ثقافة التثاقف
} د. عصام الحسيني
كلّ الحضارات عبر التاريخ الإنساني، كانت تتكامل ثقافياً في ما بينها، في العديد من المعارف والعلوم المختلفة، في تبادل ثقافي لكلّ ما تحتاجه في بناء معالم حضارات جديدة.
فالحضارة العربية الإسلامية وعبر الترجمة، استعانت بالحضارات السابقة في بناء صرحها الحضاري، لتكون في القرون الوسطي، أرقى حضارة إنسانية.
لقد أخذت من الحضارة الهندية الرقم الحسابي، وطوّرته إلى علم الجبر.
وأخذت من الحضارة الإغريقية معارف وعلوم مختلفة، مثل الفلسفة، والهندسة، وعلم الطب، حيث طورت العديد من اختصاصاته، وأهمّها طب العين.
وكذلك أخذت من هذه الحضارة الإغريقية والحضارة المصرية مفهوم علم الكيمياء النظري، وحوّلته إلى علم الكيمياء الحديث.
وهذه التطوّر الحضاري، يعني أن الحضارات في حركة تبادل وتكامل ثقافي في ما بينها، بحسب الفلسفة الشرقية، والتي تتعارض مع الفلسفة الغربية، التي تصف التطور الحضاري بأنه «صراع حضارات».
ودائما كان النقل الثقافي، مشروع في التطور الحضاري، شرط أن يكون نقلا إيجابيا وليس سلبيا.
النقل السلبي: أن تكتفي حضارة ما، بنقل ثقافة حضارة أخرى من المعارف والعلوم دون تطويرها، وبذلك تكون حضارة متلقية لا فاعلة.
النقل الإيجابي: ألا تكتفي حضارة ما، بنقل ثقافة حضارة أخرى من المعارف والعلوم، بل تدرسها وتحللها وتطورها، لتكون مدخلا إلى علم اخر مستفاد، وهذا يجعلها فاعلة حضاريا، وليس حضارة متلقية فقط.
وإذا كانت الثقافة هي ارث مشترك لأمة، أو لمجموعة اجتماعية أضيق، فهي بالمعني الحضاري إبراز الخاص في العام، بهوية العالمية، وهو مفهوم معاكس للتثاقف، الذي يعني استقبالا كليا أو جزئيا، من قبل فرد أو جماعة، للقواعد والقيم الثقافية لمجموعة أخرى، أو بالمعنى الحضاري، هو إبراز العام في الخاص، بهوية العولمة.
إن التمايز الثقافي للحضارات، هو لتحديد شخصيتها الإنسانية، في الزمان والمكان، وليس تمايزا تفاضليا، لأنها صيرورة إنسانية واحدة، بحسب مفهوم الفلسفة الشرقية.
لكن الإشكالية تكمن، عندما تتثاقف أمة ما في وعيها، حيث يصبح استقبال القواعد والقيم الثقافية لأمة أخرى، هو منهج وسلوك، وتتحول إلى أمة متلقية.
وتعود أسباب هذا التثاقف، إلى غياب تاريخي للقواسم الاجتماعية المشتركة، التي تشكل حاضنة وطنية وقومية لشعب ما، تنزع عنها الهوية الثقافية، وتجعلها فارغة الإرث الحضاري.
وعندما يغيب وعي حضارة ما تموت، أو تنتقل إلى حضارة أخرى، وهي نتيجة طبيعة، لانكفاء عوامل بقائها وتطورها، ولهذا شواهد عديدة في التاريخ الإنساني.
وبالانتقال إلى المثال اللبناني، نرى ظاهرة التثاقف واضحة المعالم في الحياة الاجتماعية، مما يشكل إشكالية على إمكانية التطور الحضاري وبقائه.
ونسأل، ما هي أسباب هذه الظاهرة، وكيف يمكن علاجها والخروج منها؟
إن أول لقاء ثقافي منهجي مع الخارج، كان صلة الموارنة بكنيسة روما الكاثوليكية في عهد الإمارة، حيث تخرج الكثير من الطلاب الرهبان، وراحوا ينشئون المدارس بدعم من الكنيسة، التي تدرس اللغة اللاتينية في الوطن، مما أعطى لطلابهم القدرة على تبوأ أعلى المناصب في الحياة العامة، بفضل تعليمهم العالي.
ومن العامل الثقافي، دخلت الطائفة المارونية في تأييد سياسي غربي، لم تعرفه باقي الطوائف اللبنانية، بحكم العلاقة الثقافية الدينية.
ومع مرور الزمن، ارتبطت العديد من الطوائف اللبنانية بجهات خارجية، بفعل العامل الثقافي الديني أو الاجتماعي، وكان مدخلا إلى دخول سياسي، يحتاجه الأجنبي في رسم معادلات سياسية استراتيجية، وهو ما يدخل في إطار تطور الصراع الدولي.
وكلّ فئة اجتماعية لبنانية، تكونت لديها ثقافة المحور التي تنتمي اليها، حيث الحاجة الدائمة إلى الأجنبي، كان سمة الاجتماع اللبناني المعاصر، وما زال.
إنّ الالتقاء الثقافي والسياسي لمجموعات لبنانية، تحوّل مع الزمن إلى أسلوب عيش حضاري مقلد، وأسس إلى التحول من التقاء ثقافي إلى ظاهرة التثاقف، بسبب عدم المتكافئ الحضاري بين المتلقي والفاعل.
فالغرب قدم للمجموعات المرتبطة به نتاجه الثقافي الاجتماعي، والتي تطورت مع الزمن بفعل التطور الصناعي الطبيعي، في حين أن تقليد النمط الحضاري الغربي، أتى بمثابة إسقاط غير طبيعي، على المجتمع المقلد الزراعي، فوقع في ظاهرة التثاقف.
وعندما تسقط الهوية الثقافية الواعية لذاتها، معتمدة على الهوية المتثاقفة، يسقط المجتمع في النقل السلبي، ويتحول إلى مجتمع متلقي، أضاع عنصر إبراز العالمية.
ونأتي إلى التثاقف السياسي، حيث يتبنّى النظام السياسي، أو المجموعات الاجتماعية السياسية، قواعد وقيم لا تتوافق مع طبيعتها وتركيبتها الاجتماعية، كنظام سياسي منجز قابل للحياة.
فالديمقراطية الغربية، تتوافق مع مجتمع صناعي مركب في العلم والاعتقاد الخاص، في حين أنّ هذا الطرح لا يتوافق مع نظام اقتصادي زراعي، يفتقر إلى الكثير من التجربة الصناعية ومركباتها الاجتماعية، ليصل إلى مرحلة ديمقراطية الغرب.
وما يصحّ في المجتمعات الصناعية المتطورة، لا يصحّ مع المجتمعات الزراعية النامية، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الاجتماعي «كارل ماركس» بقوله:
إنّ البلدان الأكثر تطوراً صناعياً، هي البلدان الأكثر قدرة على تحقيق الثورة الاشتراكية العلمية.
فطبيعة دينامية التطور في المجتمع الصناعي، هي دينامية سريعة ومرنة، في حين أنها دينامية بطيئة وقاسية، في المجتمعات الزراعية النامية.
لقد أراد فريق لبناني، تقليد الديمقراطية الغربية في المعتقد والسلوك، وهذا يتناقض مع مفهوم العلم الحديث، مقاربة ثقافة مجتمع زراعي بثقافة مجتمع صناعي، ومن هنا وقع التثاقف.
والإشكالية في التثاقف السياسي، أنّ نتائجه تكون خطيرة على كلّ مجتمع الدولة، لأنه بالأغلب يتناقض مع مفهوم المصلحة الوطنية والقومية، كونه ليس أصيلاً في ثقافتها.
ولما كان التثاقف في فلسفته نقصا وتبعية، تأتي نتائجه في السياسة انتقاصاً للسيادة الوطنية، لأنها تسمح للفاعل باتخاذ قرارات سياسية، بالإنابة عن نظام الدولة المتلقي.
إنّ نقص الشعور الوطني والقومي، أو انتفائه، أو تشتته، وغياب الهوية الثقافية الاجتماعية الواعية، يوصل حتما إلى التبعية السياسية، وهو المعبّر عنه بالاستعمار الجديد، الاستعمار الثقافي.
وما يزيد من عمق هذا الاستعمار، الوضع الاقتصادي المتهالك، ليكون عنصر ضغط إضافياً في التبعية السياسية، حيث يصبح الفاعل الأجنبي هو الدولة العميقة، بعد أن سلب منها بالاقتصاد مفهوم السيادة.
لقد فرض صندوق النقد الدولي، على الحكومات اللبنانية المتعاقبة، العديد من القوانين والبرامج الإدارية التي يجب اتباعها، مثل:
«النظام التعاقدي الوظيفي، ونظام الخصخصة»، وهو ما يتعارض مع مفهوم سيادة الدولة.
أمام هذا الواقع، هل يوجد حلول تخرج الوطن من محنة التثاقف بكلّ أشكاله، وتعيد اليه التوازن في ميزان العلاقات الدولية، كدولة مستقلة ذات سيادة فعلية؟
بالتأكيد، إنّ ظاهرة التبعية ولو وجدت، فهي نسبية وعابرة في تاريخ أمتنا، وان صيرورة تطور الشعوب، لا تقف عند عثرات عارضة، شرط أن نعالج الإشكالية في الهوية الثقافية، بوعي وإدراك لذاتنا الاجتماعية الحضارية.
إنّ مبدأ الخروج من التبعية للشعوب الحرة، هو ليس خيارا بل واجباً، وهو ما نصت عليه القوانين الدولية، من ضرورة التحرر، وتقرير مصير الشعوب بنفسها.