«قسد» التي حفرت قبرها… و«العشائر» التي انتفضت على تقاعسها… وأردوغان يروي إجرامه في تعطيش مواطنينا
من دون وجود وانتشار وباء «العثمنة» و«الأخونة» والاحتلالين، الأميركي والتركي، لم يكن لكلّ هذا المكر والدهاء المرافق لهيمنة القتلة والمشعوذين واللصوص من البقاء والتمدد في تفاصيل حياة المجتمع والدولة، والتمكّن من إعادة تدوير سلطتهم وسط كل هذه الزحزحات التي هزّت سورية منذ سنوات تسع.
ما إن وضع الوباءان الأميركي والتركي اللعينان قدمهما على أرضنا، حتى توجّه إلى اسلوب القتل الممنهج، متسلّحًا بتاريخ حافل بالفواجع والإجرام التي لم تغب عن ذاكرة شعبنا منذ مذابح «سيفو» ولن تغيب.
فمرّة يستخدم سياسة «فرّق تسد»، ومرّة أسلوب الاغتيالات، ومرّة حرق المحاصيل، ومرة يستخدم سلاح التعطيش لمليون ونصف مليون من السوريين في محافظة الحسكة. ولكن جميع «المكرمات» ومحاولات الاحتلالين، لتركيع شريحة من المجتمع السوري.. ما كان ذلك ليكون لولا خيانة بعض السوريين وتعاملهم مع المحتلّ الأميركي والتركي، ولما شهدنا خسارة عفرين وجوارها، وأيضًا رأس العين وتلّ أبيض وأريافها، وقبلهما مدينة القامشلي ورميلان والمالكية والقحطانية، ولو كانت «قسد» سمعت لنصيحة السياسي الوطني الراحل عبد الحميد درويش بتسليم هذا المناطق للجيش السوري لتكون المعركة مع المحتلّ التركيّ معركة وطنية بكامل أبعادها، لما كان الحال على ما هو عليه في شرقيّ الفرات ومحافظة الحسكة. ولكن شاءت «قسد» أن تتبجّح ببطولاتها الوهمية مما أفقدنا هذه المناطق الغنية الخصبة بالزراعة وينابيع المياه، ولما كان أهلنا ومواطنونا تعرّضوا لما يتعرّضون له من سياسة تعطيش من قبل من يدعون أنهم من المسلمين.. ولكنّه ديدن «الأخونة» في الخيانة ليس إلا.. وهي السياسة التي ستقابلها في الفترة المقبلة مقاومة شعبية مسلّحة ضد الاحتلالين والمتعاملين معهما كافّة وفي كلّ مكان.
كيف حفرت «قسد» قبرها؟
عند الحديث عن ميليشيا «قسد» وممارساتها منذ خروج خدمات الدولة السورية المؤقّت في محافظة الحسكة مع بدء الحرب الكونية على شعبنا، وبقائها الشكليّ هناك، وتلك الميليشيا تكشف بالتتابع الكثير عن قباحة «فتوحاتها» الوهمية، وحيث أبواب الاحتلال الأميركي مشرّعة كعادتها أمام هذه الميليشيا وقوافل أصحاب الدويلة الوهمية.. كما أمام القتلة والمشعوذين واللصوص وغير ذلك من تقاليد الاحتلال أمام راكبي الأمواج و«الدراجات» كما وصفهم يومًا الشاعر السوري محمد الماغوط، ولا إضافة جديدة هنا لمشوار الاستغفال الطويل المستند إلى ركام البلاهة وجمهورها، المتخصّص بصناعة الخيبات لشعبنا السوري المتنوّع بألوانه والموحّد بهويته.
لا حدود للمفردات والمفاهيم المهينة التي استردّت نفوذها وسطوتها مع هيمنة ميليشيا «قسد» على مقاليد أمور الدولة والمجتمع؛ وعملت على انتهاك حرمة المدنيين العزّل في القامشلي وريف الحسكة، من محاولات تغيير مناهج التعليم، والاعتقالات التعسّفية للشباب، والتغيّب القسريّ والتجنيد الإجباريّ للأطفال ومصادرة ممتلكات الدولة والمواطنين، وبطريقة مهينة لروحية السوريين وتطلّعاتهم المشروعة في الحياة الحرة والكريمة بعيدًا عن ميليشيات العمالة والذلّ والخذلان. وكان في ختام هذه الممارسات اتّباع سياسة الاغتيالات لبعض من يخالف مشروعهم التقسيميّ، كما جرى مع وجهاء عشيرة العكيدات في شرقي الفرات.
لكن، ومع كلّ هذا الصخب والضجيج والغبار، ها هي ميليشيا «قسد» تفرّق بين الاحتلالين، الأميركي والتركي، بين احتلال أبيض واحتلال أسود، وهي مفارقة تستدعي التوقّف أمام «عبقرية» هذا العقل الجهنميّ الذي ارتضى أن يجعل من نفسه جحشًا للاحتلال الأميركي من جهة، وحمل بارودة النفاق أمام الاحتلال التركي من جهة ثانية، وبعدما سلّم للأخير، عفرين ورأس العين للقوات التركية ومرتزقتها، بل ولم تستمع هذه الميليشيا لصوت العقل الوطني الذي اعتمده الراحل عبد الحميد درويش (السكرتير العام للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سورية)، فقد كان أوّل المنادين بدخول الجيش الوطني السوري إلى عفرين قبل سنتين، ولكنّ غياب الرؤية عند ميليشيات الأمر الواقع التي عاندت، أدّى إلى احتلال تركي وتهجير للسوريين من تلك المناطق في ريف حلب.. كما كان أول من طالب بدخول الجيش الوطنيّ السوريّ وانتشاره على الحدود مع تركيا قبل يوم من الغزو الجديد لشمال شرق سورية واحتلال مدينة رأس العين وجوارها، ولكن ميليشيا «قسد» عاندت أيضًا وتوهّمت بأنّ بطولاتها الوهمية المنتفخة سيصدّ جحافل غزو أردوغان ومرتزقته، ولم تستوعب هذه الميليشيا أن هناك فرقًا بين أن تكون المعركة ضدّ المحتلّ معركة وطنية يخوضها الجيش السوري، وبين أن تكون معركة مع ميليشيا تخلّى عنها راعيها الأميركي وباعها بفضّة من اليهود، ما سبّب ضحايا بالمئات ومن خيرة شباب المنطقة، إضافة إلى تهجير أكثر من 100 ألف مواطن، بحسب تقرير الأمم المتحدة… هي مفارقة يجب أن تُخجل أصحاب هذه الميليشيا وتستعجل بالمشاركة للتخلّص من تركة الاحتلال الأميركي «الأبيض» القبيحة، وهو الاحتلال الذي يستعدّ للرحيل وكشف عملائهم أمام بقية المواطنين السوريين في تلك المنطقة العزيزة من سورية. ولعلّ «قسد» وملحقاتها، تتذكّر كيف تخلّى عنها الأميركيّ في «عفرين» و«رأس العين» وكشفها امام القوات التركية الغازية، بل إن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، لم تنظر إلى الأكراد على أنهم شركاء استراتيجيون في جميع المجالات، بل كشفت أن العلاقة التحالفية بينهما تقوم على القطعة ووفق الحاجة. وقتها أبلغ جنرالات الجيش الأميركي نظراءهم في تركيا عدم انخراطهم في المعركة إلى جانب القوات الكردية في عفرين، ليخرج بعد ذلك «رينكين غيلوي»، الناطق باسم البنتاغون ويحذّر الأكراد من نقل قوّاتهم من الشرق إلى عفرين، حيث قال «نحن ندرّب القوّات التي تقاتل تنظيم داعش الإرهابي فقط»، مضيفًا «في حال حاولت القوات الكردية القيام بعملية عسكرية غير موجّهة ضد «داعش»، فإنّها ستفقد دعم واشنطن». وتابع: «مثال على ذلك إذا أعلن أيّ تشكيل من وحدات حماية الشعب في هذه المنطقة في سورية، أنه بدلًا من محاربة «داعش» سيتوجّه إلى عفرين دعمًا لإخوانه، فإنه سيبقى وحيدًا، ولن يعتبر شريكًا لأميركا»، هكذا بكل صراحة وصفاقة يتعامل الأميركيون مع المتعاملين معهم.
وكان قد نصحهم السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، الذي حذّر اصحاب الوهم الكردي من أنهم «يرتكبون خطًا كبيرًا إذا اعتقدوا أن القوات الأميركية ستقف إلى جانبهم وترسل القوات لحمايتهم وإنقاذهم».. وتابع فورد قائلًا: «إن الأكراد سيدفعون غاليًا ثمن ثقتهم بالأميركيين» (راجع الشرق الأوسط 19 يونيو 2017).
وللغباء المستأصل في عقول قيادات «قسد» إنها لم تتحرك سريعًا لتسليم تلك المناطق للدولة ودعوة الجيش السوري لكي يقوم بواجبه الوطني في حماية حدوده ومنع جحافل القوات التركية من التمدّد لكي تكون المعركة معركة جيش وطني مدعوم بقوى شعبية، وبين احتلال غاشم ومرتزقته، ولكنّها الاوهام التي وضعت الغشاوة امام أعينهم وتركتهم ينزلقون إلى مسارب غاية في الخطورة كان آخرها اغتيال رئيس عشيرة العكيدات والاعتداء على بقية العشائر بشرقيّ الفرات، معتمدين بذلك على وجود الاحتلال وتحريض منه، وسأورد هنا مثالين لكشف كيف يتعامل الاحتلال الأميركي مع «قسد» وبالقطعة…
ـ التجربة الأولى، لنتذكر قصّة هنغاريا في 1956، وهي الفترة التي كانت فيها الحرب الباردة في أوجها، فترة حكم الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، والرئيس السوفياتي نيكيتا خرتشوف. وقتذاك، تظاهر الهنغاريون في بودابست ضد هيمنة الاتحاد السوفييتي. ورغم الدعاية الأميركية لمساعدة الشعوب والتظاهر ضدّ الشيوعية في أوروبا الشرقية بما فيها هنغاريا، إلاّ أن الغرب والأميركيين لم يقوموا بأي شيء لمساعدة الهنغار، بل تركوهم يُسحقون أمام الجيش السوفياتي.. كانت تلك التجربة مريعة للهنغار وأوروبا الشرقية.
ـ التجربة الثانية، هي تجربة «كردستان» العراق، عندما ركب الوهم رأس زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البرزاني، ومن دون التشاور مع شريكه في الإقليم الاتحاد الوطني الكردستاني، وقرّر الاستفتاء لإعلان الانفصال، وقد اعتقد ان الظروف متاحة وقتها والعالم الغربي سيدعمه، ولكن كعادة الأميركيين كرّروا خيانتهم لآل البرزاني وسُمح للجيش العراقي أن يسحق المشروع الانفصاليّ.. بل ويسترجع كركوك ومناطق أخرى، وقد لاحق الجيش العراقي «البيشمركة» حتى مداخل أربيل، ولم يكتف هذا الجيش بذلك، بل أغلق أجواء الشمال أمام الطيران لاشهر عديدة كما اغلق الحدود مع تركيا، ما سبّب أزمة أقتصادية عميقة بالشمال كان لها تأثير سلبيّ على حياة المواطنين هناك، وكعادته رمى السيد البرزاني خيبته على نصفه الآخر.. أي الاتّحاد الوطني الكردستاني الذي كان يترأّسه الرئيس العراقي السابق، الراحل جلال الطالباني.
ما أودّ الإشارة إليه، هو ما حذّركم منه السفير الأميركي فورد بأن الأميركيين لن يدافعوا عنكم، ولإن معادلات القوى التي أفرزتها الحرب في سورية الآن، في ظل وجود القوى الحليفة لسورية، لم تأت لصالح المشروع الأميركي ولا لمشروع ميليشيا «قسد» التي تستظلّ بوجود الاحتلال.. والأهمّ للأميركيين أن معادلات القوى لم تأتِ لصالح «إسرائيل» كما قال فورد نفسه.
ومن الضروري هنا أن نسترجع تحذير الرئيس السوري بشار الأسد في شباط/ فبراير من العام المنصرم 2019، للفصائل التي «تراهن» على الولايات المتحدة، مؤكّدًا أن واشنطن لن تحميهم، في إشارة ضمنيّة إلى المقاتلين الأكراد.
وقال الأسد في خطاب نقله التلفزيون السوري الرسمي، وقتها: «نقول لهذه المجموعات التي تراهن على الأميركيّ إنّ الأميركيّ لن يحميكم». وأضاف «الأميركيّ لن يضعكم لا في قلبه ولا في حضنه. الأميركيّ سيضعكم في جيبه لكي تكونوا أداة المقايضة مع الدولارات التي يحملها».
وتابع الأسد «إذا لم تحضّروا أنفسكم للدفاع عن بلدكم وللمقاومة فلن تكونوا سوى عبيد» عند المحتل. وأضاف «لن يحميكم سوى دولتكم. لن يدافع عنكم سوى الجيش العربي السوري». فهل تدرك ميليشيا «قسد» أن الرجوع إلى الدولة أفضل من البقاء بوجود الاحتلالين الأميركي والتركي؟
انتفاضة العشائر والمقاومة الشعبية
أدّى التضخّم والانتفاخ الوهميّ الذي صاحب مشروع «قسد» الانفصاليّ إلى تململ العشائر والقبائل العربية منه، وقد كان بعض هذه العشائر والقبائل متماهيًا في البداية مع مشروع «قسد» بل ومشاريع الاحتلال الأميركيّ لتفتيت الدولة، وجعلها كانتونات كقطع الفسيفساء التي تتقارب ولكنها لا تتّحد.
وحذّرنا كثيرًا، من تدهور الأوضاع في مناطق شرقي الفرات والجزيرة، وعن مواجهة المليشيات المسلحة التي يدعمها الاحتلالان، الأميركي والتركي، كما حذّرنا من أن الدولة تواجه خطر التفكك إلى مجاميعَ ومناطقَ ومحمياتٍ متناحرة، وأن هذا ليس في مصلحة السوريين.
إلاّ أنّ التفكّك كاد أن يكون حقيقة، عندما بدأت المليشيات تقتل وتخطف من تشاء في المدن والقرى والمؤسسات والشوارع، بل أصبحت تعتدي على المواطنين وتبتزّهم وتهدّدهم، وتتحدّى حتّى العشائر التي كانت تسايرها أو تتماهى مع مشاريعها.
لقد بات واضحًا لهذه العشائر والقبائل السورية التي التقت بشرقيّ الفرات وفي حلب الحاجة إلى توصيف ما يحصل بعين الحقيقة الواقعية والإيمان بضرورة العودة إلى الدولة باعتبارها الضامن لوحدة المجتمع وفق الدستور، وهي تدرك، أي العشائر والقبائل، أن أيّ أزمة لا يمكن أنْ تأتي من فراغ، وأنّ التغاضي عنها وعدم محاسبة المتعاملين مع الاحتلالين، الأميركي والتركي، ومواجهتهم بالكلمة أولًا لفضح مشاريعهم الانفصالية، العرقية والمذهبية، التي ستبقي البلاد في حروب أهلية طويلة الأمد، بعد جعلنا «شعوبًا» و«مذاهب». كما ومواجهتهم بالسلاح، إن لم يؤمنوا بمشروع الدولة الضامنة للجميع، لكسر ودحر الاحتلالين والمتعاملين معهما كافّة. إن هذه المواجهة ستكون مشروعة في المرحلة المقبلة، فهل تسرع ميليشيا «قسد» للتواصل مع الدولة وتسليم مؤسّسات الدولة والإعلان عن استعدادها للحوار من أجل دولة سورية مدنية وعلمانية، تقصي التكفيريين والإرهابيين وتدحرهم بالتعاون مع الجيش السوري، وذلك لتشريف الدين وإبقائه داخل الكنائس والجوامع.
لقد شكّل اجتماع القبائل والعشائر السورية والنخب الوطنية الثالث في حلب دعمًا لانتفاضة العشائر ونصرة لأبنائها في الجزيرة السورية. كما شكّل هذا الاجتماع مرحلة جديد من أنتصار سورية وانتصار مفهوم الدولة، وبدء العمل لإطلاق المقاومة الشعبية ضد الاحتلالين ومرتزقتهما، سواء من «قسد» أو من الجماعات الإرهابية التكفيرية، التي تقتل باسم الله، وتذبح باسم الله، وتنكح باسم الله وتستبيح المحرّمات، وكأن الله صاحب سوبر ماركة، يبيع شرف بناتنا ونسائنا وأمّهاتنا في المزاد، وما حصل لنساء اليزيدية في شمال العراق، كما حصل في الرقّة وفي شرقي الفرات ويحصل في إدلب، سيبقى وصمة عار في تاريخ الاسلام السياسي المحمديّ في العصر الحديث.
كان المشاركون في الاجتماع الثالث للقبائل السورية الذي شهدته مدينة حلب قد أعلنوا عن رفضهم «لأي وجود أجنبيّ غير شرعيّ على الأراضي السورية، ومحاربة المحتلّين في الشمال والجزيرة بكلّ السبل المشروعة والمتاحة، حتّى خروج آخر جنديّ محتلّ من سورية». كما أكّدوا دعمهم للمقاومة الشعبية التي انطلقت في منطقة الجزيرة السورية ضدّ المحتل ومرتزقته وأعوانه.
وأشاروا إلى أن الشعب السوري هو مصدر السلطات جميعها ولا يحقّ لفئة أو جماعة أو أفراد منه تقرير مصير شبر واحد من أرضه أو النيابة عنه في عقد اتفاقيات أو تفاهمات بشأنه وقد قال بيانهم: «سورية ملك للسوريين كلّهم وإرث دائم ومستمرّ لأجيالهم كلّها السابقة واللاحقة وعبر التاريخ ولا يحقّ لأحد أو فئة أو حتّى جيل كامل التصرّف بأيّ جزء منها».
كما شددوا على أن «الثروات الطبيعية والاقتصادية هي ملك للشعب السوري كله ولا يحقّ لفئة منه التصرّف فيها مثلما لا يحقّ لها التصرف بالأرض أو عقد اتفاقيات بشأنها، ذلك أن الأرض وثرواتها لا يحق لجيل منهم اليوم أن يتصرّف بها فكيف لفئة خارجة عنه أن تعطي لنفسها حقّ التصرّف وهذا ينسحب على المحتل لأراضينا الذي منح نفسه حقّ التصرف بمقدّراتنا»، داعين المجتمع الدولي إلى «الضغط على الغرب الظالم من أجل رفع العقوبات الاقتصادية الجائرة عن شعبنا والتي تزيد من معاناته من جميع النواحي ولا سيما حاجاته الإنسانية الأساسية.»
لا شكّ أنّ تمركز العشائر والقبائل السورية في الجزيرة السورية قديم جدًّا وهم فعليًّا أبناء المنطقة والسكان الأصليون لها إلى جانب السريان والآشوريين، والأكراد قبل أقل من 100 عام، وامتاز التعايش بطابعه السلميّ وبقي هكذا حتى دخلت قوّات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وتبنّت «قسد» ودعمتها من خلال وعدها لهم بالانفصال إلى جانب دخول القوات التركية واحتلالها لمناطق عديدة كرأس العين ومنبح وجرابلس وعفرين أيضًا ذات الطبيعة العشائرية، والتي هي بطبيعة الحال مسالمة حتى بدأ الجميع يضيق الخناق عليها.
لقد عمدت ميليشيا «قسد» في مناطق سيطرتها إلى إجبار السكّان على التجنيد الإجباريّ لا لقتال الأميركي أو التركي بل لقتال الجيش السوريّ في مراحل متقدّمة إن حدثت المواجهة، ولا يمكن إغفال حرق محاصيلهم وسرقة النفط والمزروعات الأخرى وبيعها إلى تركيا بأبخس الأثمان.
هذه التطوّرات دفعت العشائر إلى تشكيل مقاومة وقد بدأت تتصيّد عناصر من «قسد» ويتمّ نسبها إلى مجهولين، ثم أعلنوا ذلك في بيان رسميّ لقبيلة العكيدات والبكّارة وطيّ وغيرهم على توحيد الصفّ، الأمر الذي دفع الأميركيّ لطلب الاجتماع بهم والإستماع إلى مطالبهم، فما كان منهم إلا أن أمهلوا قوات التحالف شهر واحد، وأهم مطلب هو انسحاب «قسد» وتحجيمها وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل. ولم يمضِ الكثير على حراك القبائل السورية، حتى استعادت عدّة قرى من سيطرة «قسد» وسيطرت على مواقعها ومقارّها وأسرت عددًا منهم.
من هنا، فإن اجتماع القبائل والعشائر في محافظة حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية، وليس من العاصمة السياسية دمشق، هو رسالة لتركيا ولـ «قسد» معًا، فمن المعروف أن أبناء الأكراد تلقّوا تعليمهم الأكبر في جامعة حلب، واستقرّ عدد كبير منهم فيها، فجاء الملتقى ليؤكّد أن لا مفاوضات ستلغي أمر ضرورة انسحاب القوى الأجنبية من أراضيهم مهما كان الثمن، وأنهم سيقاتلون مع الجيش السوري، وهذا الأمر أصبح يقينًا بعد أن كان أمنية لكثير من السوريين، فعرب الجزيرة السورية هم أبناؤها وإن صمموا على دحر الأجنبي، فهذا يعني أنه سينسحب، ولقد تحملوا سنوات طوال ومدنهم وقراهم وهي الأغنى تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة، لكن اليوم اختلف الوضع وعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء.
يذكر أنّ من ألقى كلمة النخب الوطنيّة السوريّة هو نويران البرازي، وهو كرديّ من عين العرب، وقد حضر هو وأكراد كثر من المثقفين وأبناء عفرين وعين العرب والقامشلي الاجتماع، معلنين ولاءهم للدولة السوريّة، كما كانوا دائمًا وخلال السنوات الماضية أن لا بديل للكرد ولا خلاص لهم سوى بالتمسّك بالدولة السورية. وما جاء في كلمة البرازي كان قاطعًا في أنّ السوريين جميعًا وليس أبناء العشائر العربيّة وحسب منحازون للدولة السوريّة والجيش السوريّ، فقد قال البرازي ما حرفيّته:
«الجيش هو الحكيم الفادي، والبطولة والحكمة هما روح الجيش، ومن يكون عاقلاً صادق النيّة مع شعبه لا بدّ وأن يختارمن يفدي شعبه حفاظًا عليه وعلى استمراره وتحصينه ورخائه، ولهذا لم نختر طريقًا، منذ بداية الحرب العدوانيّة على سورية الغالية، سوى الطريق الداعم للجيش، المؤيّد له، الشادّ على سواعد رجاله الفرسان، لأنّه الضمانة من الفناء والتشتّت والتشرذم والفوضى القاتلة. ولم نختر وصفًا له سوى القول بأنّه جيشنا العظيم، الثقة والأمل والرجاء بسوريا الجديدة وقد اختصر علوم الحياة وفلسفاتها بفدائه وبطولته النادرة وحكمة قيادته الشجاعة وعلى رأسها السيّد الرئيس بشّار الأسد.»
سياسة تعطيش من «نبع السلام»!
دخلت مدينة الحسكة وأريافها يومها العشرين دون مياه، بعد قطع الاحتلال التركي هذا الشريان الحيوي عن نحو مليون مدنيّ في المنطقة، للمرّة 13 منذ احتلاله مدينة رأس العين وأريافها، ضمن عملية (نبع السلام) التي أطلقها في تشرين الاول/اكتوبر 2019.
ويعاني أهلنا في المنطقة، ظروفًا مأساوية في ظلّ عدم وجود أي مصدر مائيّ بديل وارتفاع درجات الحرارة والمخاوف من تفشّي فيروس كورونا، حيث تتزايد الإصابات وفق الإحصاءات الرسمية لوزارة الصحة السورية، وإحصاءات ما يسمّى بـ»الإدارة الذاتية» لميليشيا «قسد»، التي تسيطر على غالبية المحافظة.
وزعمت تركيا أنّها قطعت المياه ردًّا على قطع «الادارة الذاتية» الكهرباء عن رأس العين وتلّ أبيض وأريافهما، وسط مساعٍ روسية لحلّ المشكلة وإعادة المياه إلى المنطقة.
في البداية، نرى أنّ مواجهة تداعيات الاحتلالين، الأميركي والتركي، تتطلّب وعيًا عميقًا وفاعلًا وبعيدًا عن الانفعالات، مثلما تحتاج الى وجود شرط المسؤولية، بوصفه شرط الإرادة والتحمّل، بما يجعل التفاعل بين الوعي والمسؤولية سياقًا حاكمًا لإدارة أزمة تعطيش أهالينا في مدينة الحسكة، وهي أزمة جاءت نتيجة لوجود الاحتلال ولم تأتي من فراغ. أي أنها ازمة تراكمية، مثلما هي الأزمات الأخرى، فحديث الكهرباء والخدمات والصحة في هذه المحافظة هو حديث الملفّات الشائكة بوجود الاحتلالين، وللسيطرة على تداعياتها، لابدّ من ايجاد المعالجات التي من شأنها السيطرة على أسبابها كمرحلة أولى، ومواجهة نتائجها، وذلك لا يتمّ إلا من خلال حلّين جذريين أوّلين ومتكاملين:
الأول، إيجاد حلّ سريع يكشف ابتزاز تركيا غير الإنساني للإسلام المحمدي واستخدامه مطيّة في تنفيذ سياسته في الاحتلال واستخدام أدوات بذلك كتعطيش سكّان مدينة الحسكة وأريافها.
الثاني، تفعيل المقاومة الشعبية بكلّ عناصرها، ضدّ الاحتلالين والمرتزقة المتعاونين معهما، وقد تكون مؤتمرات القبائل والعشائر العربية، التي توّجت باجتماع حلب الاستثنائيّ، مرحلة مهمة وإن جاءت متأخّرة، وكان للبيان الختاميّ لاجتماع حلب الذي ألقي في مؤتمر قبائل حلب ما يشي بالتحضير لتفعيل عناصر المقاومة المسلّحة.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث المتخصص في قضايا المياه توبياس فون لوسو إن «تركيا تستخدم المياه سواء في الفرات، أو محطّات الضخّ السورية التي تسيطر عليها مثل العلوك، كسلاح حرب لتعزيز احتلالها ومرتزقتها في سورية، على حساب المدنيين».
يتابع لوسو أن اختيار فصل الصيف شديد الحرارة لم يأتِ عبثًا، ويقول إن «أنقرة اختارت فصل الصيف شديد الحرارة لتنفيذ مخطّطها، لأنّ الناس في حاجة كبيرة للمياه، وشحّها يضغط عليهم بشكل كبير، ويمثّل ضغطًا أكبر على السلطات الحاكمة»، خصوصًا في ظلّ انتشار وباء كورونا في البلاد.
وفي مواجهةٍ للممارسات التركية «التعطيشية» ومنعها الورشات بكلّ مرّة من الدخول للإصلاح وإعادة تشغيل الآبار، تكون روسيا الطرف الذي يتدخّل حفاظًا على حياة المدنيين وتخفيفًا من معاناتهم، عبر اتفاقات مع تركيا وضمانات تقدّمها لإدخال ورشات الإصلاح من جهة وإعادة تشغيل ضخّ المياه من جهة ثانية، مع تأكيداتها في كلّ مرة على أن استخدام المدنيين وحاجاتهم الأساسية كوسيلة ضغط على الدولة السورية في الحرب الدائرة بالبلاد هو أمر مرفوض ويتعارض معالقوانين الدولية كافّة.
مسؤولية مواجهة جرائم الاحتلالين، وافشالها في تحقيق اهدافها ينبغي أنْ تكون خيارًا وطنيًّا جامعًا، وأن تعمل الحكومة ومؤسّساتها على وضعها في أولوياتها، خصوصًا وقد بدأ الالتفاف الشعبيّ يأخذ مداه ويتوسّع ليشمل كلّ نسيج مجتمعنا في شمال وشمال شرق سورية، لأنّ خطورة بقاء الاحتلالين ومشاريعهما تكمن في اهدافهما البعيدة المدى، وفي تأثيرها في التعايش الاجتماعيّ بين السوريين، فضلاً عن تأثيرها في الواقع السوريّ الاقتصاديّ والسياسيّ والأمنيّ، وأنّ ما تقوم به مؤسّسات الدولة في محافظتي دير الزور والحسكة يتطلّب دعمًا شعبيًّا مواكبًا وزخمًا فاعلا وتعزيزًا واسعًا وساندًا للفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية، لاجتثاث البيئة التي يتحرّك فيها المتعاملون مع الاحتلالين من «قسد» وإرهابيين وكسر هيمنتهم.