الكورة والشهادة المتجدّدة
} سايد النكت
ليست المرّة الأولى التي تقدّم الكورة بدماء أبنائها الأبرار فدية للبنان الموحّد وسداً لدرء مشاريع الفتنة بين ابنائه، بل أوصدت منافذ رياح الفتن مراراً وتكراراً، وقدّمت لأجل ذلك المئات من أبنائها البررة، فكانت في كل مسار نموها وحضورها منذ أن شيّد لبنان الطوائفي انموذجاً للبنان الآتي الجديد الواحد الموحد، ليس لأنها قطعة منفردة في الجغرافيا عن باقي المحيط أو لأنها مساحة من الزيتون المسالم، بل لأن النهضة القومية الاجتماعية نمت في نفوس أبنائها وشعّت فضائلها، لا سيما تلك التي تذيب «المعدن» المستعصي في النفوس الطائفية ليتألق إنسانها إنساناً جديداً منفتحاً نازعاً عنه كل الحلل الطائفية والعشائرية والإقطاعية.. ليبهى بحلّة الانسان الجديد المتوّج بدرّة العلم والثقافة والوعي والبطولة لتبدو الكورة مجسّماً آخر غير المألوف من المجسمات القائمة.
في الجغرافيا السكانية، تشبك الكورة بأذرعها مناطق آهلة بمنتج طائفي متنوّع احتضنت تنوّعه بين زارعيها فعاش بغمرها بسلام وتنشّق في حضنها نسائم الاستقرار وذاق بنعيمها نعم الأمان، فلم تطله طوال سنين الإلغاء والتطهير الطائفي والمذهبي الذي شهده ويشهده لبنان، ولا أي مشهد من مشاهد ذاك الرعب المخيف، ليس لأنها محصّنة بأسوار عاتية من الباطون المسلح والحديد المقوّى، بل لأنها محصنة بحصن من جبلة النهضة القومية المنيعة.
التحدّي الذي تمثّله الكورة، كما كل منطقة يكون فيها القوميون الاجتماعيون، انها خارجة عن حظائر الطائفيين ومقتطعات الإقطاعيين، لذلك قاتلنا وبشراسة في الكورة وطرابلس والمتن والجبل وبيروت والبقاع وفي كل ربوع الوطن لنحول دون تشييد كانتوناتهم، وحرصاً على مجاري الدورة الحياتية الاجتماعية والاقتصادية لمجموع الشعب ولعدم تقطيع أواصره.
قاتلنا لأننا نرفض بنية مجسّمات النظام الطائفي، ولكي نحقق للأجيال الجديدة الخارجة عن نطاق الثقافة البائدة مستقبلاً واعداً، يُقام ويُشاد بالنظام والحياة الجديدين وبدكّ الأساسات الهشّة وبناء مجتمع وإنسان جديدين.
قدمنا في الشام روعة الحضور الشعبي للأمة الناهضة كما كنّا في فلسطين عزاً وهدًى.. وفي عمان وما بين الرافدين نتوق لسبك الأمة.
إن مشهديّة جريمة كفتون التي وصلت الى رتبة مجزرة هي حلبة جديدة من حلبات الفتن المقنعة التي أرادها الظلاميّون فانقلبت عليهم بفعل تصدّي القوميين الأبطال الثلاثة، الشهداء الأبرار، فادي وعلاء وجورج، بصدورهم العارمة الممتلئة شهامة وإباء وأطلقوا دمهم على رصاصاتهم فانتصر فيها أبناء سعاده، وبالدم القاني وبعقيدة النهضة، على مدبّري الفتنة التي كانت ستطيح بلبنان واللبنانيين.
إن وعي القوميين الاجتماعيين وما تحلّوا به من مناقب الانضباط حوّلوا الحدث من الواقع المألوف في الساحة اللبنانية الى عرس قيامة لبنان الجديد وما تميّز به ذوو الشهداء لا سيما والد الشهيد علاء القدوة الذي أعطى درساً مميزاً بكيفية أن نصنع من آلامنا اعتزازاً ومن جراحاتنا بلسماً لتضميد جراح الوطن والأمة، بات الثقافة الجديدة التي يجب أن ينتهجها الجيل الجديد لبناء العقلية الأخلاقية الجديدة.
إنه ومع متابعة التحقيق لكشف كل الملابسات والاقتصاص المميت من الفاعلين نقول: إن القوميين الاجتماعيين اليوم قد قدّموا وبدماء شهدائهم الأبرار، درساً جديداً في مناقب الانتماء والتضحية والإباء، على الأجيال الناهضة تلقف عبرته ومن سعاده تلقف دروسه بأنه وبالإخاء القومي وحده يحيا لبنان وبالطائفية يفنى ويهلك، وبالدماء التي تجري في عروق الأجيال هي ليست ملكاً لخصوصيتهم ومآربهم يتصرفون بها كما يشاؤون ولا لحساب المتزعّمين ولتزعّمهم وتكدُّس أموالهم وتعاظم تسلطهم ولا لرجال الدين ولدعواتهم الإلغائية والتحريضية ولا للإقطاعيين وإقطاعاتهم المذلّة الناهبة لملكية الشعب، بل للأمة ووحدتها وللوطن وسيادته متى طُلبت منهما وليس من أحد سواهما، وجدت وترخص مهما كانت باهظة وهي كذلك.
بذلك تحيا أجيالنا ببلد محصن زاهر وتزهر دماء أبنائنا منارات بقاء وحصن وجود.