرة.
حرب تموز 2006 رسمت معادلات خطيرة، بحيث لم يعد تقييم نتائج هذه الحرب محصوراً بصمود المقاومة وانتصارها ومكامن قوتها، بل بات الحديث عن هشاشة القوة الغاشمة الصهيونية والتي أشار اليها تقرير لجنة فينوغراد «الإسرائيلية» من دون أن يتقصد ذلك. وبالتالي فإن حرب تموز التي ارادتها الدولة الراعية لها أي الولايات المتحدة الأميركية مخاضاً لولادة شرق أوسط جديد، استحالت معادلة ردع ثابتة راسخة، ومرتكزاً تأسيسياً لمشرق جديد يمتلك كل عناصر القوة التي تمكنه من هزيمة المشروع الصهيوني ـ الاستعماري، واستعادة الحق القومي.
حرب تموز 2006 ليست محطة عابرة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني والقوى الاستعمارية، بل هي محطة فاصلة وحاسمة، يدرك كل عاقل ومتابع أنها أرست قواعد اشتباك جديد، تقيّد غطرسة العدو، وترتب عليه مسؤوليات إن هو تعمّد خرق هذه القواعد.
منذ هزيمة «إسرائيل» أمام المقاومة في لبنان عام 2006، إلى فشلها أمام المقاومة الفلسطينية في العامين 2008 و 2009، إلى انسحاب الاحتلال الأميركي من العراق عام 2011، اتخذت الحرب منحى تصعيدياً آخر، تمثل بما سُمّي الربيع العربي، الذي بدأ في غير بلد عربي، لكن وجهته الأساسية كانت سورية، بعدما تولّدت قناعة راسخة لدى المحور المعادي أن قوة المقاومة مستمدّة من سورية، وأن إسقاط سورية، يعني إسقاط كل محور المقاومة.
بخلاف البلدان العربيّة التي اجتاحتها التظاهرات والاحتجاجات وتفاوتت حيالها المواقف الدوليّة، شهدت سورية احتجاجات جزئيّة لجأت إلى ممارسة كل وسائل وأشكال العنف والإرهاب، ليتبين أن العدو الصهيوني ونحو مئة دولة بينها أميركا وبعض الأنظمة العربية تدعم مجموعات متطرفة وإرهابية في سورية وتمدّها بالمال والسلاح، وأن معظم الإرهابيين الذين يرتكبون الجرائم على الارض السورية ويسفكون دماء السوريين ويدمّرون ويحرقون، قد تمّ الإتيان بهم من جهات العالم الأربع، عن طريق تركيا التي كشّرت عن أنيابها الوحشيّة وزاوجت بين غريزة الظلم والقتل والاحتلال العثمانيّة وغريزة الإرهاب التي تحكم سلوك الاخوان المسلمين الذين يعيثون قتلاً وإجراماً.
واضح أن الحرب الإرهابية على سورية، هي نتيجة لما أسلفنا ذكره. فسورية وبعد أسبوع على زلزال احتلال العراق وفي ظل احتشاد جيوش الدول الاستعمارية على حدودها، كانت حاسمة في مواقفها، بـ»لا» كبيرة ومدوّية للشروط الأميركية، لا مساومة على قضية فلسطين، ولا تخلي عن دعم المقاومة.
اللاءات السورية هذه، استدعت حرباً إرهابية كونية على سورية، قوامها عشرات الدول، مئات التنظيمات الإرهابية، كم هائل من الفضائيات والمواقع والوسائل الإعلامية، مليارات الدولارات وكلّ أنواع السلاح والعتاد والمتفجرات، وكلّ ذلك سخر لإسقاط الدولة السورية، وإسقاط لاءاتها التي حمت معادلات الصمود والقوة والردع، والتي شكلت معادلة توازن بديلة عن التوازنات الدولية في زمن الأحادية الأميركية المتغطرسة.
كل رهانات ومشاريع «إسرائيل» وأميركا وحلفائهما وأدواتهما في العالم والمنطقة، ارتبطت بالحرب الارهابية على سورية ونتائجها، إذ إن الرهان كان على اسقاط الدولة السورية، بما يمهد الطريق لتصفية المقاومة في لبنان وفي فلسطين المحتلة، وإتمام صفقة القرن بتصفية المسألة الفلسطينية، واعادة رسم خريطة المنطقة على اساس محميات اتنية وطائفية ومذهبية هشة وضعيفة ومتهالكة ومتنابذة، إلى جانب كيان صهيوني ـ يهودي عنصري استيطاني مسيطر يفرض هيمنته ومشيئته ويحقق أطماعه وأطماع الاستعمار العالمي.
ولئن كانت خلفية قرار الحرب على سورية لتحقيق الأهداف الآنفة الذكر، فإنّ صمود سورية، أسقط كل ما خطط له العدو وحلفاؤه، وما لم تتوقعه قوى العدوان، أن يتخذ حلفاء سورية، روسيا وايران وقوى المقاومة قرارهم بمؤازرة الجيش السوري، وخوض المواجهة الكبرى انطلاقاً من الميدان السوري، وليس الانتظار إلى تصبح المواجهات على أبواب الدول والقوى الحليفة لسورية.
لقد تفاجأ المحور المعادي بقرار حلفاء سورية، مثلما تفاجأ بالصمود السوري الاستثنائي في السنوات الثلاث الأولى للحرب، وهذا ما أعاد خلط الأوراق والتكتيكات والاستراتيجيات، وأجبر أميركا ومحورها على التموضع في مربع يتيح الضغط على دول وقوى المقاومة وعلى حلفاء محور المقاومة من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية، والتخطيط لأحداث أمنية وفتنوية، توفر لها مساحة من النفوذ والتأثير، بعدما أجبرت على فرملة السير في صفقة القرن.
ما نشهده هذه الأيام، يؤكد بأنّ التحديات الكبيرة التي تستهدف بلادنا لم تتوقف، والمشروع الآخر المعادي ما زال قائماً ومستمراً، وأنّ الصراع لا يزال على أشده. ذلك، لأن الولايات المتحدة الأميركية ومعها «إسرائيل» وكل محورها، لا تريد أن تعترف بالواقع المستجدّ على صعيد منطقتنا، الذي بدأ في العام 2000، وترسخ في العام 2006، ولا تريد أن تعترف بأنّ دولاً عظمى قوية فرضت نفسها وأصبحت جزءاً من المشهد الدولي وتوازناته ومعادلاته، ولذلك، فإنها تواصل سياسة الغطرسة لتحقيق نتائج تمكنها من الإمساك بزمام الأمور، أقله بما يحقق أمن «إسرائيل» والذي لن يتحقق إلا بتصفية المسألة الفلسطينية وإضعاف قوى المقاومة.
وعليه، نرى اشتداد الصلافة العدوانية الأميركية ضدّ سورية، وآخرها قانون قيصر الأميركي الذي يستهدف محاصرة السوريين في لقمة العيش وهذا إجراء معادٍ للإنسانية، ونرى كذلك، عودة الهجوم الأميركي على المقاومة في لبنان، من خلال إعادة التعويل على الفتنة المذهبية الطائفية، واستحضار شعارات ومقولات أسقطها اللبنانيون بمقاومتهم التي رسخت معادلة قوة لبنان بقوته.
الولايات المتحدة التي ترعى كيان العدو الصهيوني، وكلّ من لفّ لفها، حاولوا التعمية على إنجاز التحرير الذي حققه لبنان في العام 2000، فانطلقت بعض الأصوات في لبنان تدعو إلى الانسحاب السوري، ما اعتبر وقتذاك أنه يرمي إلى المساواة بين الاحتلال الصهيوني للبنان وبين الوجود السوري الشرعي في لبنان، بهدف تعويم منطق الحياد ومقولات النأي، لاستخدامها في كلّ سانحة.
اليوم، ومن بوابة الحدث الزلزالي الذي ضرب بيروت وكلّ لبنان نتيجة الانفجار في المرفأ، وما يستدعيه هذا الانفجار الكارثي من مساعدات دولية للبنان، فإنّ الحذر مشروع والخشية واجبة من عودة قوية لمحركات النفوذ الأميركي ـ الغربي، والاستثمار في الكارثة، بما قد يجلب كوارث إضافية.
المرحلة قد تكون من أصعب المراحل، لأنها تشهد عهراً غير مسبوق وتمادياً غير مبرر، وعزفاً على وتر الفتنة وتحريضاً على نشر الفوضى، وتشهد محاولة لإحياء مقولات جلبت الويل على لبنان، واستهدافاً واضحاً لعناصر قوة لبنان.
أهمية حرب تموز 2006، أنها كرست حقيقة أن قوة لبنان في عناصر قوته، وأنتجت معادلة قوية مرتكزة على ثالوث الجيش والشعب والمقاومة، وبالتالي فإن تاريخ 14 آب 2006، هو تاريخ مجيد، أرسى معادلة راسخة ستستمر لعقود مقبلة من الزمن. وإن كل محاولة للمسّ بهذه المعادلة ستبوء بالفشل.