لبنان بين السيادة والحياد…
} شوقي عواضة
لم يعد لدى البعض ما يقدّمونه من أوراق اعتماد للأميركيين وللعدو الإسرائيلي سوى محاولاتٍ فاشلة وبائسة للتآمر على لبنان من خلال إضعافه باستهداف مقاومته وسلاحها. فتارة يرفعون شعار الديمقراطية والتغيير وتارة شعار الاستقلال والحرية وغيرها من الشعارات التي لن يكون آخرها شعار تحييد لبنان وإبعاده عن الصراعات والتحالفات. وبالرغم من أنّ لبنان مستهدفٌ منذ نشوء الكيان الصهيوني عام 1948 وحتى اليوم لم ينكفئ ذلك العدو عن استهدافه وعلى مرأى من العالم أجمع.
وقد ثبت بالتجربة التاريخية أنّ لبنان لم ولن يكون حيادياً لأنّ الحيادية تعني أن تكون ضعيفاً وضدّ قضيتك في جوار عدو تاريخي لم يتنازل عن أطماعه في لبنان، والتجارب التاريخية تشهد على ذلك فمنذ انفكاك الدولة العثمانية وما تبعها من معاهدة التقسيم سايكس بيكو عام 1916 وصولاً إلى الاستقلال لم يكن لبنان بمعزل عن المشهد السياسي في العالم ولم يتخذ موقفاً حيادياً تجاه القضايا المصيرية والكبرى بالرغم من اختلاف الرؤية السياسية لرؤساء الجمهورية والحكومات ومجلس النواب عبر حقباتٍ طويلةٍ من الزمن…
على سبيل المثال إبان الاحتلال العثماني لبلاد الشام ومنها لبنان المنقسم بين مؤيدٍ ورافضٍ للاحتلال العثماني وبين مقاومٍ ضدّه ومؤيّدٍ له، وكذلك الأمر في فترة الاحتلال الفرنسي الذي سُمّي (بالانتداب) ومروراً بمأساة الجنوب اللبناني مع العدو الإسرائيلي منذ احتلاله لفلسطين وصولاً إلى اليوم، لم يكن لبنان العربي الهوية والانتماء وفقاً لما جاء في مقدمة الدستور اللبناني، لم يكن محايداً ولا مُحيَّداً بل كان متأثراً بمحيطيه العربي الذي هو جزءٌ لا يتجزأ منه بالرغم من محاولات الكثيرين إلغاء دوره العروبي والإسلامي وطمس هويته تحت عناوينَ براقةٍ ومتعدّدةٍ تحمل في طياتها الكثير من المشاريع التآمرية التي لا تخدم لبنان وشعبه بل تدمّره، والشواهد التاريخية تستدعي أن نذكر البعض بها: ففي العام 1956 توترتِ العلاقات بين الرئيس اللبناني آنذاك كميل شمعون والزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعدما رفض شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية بسبب ولائه المعروف لها مما أدّى إلى نشوء أزمةٍ سياسيةٍ وتوتراتٍ طائفيةٍ، فاستعان شمعون بالقوات الأميركية التي جاءت إلى سواحل بيروت تحت عنوان منع الحرب الأهلية، بينما الواقع كان هو التحاق لبنان برئاسة شمعون بحلف بغداد ضدّ عبد الناصر، موقفٌ لم يكن حيادياً بل يندرج في إطار سياسة الأحلاف الآنية التي لم تغب عن مواقف البعض كما حصل في العام 1976 حين تمّ الطلب رسميا بدخول الجيش السوري لوقف الحرب الأهلية في لبنان.
وفي هذا الإطار عمدت بعض القوى السياسية الى محاولة تكريس سياسة الاستعانة بالغرب فكان دخول قوات المارينز والمظليين الفرنسيين وغيرها من القوات الأجنبية تحت عنوان القوات المتعدّدة الجنسيات لحماية لبنان عام 1982 بينما كان الهدف من ذلك إضعاف لبنان وتقديمه لقمةً سائغةً في فم العدو الاسرائيلي. وعلى هذا النهج أكمل بشير الجميّل الذي انتخب رئيساً على فوهات دبابات العدو الاسرائيلي التي اجتاحت لبنان وصولاً للعاصمة بيروت وعلى أنقاض منازلها التي قصفت وعلى جثامين الشهداء وأشلاء شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، لكن المقاوم حبيب الشرتوني ما لبث أن نفذ فيه حكم الإعدام، ليتولى بعده شقيقه أمين الجميّل رئاسة الجمهورية اللبنانية ويتحف اللبنانيين باتفاقية الذلّ والعار في 17 أيار من عام 1983، اتفاقية أسقطها شرفاء الأمة وفي طليعتهم النائبان زاهر الخطيب ونجاح واكيم…
تلك العيّنة من مواقف لبنان الحيادي تطرح الكثير من الأسئلة حول تبنّي سياسة الحياد، أول تلك الأسئلة هل كان السيد المسيح حيادياً أمام قضايا المقهورين والمظلومين؟ أم أنه كان رائد الدفاع عن المقهورين والمظلومين وأمضى حياته في نصرتهم من أجل تحقيق العدالة التي حملها رسالة وقاتل من أجلها؟ أما من يتبنّون مشروع الحياد فقد ظهر جلياً في زيارتهم للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والمحتلّ لكنيسة المهد وبيت لحم تلك الزيارة التي تكللت بلقاء جالية عملاء (إسرائيل) وليس المبعدين في حين استُبعد مسيحيو سورية وكنائسها لا سيما في يبرود ومعلولا الذبيحة من أية زيارة، كما استُبعدت قضية فلسطين وشعبها من قاموس الحياد لأنّ سياسة الحياد اقتضت ذلك فلسطين الشامخة بمطرانها المقاوم المرحوم هيلاريون كبوجي العابق بعشق المقاومة والمنحاد إليها ضدّ المحتلّ الغاصب والمعتدي الظالم من فلسطين إلى اليمن. فلسطين بقدسها وأجراس كنائسها التي تعانق آذان الأقصى من أجل شفاء مطرانها الأبي عطا الله حنا الذي لم يسلم من محاولة القتل مسموماً على أيدي الصهاينة ولم يتراجع عن حياده للقدس وفلسطين ولبنان القوي بجيشه وشعبه ومقاومته وليس بحياده، لبنان الذي سُيجت حدوده بدماء الشهداء وتضحياتهم التي حرّرت الأرض ودحرتِ الاحتلال الذي استمرّ لعقود، أما القرارات الدولية والأمم المتحدة التي تدّعي الحياد فلم تحرّر أرضاً ولم تحرّر أسيراً ولم تعد جثامين الشهداء ولم تحمِ لبنان من السيارات المفخخة ولم تصدّ هجمات داعش والإرهابيين ولم تحمِ مسجداً ولا كنيسة، وأية حيادية تلك التي تتبنّى مطالب الإدارة الأميركية والعدو الصهيوني الذي يطالب بتسليم سلاح المقاومة والبحث عن مخازنها! فإذا كان لا بدّ من حيادية لنا فلن يكون حيادنا إلا للبنان القوي بمقاومته التي حمت وأنجزت انتصاراتٍ ولسلاحها الذي لن يسلم إلا للإمام المهدي والسيد المسيح وخلفهم جيش من المقاومين على أرض فلسطين والسلام…
*كاتب وإعلامي