ثقافة وفنون

بيروتُ والمثقفين…!

 

} زياد كاج*

ربما تكون بيروت من أكثر المدن التي أدمنها المثقفون فسال حبرُ أفكارِهم على مقاعد مقاهيها ودارت نقاشات «ذات لونٍ وطابع متميّز». كُتبتْ فيها القصائد ولُحّنت لها الأغاني منذ زمن الشاعر البيروتيّ عمر الزعني وصولاً الى الشحرورة صباح التي غنّت فرح واحتفال المدينة (ألو بيروت وغيرها…)، ثم فيروز التي قدّست جروحَها ومآسيها (من قلبي سلام لبيروت) فأبكت الملايين معها وأدخلت بيروت في قلوبهم، وماجدة الرومي التي مجّدتها في رائعة الشاعر نزار قباني «يا بيروت».

ألم يقل فيها الزعني: «بيروت زهرة في غير أوانها». وهي عبارة ومضيّة رؤيوية لا تزال تصلح لهذا اليوم!

كشبه جزيرة على المتوسط تدعمها سلسلتا جبال خلفها العمق العربي عبر البوابة الدمشقية، تلعب بيروت دور الجسر التجاري والثقافي والفكري بين شرق دافئ قلق ومتقلّب وغرب حاسم جاسم ثابت «جليدّي التفكير»، فتتولد في أحضانها أفكار وتيارات تبدأ عاصفة للتحوّل مع الزمن الى رياح وسطية.

ثورة بكوفية أتتها مدمّاة حلت فيها وغادرت بعد سنوات لترتدي البذلة الرسميّة، مدّ ناصري اجتاحها في أواخر الستينيات ليتحول الى تمثال في عين المريسة، ثم كان دور «جمهورية الكوروسان وشانزيليزيه».. فانفرطت الجمهورية ولم يبق من الشوارع الا الأسماء.

بقيت بيروت تلك المدينة الرماديّة، العصية على التعريف، ذلك المختبرالوعاء، الأحجية والمقاومة لكل انتماء، لكل فكر ولون واحد. تفضل الفساتين المتعددة الألوان كغجريّة يصعب ترويضها. قلة من أهلها وساكنيها القدماء يدركون أن كل المشاهد عابرة. شيء من «اللافعل»، من «اللاموقف» يسكنهم.

مدينة التناقضات المحبّبة والمتمرّدة التي تصحو على صوت فيروز مع رشفات القهوة، وتتمايل نهاراً على الألحان الشرقيّة والموسيقى الغربيّة، وتسهر ليلاً على آهات أم كلثوم وموسيقى الهارد روك. يُقال إن ناسها يمتلكون «حاسة سمع أو أذن ثالثة» يندر وجودها لدى شعوب المنطقة. إنها جينة الإقامة وتقلبات الدهور وليست جينة الوراثة.

مدينة الجوامع والكنائس، بيروت الجامعة الأميركية واليسوعية والعربية واللبنانية، بيروت مدارس كل الطوائف والملل والمدارس العلمانية؛ بيروت مدينة المشافي والشوارع صديقة المقاهي؛ تزين شاطئها صخرتا الروشة. لها مع العدد 2 قصة طويلة قديمة: الشرق والغرب. لطالما كان أمامها خياران، حيرتان، هديّتانمشرق شمس ومغربها.

تبقى بيروت قبلة وحبيبة المثقفين وأهل النخب من أبناء البلد والعالم العربي خاصة. سألني مؤخراً أحد الأصدقاء: ماذا أعطت المدينة هؤلاء وماذا أخذت منهم إيجاباً وسلباً؟

محلياً، كانت بيروت ولا تزال المكان الذي لا بد قصده لاكتشاف المدينة والعالم وللوقوف تحت الأضواء وفكفكة أسرار الوعي» من على منارة عالية مشرفة على المحيط». شرفة على العالم العربي والعالم الأوسع، كانت بالنسبة للمثقفين اللبنانيين، خاصة الوافدين من الأرياف، «هايد بارك» للحوار واكتشاف الآخر والذات. فهي كمدينة «كوزموبوليتانية» تضمّ دور نشر كثيرة وأحياء ثقافية ووسائل إعلامية متعددة التوجّهات ومقارّ جمعيات وجمهوراً واسعاً عريضاً متعدداً، منحت المثقف القادم من الريف (خاصة من الجنوب بسبب الاحتلال الإسرائيلي) حيزاً رحباً من الحرية والمناخ الديمقراطي بعيداً عن تقاليد القرى. واحة ثقافية مفتوحة لكل قادم جديد. من دون التقليل من قيمة الريف اللبناني الذي كان ولا يزال منبع غدران الإبداع اللبناني الذي كان لا بد أن يصب في بيروت.

الأمثلة كثيرة: تجربة الفيلسوف علي حرب الذي درّس مادة الفلسفة في ثانوية رمل الظريف (ثانوية الرئيس رينيه معوض)، الشاعر طلال حيدر، الشاعر شوقي أبي شقرا، الشاعر بول شاوول وعلاقته الحميمية والشاعرية مع مقاهي شارع الحمراء، الشاعر زاهي وهبي الذي بقي وأبدع في «خليك بالبيت» لسنوات طويلة وهو ابن الجنوب ومقاوم يساريّ سابق، الشاعر يحيى جابر، الروائي رشيد الضعيف، الرسام جميل ملاعب، والرسام حسن جوني، الممثل القدير رفيق علي أحمد، الشاعر جوزيف حرب، الشاعر حسن عبد الله والشاعر إسماعيل فقيه والروائية علويّة صبح والروائي جبور الدويهيواللائحة تطول ولا تنتهي.

فتحت بيروت لهؤلاء آفاقاً جديدة رحبة وواسعة، من دون التقليل من البيئة الأولى التي حضنتهم وزرعت فيهم بذورة الإبداع. «اسوارة العروس مشغولة من ذهب، وإنت مشغول من قلوب يا تراب الجنوب» هي من أجمل الجمل الشعرية التي كتبها الشاعر الجنوبيّ جوزف حرب. والذي انخرط باكراً في العراك الثقافي في المدينة. الرسّام العالمي رفيق شرف احتضنته بيروت ومنحته الكثير. هرب من ورشة أبيه للحدادة في بعلبك لأنه طلب منه أن يدخل سلك الدرك. عرف الفقر في النبعة، لكنه وصل الى كلية الفنون الجميلة وبعد عودته من إسبانيا، أصاب شهرة عالمية وصار من عشاق مقاهي شارع الحمراء. الرسامان حسن جوني وجميل ملاعب، رغم تألّقهما في بيروت، لم ينسيا جذورهما وأجواء الضيعة في لوحاتهما.

منحت بيروت أيضاً المثقفين العرب الحضن الدافئ والمكان الآمن للتعبير عن قضايا أمّتهم هرباً من احتلال او عتمة سجن تحت الأرض. حنظلة ولد في بيروت بريشة رسام الكاريكاتور ناجي العلي خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. الشاعر نزار قباني كتب أجمل قصيدة عن زوجته بلقيس التي قضت في انفجار السفارة العراقية. الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش كتب «بيروت خيمتنا…. بيروت نجمتنا». حفظ هذا الشاعر الفلسطيني حباً عظيماً للمدينة لدرجة أنه عاد بعد سنوات من منفاه الثاني ليعتذر شعراً من بيروته في المدينة الرياضيّة. ولا أنسى تجارب محمد الماغوط وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري ومحمود شريح وغيرهم. في جوّ بيروت الديمقراطيّ والحر والفوضويّ كتب هؤلاء وأبدعوا.

ليس في البال من سلبيّة ما مارستها بيروت تجاه المثقفين. وإن وُجِدت فهي كغيمة صيف. ليس من السهل اتهام المدن، فكيف يكون الأمر مع مدينة مثل بيروت مثقلة بالجراح وتحمل على وجهها الجميل كل ندوب الحروب والصراعات. «بيروت لا تُرمى بوردة»، يقول صديقي الناقد والناشر سليمان بختي. هي مدينة ساحرة تشبه بجمالها امرأة أربعينيّة ذكيّة يخافها الرجال ويرغبون بها. غشّاشة تخترع لك الأحلام التي تبدو قريبة التحقيق. سحر ما يمّتصك في بيروت. فتكاد تشعر أنها كلها لكوليست لك في الوقت نفسه. صاحبة غواية، تغريك ولا تعرف سرّها ولا تفكّ حروفها إلا إذا عشت معها طويلاً. اكتسبت مهنة التجارة من قديم الزمان فحوّلت كل شيء الى خدمات: تجارية، سياحية، سياسية، صحافية.. وبكل أسف.. ثقافية أيضاً. مرحلة ما بعد الحرب أوجدت في بيروت طبقة من المثقفين يقدّمون الخدمات لكل مشروع جديد يُطرح في السوق. هؤلاء هم مثقفو الصالونات والمناخ العام و»الناس عايزة كده». أبواق ثقافية متعددة المستويات. إنها لعنة السياسة التي «ليس لها رب» كما يقول الناس عندنا. كل له سعرُهُ وحسب قيمة السلعة. مؤسف أن أسمع عن مثقف وشاعر كبير كان يقبض سعر الحلقة مسبقاً في برنامجه من بعض الضيوف الباحثين عن الشهرة بأيّ ثمن.

كبّرت بيروت الهوة الواسعة بين المثقفالمحلي خاصةوالعامة. رغم أن الأمر ظاهرة عالمية، وأن المثقفين يشبهون الجزر المعزولة. لكن هذه الهوة تبدو فاضحة عميقة جداً بين جيل الشباب اليوم وكبار المثقفين!

ففي أجواء التسييس الحادّ لوضع البلد وحالة المثقفإما معنا أم ضدنالا يحقّ لأحد أن يتعجب ويسأل كيف تمكنت الأحزاب الدينية من استقطاب الشباب اللبناني وتحويلهم حالات مذهبيّة معزولة؟ في حين يجلس المثقفون في مقاهي الحمرا وغيرها يتبادلون النكت الإباحيّة ويتناقشون في جنس الملائكة!!!

يبقى أن بيروت ليست مسؤولة عن حالة «التحزب والتقوقع الثقافي»، بل هي الأحوال التي سادت وتسود البلد عامة. فتحوّل عدد من المثقفين الى مجرد «مرآة» للحالات السياسية والطائفية هو أمر طارئ ودخيل على بيروت ومصيره الزوال بعد تنفيس حالة التطرف والتشدد والتقوقع المذهبي التي تحمل في طياتها بذور عفنها وموتها.

كان الشاعر المهجريّ المبدع بديع سعادة على حق حين باع كتابه الشعري الأول بنفسه «ليس للمساء أخوة» على رصيف شارع الحمراء سنة 1973.

*روائي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى