فساد «الديمقراطية التوافقية»…
سايد النكت
في كتابه «أنماط الديمقراطية» تحدث أرند ليبهارت عن «الديمقراطية التوافقية» كإطار يمكن اعتماده في إدارة المجتمعات المنقسمة على نفسها والمتنوعة على المستوى الإثني أو الديني أو الطائفي أو الثقافي لتثبيت نوع من الاستقرار الداخلي. وهذا النمط في الإدارة المسمّى «ديمقراطية توافقية» لا يكتنف الديمقراطية بمضامينه ولا أيّ مظهر من مظاهرها بحيث أنّ الديمقراطية تعبير عن إرادة الشعب الحر في بناء دولة المواطنة، بينما التوافقية تتمّ بين متزعّمي مجموعات منقسمة الانتماء والهوية وتبغي تحقيق مصالح جماعاتها أو المتزعّمين أنفسهم دون مصحلة الشعب العامة، لقد اعتمد لبنان منذ ما سمّي ميثاق 1943 الطائفي، «التوافقية» في إدارة الحكم وما زال قائماً عليها حتى اليوم.
بعد اتفاق الطائف، والذي وضع حداً للنزاعات والحروب الأهلية، شهد لبنان استقراراً داخلياً على مدى خمسة عشر عاماً، وخلال هذه السنوات انصبّت الجهود على إعادة بناء الدولة بكلّ مؤسساتها وإنهاء كلّ أشكال الانقسام، وبالتوازي كانت عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني التي بدأت في العام 1982، تتصاعد وتحقق الغاية منها وقد أنجزت التحرير في العام 2000.
والسؤال، هل أنّ «الديمقراطية التوافقية» هي التي حققت الاستقرار الداخلي، أم أنّ عوامل أخرى أدّت إلى هذا الاستقرار؟
بالتأكيد لم يكن للديمقراطية التوافقية شأن في إعادة بناء الدولة وتوحيد مؤسساتها وإفشال مشروع التقسيم، ولم يكن لها شأن في قرار مقاومة الاحتلال، ففي الأولى كانت سورية صاحبة الدور المحوري والأساس، لإيقاف الحرب الأهلية وعودة الاستقرار الداخلي والشروع في بناء الدولة الموحدة وفي الثانية كانت قوى المقاومة، وبدعم من سورية، هي صاحبة القرار، لإنجاز التحرير، ما يعني أنّ الاستقرار الداخلي في لبنان قام على ركيزتين أساسيتين، ركيزة بناء الدولة، وركيزة المقاومة لتحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني.
أما «الديمقراطية التوافقية» فاقتصرت ممارستها على المحاصصة الطائفية والمذهبية، وعلى انتهاك حقوق المواطنة التي تقوم على قاعدة المساواة، لمصلحة حقوق الطوائف وتحويل المواطنين من رعايا دولة إلى رعايا طوائف ومذاهب، ما شكل ضرراً بالغاً بمشروع الدولة.
الغاية مما سبق، هي الإشارة إلى فساد ما يسمّى الديمقراطية التوافقية، الموروثة من ميثاق 1943 الطائفي، والتي وفرت بيئة سهّلت للقوى الخارجية عملية الانقضاض على مشروع الدولة في لبنان وإعادة إحياء مشاريع التقسيم والفدرلة، ربطاً بمقتضيات صفقة القرن لتصفية المسألة الفلسطينية.
وعليه، فإنّ طريق الإنقاذ للبنان هو الدولة المدنية، لأنها وحدها تنتزع صواعق التفجير والتصدعات الداخلية بحيث يتساوى المواطنون جميعهم أمام القانون، وبهوية موحدة لا قطعاناً في حظائر طائفية ومذهبية تستدعي كلّ أشكال التدخلات الخارجية.
الدولة المدنية هي التي وضع أنطون سعاده نظامها السياسي والاجتماعي وقاد ثورة قومية حقيقية في سبيل قيامها، وبرنامج ثورة تموز لا يزال إلى الآن خشبة خلاص للبنان، لأنه يقوم على المبادئ الإصلاحية التي وضعها سعاده لحزبه، وتقضي بفصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في الشؤون السياسية والقضاء القوميين وإلغاء الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.
النظام الطائفي في لبنان الذي قام على ميثاق طائفي وبدعم استعماري، لم يكن وحيداً عندما أجهض الثورة القومية الإصلاحية لبناء لبنان الجديد، واغتال أنطون سعاده. بل كان هذا النظام الطائفي أداة نفذت قراراً دولياً صهيونياً باغتيال سعاده، بهدف القضاء على المشروع الذي أطلقه سعاده إنقاذاً للأمة من الويل، وإنقاذاً للبنان من علله وموروثاته التي تؤدّي به الى المهالك.