الرئيس أمين الجميل بين «الرئاسة المقاومة» و«الخيبة الكبرى»
النرجسيّة الفرديّة والفكريّة أكبر شريك خاطئ في قراءة التاريخ
– الرئيس في الحالتين لم يترك شأناً لبنانياً إلا ووضعه فوق طاولة النقاش مع الجميع بلا استثناء، فالمسعى الإنقاذي والموقف السيادي يتناوبان على التبرير حسب المقتضى.
– الرئيس لا ينكر أنه خاض في رئاسته الرهان الأميركي ، وبقي متعلقاً به ومخلصاً له من يومه الأول حتى آخر يوم من ولايته، يشرب من كأسه حتى الثمالة ويقاتل لأجله حتى الرمق الأخير، كما أنه لا ينكر أنه خسر الرهان، وأن الخيبة كانت حصيلة رهانه، وهو عندما يسميه تجاوزاً بالخيار اللبناني، يواصل من حيث لا يدري غلواً في نرجسيته الفردية والفكرية، فلبنانية الرهان على الخيار الأميركي لا سند لها، سوى قناعة الرئيس الكاتب بأنه يكفي أن يكون هذا هو رهانه الشخصي والكتائبي، ليصير الخيار لبنانياً.
– ألم يكن جوهر التحدي الإنقاذي مع بداية عهد الرئيس الكاتب هو إنهاء الاحتلال، وقد فشل في الإنجاز عبر رهانه وخياراته، بينما تحقق الإنجاز عبر الخيار الآخر، الذي ثبت أنه هو الخيار اللبناني، لأن الأمور بخواتيمها، وليس بنرجسية القارئ وتعلقه بذاته؟
– لعل الذين يعيشون وهم الرهان مجدداً يقرأون بتمعن كتاب الرئيس وخيباته ورهاناته الخاسرة ويسألون أنفسهم، «مَن يجرِّب المجرَّب إلا من كان عقله مخرب»، كما يقول المثل الشائع، اللهم نجِّنا من التجارب، آمين؟!
– السياق البياني الذي بدأ مع عهد الرئيس وانتهى عام 2000 بالانسحاب الإسرائيلي من دون تفاوض ودون قيد أو شرط، لم يستحق من الكاتب أن يجِيب عن سؤال، هل أخطأ بالرهان التفاوضيّ؟ وهل كان ممكناً لرهان معاكس، أي المقاومة أن يكون الطريق المؤدي فعلاً للخروج من النفق المظلم الذي نشأ عن الاحتلال، من دون تعريض الوحدة الوطنية لخطر الفتن، كما قالت تجربة المقاومة عن التحرير؟.
– النرجسية الفكرية هي في دعوة القارئ لتقبل أن ما قدمته “دولة” الكاتب وحكومته للاحتلال من مكاسب في نصوص الاتفاق، هو عمل وطني لإزالة الاحتلال، وعندما ثبت أن نهوض المقاومة فرض حقائق جديدة لم يعُد الاتفاق قادراً على ضمان أمن الاحتلال، فصار الاتفاق بلا قيمة، حتى أن الاحتلال نفسه انقلب عليه صار عدم الإبرام بطولة وطنيّة ورئاسة مقاومة.
– أمضى الرئيس الكاتب ولايته الرئاسية وهو يخوض رهاناً، لم يُخفِه عن القارئ، فهو تبرّأ من الخيار الإسرائيلي، وقاتل الخيار السوري، مراهناً على الخيار الأميركي ومن بعده السعودي، محتمياً بهما، ليحصد الخيبة، ويحصد لبنان الكوارث والحروب والخراب، فهل كان اكتشاف أن لا سياسة أميركية في المنطقة بعيداً عن حسابات المصالح الإسرائيلية يستحق أن يدفع اللبنانيون هذه الأثمان الغالية؟
} ناصر قنديل
وضع الرئيس السابق أمين الجميل تجربته الرئاسية في كتاب، أسماه بـ «الرئاسة المقاومة»، مضيفاً في المدخل وفي الختام، سرديّة لأحداث أسست أو تبعت تولّيه الرئاسة، التي تبقى أحداثها محور الكتاب، وقبل مناقشة ما في الكتاب من سياق وإطار يرسمه الكاتب لأحداث مصيرية في تاريخ لبنان عايشها وشارك بصناعتها من موقعه كرئيس للجمهورية، ومن موقعه السابق كقياديّ في حزب الكتائب الذي لعب قبل رئاسته وخلالها دوراً محورياً في حياة لبنان، وبدأ يضمحل حضوره بعدها. ويجب القول بأمانة من موقع مهني أن الكتاب مليء بوقائع موثقة وأوراق ورسائل ومحاضر، تشكل وثائق تاريخية عن تلك المرحلة، ما يجعله جزءاً مكوّناً لأية محاولة لكتابة تأريخ منصف وموضوعي لتلك المرحلة، فشل الكتاب في تقديمها. وهذا الغنى الوثائقي والمعلوماتي يستحق التقدير حكماً، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الكاتب السياسي الرئاسي ونظرته للأمور والأحداث وتقييمه لهما.
في الشكل ملاحظتان، الأولى لنوعيّة الورق ووزنه، والثانية للقطع الكبير الذي اختاره للطباعة، بحيث صار الكتاب حملاً ثقيلاً على القارئ، هذا مع الإشارة لأناقة الطباعة، وأناقة التبويب والفهرسة والهوامش، بما يتيح للقارئ العودة إلى أي فقرة يرغب بالتدقيق بما ورد فيها، ويثبت موقع الكتاب كواحد من مراجع تلك المرحلة، وقد سبق لي أن خضت غمار الكتابة عن جزء هام من تلك المرحلة الواقعة بين عامي 1982 و1984، في كتاب صدر قبل 25 سنة عام 1985 وحمل اسم «6 شباط الثورة التي لم تنته»، وكتب مقدّمته الرئيس نبيه بري الذي كان وزيراً في أول حكومة وحدة وطنية في عهد الرئيس الكاتب، وركناً رئيسياً في صناعة أحداث تلك المرحلة، وفي كل حال لا زلتُ أعتقد أن كتابي يحمل في جزء كبير منه الرواية المخالفة لرواية الكاتب والكتاب عن «الرئاسة المقاومة».
في الكتاب أيضاً سياحة ثقافية وفكرية وسياسية، مع شخصيات وفي عواصم، مروراً بنبذات عن مفكرين وموسيقيين وكتاب ورؤساء وسفراء ومستشارين، ومساهمة في رسم شخصياتهم وخلفياتهم وأسالييهم وثقافاتهم، طبعاً من وجهة نظر الكاتب، متشبهاً بأسلوب محمد حسنين هيكل في كتابه زيارة جديدة للتاريخ.
قرأت الكتاب من موقع معايشتي لأغلب الأحداث التي تناولها الكاتب، من موقع مقابل، لكن بكل تأكيد، معايشة كانت عن كثب وعن قرب، بما يكفي لإبداء رأي واستنتاجات حول الكتاب، واستخدام طريقة الكاتب في الحكم على الأدوار والخلفيات والشخصيات، لمناقشة دوره وشخصيته وخلفيته واستنتاجاته، والدور الذي أداه في تلك الحقبة.
ملاحظاتي المبدئية على الكتاب والكاتب معاً، قبل الدخول في مناقشة مضمون السيرة الرئاسيّة لعهد الرئيس أمين الجميل، تتصل بالمنهج الذي حكم سرديّته للأحداث، وهو منهج فرديّ نرجسيّ يفوق في مبالغته قدرة أي قارئ على الهضم والاستيعاب وبالتالي التقبّل، إلا إذا كان جاهلاً بواقع لبنان، ويرغب بالاطلاع على وجهة أحادية في فهم السياسة والاجتماع فيه، وفي المنطقة من حوله، والتفاعل والتشابك بين الداخل والخارج في الحقبة التي يتصدى الكتاب لسرد وقائعها، فكل الشخصيات اللبنانية التي ورد ذكرها بلا استثناء، رؤساء ووزراء ونواب وقادة سياسيين وعسكريين، تبدو بنظر الكاتب واحداً من أربعة، أنانيين مصلحيين انتهازيين، أو مرضى نفسيين عديمي الاستقرار مصابين بالغرور والعجز عن الفهم والإدراك، أو واجهات محلية لمشاريع أجنبية، وهم بالتالي مطعونون بوطنيّتهم وتمثيلهم ويمكن وصفهم بالعملاء بسهولة، وإلا فهم جبناء عديمو الشخصية عاجزون عن اتخاذ مواقف مستقلة، وليست لديهم إذا فعلوا ذلك شجاعة الاستمرار، ولا يشذ عن ذلك إلا شخص واحد بالمطلق هو الرئيس أمين الجميل، وبنسبة عالية من بعده، أبناء عائلة آل الجميل، الأب الشيخ بيار والشقيق بشير والابنين بيار وسامي، ومعهم فقط تهون عملية وصف العلاقة بـ «إسرائيل»، كمحاولة لإنقاذ لبنان، ويسهل تحويل كل القوى التي ناوأت حكم الكتائب وآل الجميل إلى مجموعة عملاء لسورية، والذين خالفوا العهد الرئاسي في مقارباته إلى مجموعة طامحين ومصلحيين أو جبناء أو مرضى نفسيين يعوزهم الاستقرار.
الملاحظة الثانية هي نرجسيّة فكريّة مشابهة للنرجسية الفردية، فليس هناك صراع داخلي أو صراع إقليمي، لهما جذور تاريخية حاكمة، يفترض قراءتهما بقدر عالٍ من التمعن والإنصاف، في بلد انقسم على نفسه مع إعلان دولة لبنان الكبير حول الهوية والدور، بين جبل لبنان المنسجم مع الإعلان ومؤتمرات الساحل الرافضة، وهو البلد الذي تأسس على ثنائية رفض الوحدة العربية والوصاية الفرنسية في استقلال 1943، وتكررت أزماته الوطنية في حروب كادت تنتهي به إلى التقسيم أو الزوال، محكوماً بهذه الثنائية القاتلة لصيغة عام 1943 التي قال عنها المفكر اللبناني جورج نقاش، «إن نفيين لا يبنيان وطناً»، هكذا يصير كل ما ليس كتائبياً مطعون بلبنانيته، وكل كتائبي غير موالٍ للرئيس أمين الجميل مطعون بنزاهته أو بسويّته العقلية والنفسية، فالحزب السوري القومي الاجتماعي وهو أحد أكبر الأحزاب التاريخيّة في لبنان، المناوئة للكتائب، والشريكة مع الكتائب، حزب الرئيس الكاتب، في ميادين الحركة الطالبية والنشاط الجامعي والمعارك المتقابلة، قبل أن يحكم حزب البعث في سورية، وقبل أن يصل الرئيس حافظ الأسد إلى الرئاسة في سورية، مجرد أداة مخابراتية سورية، وتصير الحركة الوطنية التي قادها مفكر وسياسي مثقف وعريق هو كمال جنبلاط، وضمّت أحزاباً تاريخية عريقة نافست وتفوقت مراراً على الكتائب في انتخابات الطلاب قبل أن تولد الثورة الفلسطينية، مجرد واجهة للمنظمات الفلسطينية، وهكذا يصير التأزم الطائفيّ الذي رافق أزمات النظام سواء في أعوام 1958 أو 1975، مجرد صدى لمؤامرة على الدور المسيحي الذي ترمز إليه الكتائب، التي تتصدّى ببطولات شيخها المتني قبل أن يصير رئيساً، لهذه المؤامرة، بتعالٍ وإنسانية، فتصير مجزرة عينطورة بطولة، ومجزرة مخيم تل الزعتر عملاً إنسانياً، من دون أن يعني ذلك على الإطلاق القول إن مجازر الدامور والجبل لاحقاً، التي أدانها الكاتب بحق، كانت بطولات وأعمالاً إنسانية، وتتواصل النرجسية الفكرية في إنكار أزمة النظام طوال السردية التي يقدمها الكتاب والكاتب، للعهد الرئاسي، موضوع الكتاب، فإعادة النظر بصيغة النظام، ليست إلا ذريعة سورية لوضع اليد على لبنان.
النرجسيّة توقع صاحبها بما لا يمكن التستر عليه، فيعترف بأنه تنازل عن المفهوم السيادي وهو يروي لنا وقائع مناقشته تفاصيل داخلية شديدة اللبنانية، مع الأجانب بلا استثناء، من دون أن يرف له جفن، وهو يحاضر فينا عن خلفياته السيادية التي شكلت أساس «الرئاسة المقاومة»، ولا مانع لديه لعدم إزعاج خاطر «رفاق السلاح» في القوات اللبنانية، رغم ما نالهم في الكتاب من توبيخ واتهامات، من أن يقاسمهم عائدات الدولة من مرفأ بيروت، وهو يُخبرنا الإنجاز العبقري لحكومته الأولى في استرداد ودّي للحوض الخامس، مؤسس على هذا التقاسم، بينما كان الجيش الذي أعاد بناءه، تقوده المخابرات التي توالى عليها جوني عبده وسيمون قسيس، ينكّل بكل محازبي الأحزاب الأخرى، وطنية وإسلاميّة، حتى تمتلئ السجون بآلاف الشباب الوطنيين، ويختفي مثلهم في عمليات خطف لم يعرف مصير المخطوفين فيها حتى تاريخه. وهو يخبرنا أنه رفض إدخال حزبه ورفاق سلاحه إلى بنية الدولة، لكنه استعان بالمستشار الأول لشقيقه بشير ورمز مشروعه، زاهي بستاني، ومثله بوديع حداد، ومثلهما بجوني عبده، وآخرين من الذين شاركوا بهندسة رئاسة شقيقه بشير مع الإسرائيلي والسعودي ومن خلفهما مع الأميركي، ويصير اغتيال شقيقه بشير اغتيالاً لحلم لبناني، وهو بالتأكيد حلم نصف اللبنانيين، لكنه كابوس نصفهم الآخر، ويصير كابوس ثلاثة أرباعهم طالما جاء كتتويج للاجتياح الإسرائيلي، بينما يتجاهل ما قاله في مذكراته صديقه وليم كايسي مدير المخابرات الأميركية، عن قيامه مع صديق آخر هو الأمير بندر بن سلطان المحبّان للبنان وفقاً للكتاب وللكاتب، بتدبير محاولة لاغتيال السيد محمد حسين فضل الله، الذي كان المرجع الذي يرعى المقاومة بوجه الاحتلال وشبابها، والمقاومة طبعاً غير موجودة في الكتاب، والسياق البياني الذي بدأ مع عهد الرئيس وانتهى عام 2000 بالانسحاب الإسرائيلي من دون تفاوض ودون قيد أو شرط، لم يستحق من الكاتب أن يجِيب عن سؤال، هل أخطأ بالرهان التفاوضيّ؟ وهل كان ممكناً لرهان معاكس، أي المقاومة أن يكون الطريق المؤدي فعلاً للخروج من النفق المظلم الذي نشأ عن الاحتلال، من دون تعريض الوحدة الوطنية لخطر الفتن، كما قالت تجربة المقاومة عن التحرير؟
الغائية الحاكمة للتبرير وتقديم السردية النرجسية للتاريخ تهيمن بطريقة لا يمكن تجاهلها في كل مناحي السرد، فانقسام الجيش ليس نتيجة السياسة الرعناء التي ورّطته بحروب الدفاع عن سياسات ونظام تحول إلى طرف في الانقسام الأهلي والسياسي حول كيفية التعامل مع واقع الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركياً، بل مؤامرة سورية إيرانية، وتوجّه شرائح لبنانية واسعة وكاسحة نحو سورية ليس امتداداً طبيعياً لعروبة طعنت في صميمها باحتلال عاصمة عربية هي بيروت، ولا هو تعبير طبيعي عن الانتماء لخيار مقاوم للاحتلال رافض لمخرجاته ونتائجه، التي فشل الحكم في تمييز نفسه عنها؛ فصارت المسؤولية الوطنية تقتضي مع فلتان «رفاق سلاح الرئيس» ومخابرات جيشه، وتمادي الاحتلال في تطلعه لاتفاق سياسي ترجم في ما عرف باتفاق 17 أيار، بناء جبهة مواجهة، تبحث عن تحالفات وسند أسوة بما فعله الرئيس الكاتب، بالاستناد إلى الحضن الأميركي دائماً وأبداً وحتى آخر رمق من ولايته الرئاسية، كما يقول ويعترف، ولا يختلف معنا إلا في تسميته بالخيار اللبناني، من دون أن يقدم لنا دليلاً واحداً، يفسّر لنا كيف يكون الخيار الأميركي وبدرجة أقل الخيار السعودي، هو الخيار اللبناني، ويمنع عن خيار المقاومة وقوى معارضة حكمه التي دعمتها سورية أن يكون خياراً لبنانياً، سوى بالنرجسية التي تجعل ما يقتنع به الرئيس «الكتائبي» هو اللبناني، وما عداه مطعون بلبنانيته؟
النرجسية الفكرية هي في دعوة القارئ لتقبل أن ما قدمته «دولة» الكاتب وحكومته للاحتلال من مكاسب في نصوص الاتفاق، هو عمل وطني لإزالة الاحتلال، وعندما ثبت أن نهوض المقاومة فرض حقائق جديدة لم يعُد الاتفاق قادراً على ضمان أمن الاحتلال، فصار الاتفاق بلا قيمة، حتى أن الاحتلال نفسه انقلب عليه صار عدم الإبرام بطولة وطنيّة ورئاسة مقاومة، ولن يكون عصياً على القارئ تبيُّن درجة الليونة في تمرير ما ورد في اتفاق 17 أيار في عهد رئاسي يملك كل الصلاحيات التنفيذية والإجرائية والسياسية، ومن ثم التبرؤ منها بخفة ألعاب السحرة، وبالتوازي النبرة التي تتذكر السيادة في طريقة تقديمه لسردية حواره مع سورية، رئيساً وحكومة وقيادة، علماً أن الرئيس في الحالتين لم يترك شأناً لبنانياً إلا ووضعه فوق طاولة النقاش مع الجميع بلا استثناء، فالمسعى الإنقاذي والموقف السيادي يتناوبان على التبرير حسب المقتضى.
مَن يقرأ الكتاب معنيٌّ بالحكم على النتائج، وفي النتيجة أمضى الرئيس الكاتب ولايته الرئاسية وهو يخوض رهاناً، لم يُخفِه عن القارئ، فهو تبرّأ من الخيار الإسرائيلي، وقاتل الخيار السوري، مراهناً على الخيار الأميركي ومن بعده السعودي، محتمياً بهما، ليحصد الخيبة، ويحصد لبنان الكوارث والحروب والخراب، فهل كان اكتشاف أن لا سياسة أميركية في المنطقة بعيداً عن حسابات المصالح الإسرائيلية يستحق أن يدفع اللبنانيون هذه الأثمان الغالية؟ وهل يعوّضنا ما خسرناه أن يعترف الرئيس الكاتب بفشل رهانه وخيبته، وهو يطلب منا الموافقة على أنها كانت رئاسة مقاومة، بدلاً من أن يسمّيها بشجاعة رئاسة الرهانات الخاسرة، أو الخيبة الكبرى؟
ثمّة أسئلة من حق القارئ أن يطرحها في محطات الكتاب، من نوع، ماذا لو وافق الرئيس على ترشيح الرئيس سليمان فرنجية مع اقتراب ولايته من النهاية، وهو يطلعنا على حجم تمسك الرئيس فرنجية بما يسمّيه الكاتب الرئيس بالثوابت المسيحية وما له من قدرة على تقنين التنازلات المطلوبة في الصيغة التسووية للدولة، وما له من علاقات ثقة سواء في سورية، ومع حلفائها، وما دام يعتبر أن ترشيحه كان مناورة سورية، فماذا لو حوّلها حقيقة، منطلقاً مما يريد إقناعنا به بأولوية محبته للبنان والحرص عليه وتأميناً للاستقرار الدستوري، وتخفيضاً لسقوف الضغوط؟
من حق القارئ أن يسأل، والرئيس الكاتب يعلم، ويعلم أننا نعلم، أنه كان ممكناً توحيد البلد والدولة في ظل حكومة الرئيس سليم الحص، بإضافة توزير النائب جورج سعادة خلفاً لوالد الرئيس الشيخ بيار الجميل وداني شمعون خلفاً لوالده الرئيس كميل شمعون؟
من حق القارئ أن يسأل سؤالاً أصلياً، عندما بدأت ولاية الرئيس الكاتب، لماذا لم يتجرأ على أن يبدأ عهده بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها الرئيس رشيد كرامي والتي ضمت أغلب أعضاء هيئة الإنقاذ التي تشكلت في عهد الرئيس الياس سركيس وشارك في اجتماعاتها المبعوث الأميركي فيليب حبيب، وعاد الرئيس الكاتب ليشكل هذه الحكومة مرغماً بعد تفكك نظامه وسقوط مشروعه المشترك مع الأميركيين، المعروف باتفاق 17 أيار، وكان لو فعلها مبادراً ومبكراً ليعبر عن أعلى درجات المسؤولية الوطنية في مثل الحالة التي كان عليها لبنان، بأن يعهد إليها بإدارة الحوار الوطني حول القضايا، التي إن كان من مبرر لأي حوار، فماذا عساها تكون قضاياه أهم من تلك التي طرحتها كارثة الاحتلال، ووقوع لبنان على فالق الزلازل؟
الخيبة الكبرى للرهان على الخيار الأميركي، وفي ظلاله الخيار السعودي، خلاصة طبيعية يصل إليها القارئ، مهما كانت خلفيّته ومهما كان انتماؤه، فالكاتب الرئيس لا ينكر أنه خاض في رئاسته هذا الرهان، وبقي متعلقاً به ومخلصاً له من يومه الأول حتى آخر يوم من ولايته، يشرب من كأسه حتى الثمالة ويقاتل لأجله حتى الرمق الأخير، كما أنه لا ينكر أنه خسر الرهان، وأن الخيبة كانت حصيلة رهانه، وهو عندما يسميه تجاوزاً بالخيار اللبناني، يواصل من حيث لا يدري غلواً في نرجسيته الفردية والفكرية، فلبنانية الرهان على الخيار الأميركي لا سند لها، سوى قناعة الرئيس الكاتب بأنه يكفي أن يكون هذا هو رهانه الشخصي والكتائبي، ليصير الخيار لبنانياً، فكل ما عداه مطعون بلبنانيته، ولم لا يكون الخيار الذي ثبتت صحته في مواجهة الاحتلال، وهو خيار المقاومة هو الخيار اللبناني، والمقاومة كخيار غابت كلياً عن الكتاب، فهي إما عبثية سورية تفاوضية، أو خمينية متطرفة للتخريب على لبنانية الخيار الأميركي للرئيس، بينما الخلاصة في مسار الخطوط البيانية للخيارين تقول بوضوح، إن هناك خياراً لم يجلب إلا الخيبة مكلفاً لبنان واللبنانيين أثماناً باهظة في العديد من المجالات والمناحي، ومقابله خيار بدأ جنينياً وملاحقاً من حكم الرئيس، وبدأ يحقق الإنجازات من يومه الأول بفرض الانسحاب على جيش الاحتلال، هو خيار المقاومة، ولأن الأمور بخواتيمها، فقد نجح خيار المقاومة بخط بياني مثابر على بلوغ النهاية التي سار عكسها الكاتب الرئيس؛ فرهانه على الخيار الأميركي قام على فرضية إخراج الاحتلال بالتفاوض وقبول بعض القيود والشروط، التي يراها ثمناً لا بد منه، ويأمل أن يخفف من وطأته الرهان على الخيار الأميركي السعودي، فهل يحق له لوم سورية التي لم تكن شريكاً له في رهانه، على فشله، وهو يعلم أنها المستهدف الرئيسي بهذا الرهان، كما لو أنه يحق للمقاومة لو فشل خيارها في التحرير أن تلوم الإسرائيلي، وها نحن نحتفل بالعيد العشرين للتحرير بلا تفاوض وبلا قيد ولا شرط، وكل الأثمان التي قيل إنه لا بد منها لتحقيق التحرير، تحرّر لبنان بفضل المقاومة من تأديتها، ألم يكن جوهر التحدي الإنقاذي مع بداية عهد الرئيس الكاتب هو إنهاء الاحتلال، وقد فشل في الإنجاز عبر رهانه وخياراته، بينما تحقق الإنجاز عبر الخيار الآخر، الذي ثبت أنه هو الخيار اللبناني، لأن الأمور بخواتيمها، وليس بنرجسية القارئ وتعلقه بذاته؟
قيمة الكتاب تكمن هنا، أنه يمنحنا الفرصة لطرح السؤال، إذا كانت الظروف التي أتيحت لنجاح الرهان على الخيار الأميركي، واستطراداً السعودي، في بلد كان ولا يزال كل تحدٍّ فيه يرتبط بمواجهة المصالح الإسرائيلية، قد بلغت حدّها الأقصى في المرحلة التي يتناولها الكتاب، سواء على الضفة الأميركية أو الضفة الإقليمية أو الضفاف اللبنانية، ورغم ذلك كانت الخيبة الكبرى هي النتيجة، فماذا عساه يكون تكرار هذا الرهان مجدداً، في ظروف اقل مؤاتاة للرهان نفسه، ففي زمن الكتاب كانت أميركا غير أميركا اليوم، وروسيا والصين غير روسيا والصين اليوم، والسعودية غير السعودية اليوم، و»إسرائيل» غير «إسرائيل» اليوم، وإيران غير إيران اليوم، والمقاومة غير المقاومة اليوم، والرئاسة غير الرئاسة اليوم، والسياسة غير السياسة اليوم، وسورية حكماً هي غير سورية اليوم، وقد تخففت من أعباء وجودها في لبنان وما يثيره من التباسات وانقسامات، فليدلنا دعاة تكرار الرهان على الخيار الأميركي على سبب واحد يتوافر اليوم ولم يكن موجوداً أيام ولاية الرئيس الكاتب، يمنحهم حق المخاطرة بأخذنا مجدداً إلى التجربة، بينما لدينا بالعكس عشرات الأمثلة المعاكسة على عوامل كانت موجودة تعمل لصالح الرهان ولم يعد ممكناً تجديدها، لعل الذين يعيشون وهم الرهان مجدداً يقرأون بتمعن كتاب الرئيس وخيباته ورهاناته الخاسرة ويسألون أنفسهم، «مَن يجرِّب المجرَّب إلا من كان عقله مخرب»، كما يقول المثل الشائع، اللهم نجِّنا من التجارب، آمين؟!