الطبقة السياسية بين خيارين: الاستسلام أو التمرّد وكلاهما مرّ
} علي بدر الدين
ليس وارداً في قاموس الطبقة السياسية الحاكمة أن تستسلم بسهولة لأيّ متغيّر أو طارئ أو ضغط من أيّ نوع، وأن تقدّم أوراق اعتمادها ورصيدها السياسي والسلطوي والمالي الذي راكمته على مدى أكثر من أربعة عقود من الحروب والصراعات المفتعلة حتى اتفاق الطائف. انّ مكونات هذه الطبقة أو من ينوب عنها، «منهم من قضى ومنهم من ينتظر»، تحوّلت من أمراء الحرب إلى أمراء «السلم» وتسلمت السلطة بموجب هذا الاتفاق الذي نجح إلى حدّ ما وفي مرحلة معينة، بوقف قرقعة السلاح واستعاض عنها بفتح أبواب جهنم الفساد والمحاصصة والنهب والقوة والنفوذ ووضع اليد والسيطرة على مقدرات الدولة ومؤسساتها وإداراتها ومصالحها، والشعب اللبناني يعاني منذ أن تولّت هذه الطبقة إدارة شؤون البلاد والعباد ما لم يعانِه شعب آخر على وجه الكرة الأرضية، حيث تراكمت الديون، وانهار الاقتصاد، وأفلست مالية الدولة، وعمّت البطالة وتفشى الفساد، وتسيّد الجاهل، المرتهن والتابع وأقصيَ الكفوء، ولم يعد الرجل المناسب في المكان المناسب، وانتعش الفقر والجوع، وانعدمت المحاسبة، وبات الفاجر يأكل مال التاجر وهذا يأكل لقمة الشعب ويصادر حقه بتواطؤ وتغطية من الحاكم والمتحكم بالشعب والمؤسسات، والسطو على أموال المودعين في المصارف من دون خجل أو وجل، حيث بكلّ وقاحة اعترف ثلاثي المصرف المركزي وقطاع المصارف والسلطة بمصادرة أموال المودعين لدعم خزينة الدولة التي سرقوها وهرّبوا أموالها وأموال المودعين الى حساباتهم في المصارف الخارجية.
هذا التغوّل السلطوي والمالي للطبقة السياسية، وامتلاكها للقوة والنفوذ والقرار والسطوة وغيرها الكثير من الامتيازات والمكتسبات، جعلت منها رقماً صعباً جداً وعصياً على أية محاولة إقصاء أو تغيير، مهما حدث محلياً وخارجياً، لم يقدر أحد على انتزاع كرسي السلطة من تحتها، أو إسقاطها، أو حتى زعزعة ثقة بعض الشعب بها، لأنها خدّرته ودجّنته وغذته بالعنصرية والطائفية والمذهبية وبكرتونة ووظيفة وطريق وحماية ولو كان فاسداً أو سارقاً، وحتى إذا كان قاتلاً. وقد نجحت هذه الطبقة بتطويعه وتحييده من طريقها وتحويل البيئات الحاضنة لها الى دمى تحركها عن بعد بأصابع الوكلاء والأزلام، بعد أن أرضعتهم حليب التبعية والارتهان والتصفيق والدعاء لأولياء النعمة الذين يقبضون على السلطة والمال والقرار. وأنّ الوطن والدولة والحكومات والمؤسسات كلها مجنّدة لخدمتها، وليست هي التي يجب أن تكون في خدمة الوطن والمواطن.
يبدو أنّ انبهار الطبقة السياسية بما بلغته من مواقع سلطوية ودكتاتورية وثراء، لم تراودها فكرة أنّ هناك مجتمعاً دولياً يراقب وقد يتحرك باحثاً عن دوره ومصالحه، في الزمان والمكان المناسبين، لأنها غارقة في نشوتها ومكانتها الرفيعة والمالية وثرواتها المتراكمة الموزعة على بعض مصارف الداخل والخارج، ومنشغلة في إحصاء عقاراتها وسنداتها الخضراء في البر والبحر. وقد تكون اشترت أو صادرت كوكباً أو نجمة أو مساحة على أرض القمر، وكله وارد ويصدّق عنها. ولم تدرك أنّ حساب بيدرها قد لا يطابق حساب حقلها، وأنّ حالة النشوة والاسترخاء والاطمئنان إلى وضعها السياسي وتبعاته، قد تتحوّل، إلى قلق وارتباك وحسابات لم تكن في صلب اهتمامها وتوقعاتها. وقد استشعرت عن بعد ثم عن قرب، أنّ وقت المساءلة والمحاسبة السياسية الدولية عموماً والفرنسية خصوصاً، اقترب، والضرب هذه المرة سيكون تحت الحزام، وقد آن الأوان لمحاولات خارجية بعد أن عجزت محاولات شعبية داخلية عن ردع الطبقة السياسية الحاكمة عن مواصلتها لنهج إسقاط البلد وإفقار شعبه وتجويعه، وإضعاف الدولة ومؤسساتها وتراكم ديونها، إلى آخر معزوفة الانهيار الشامل، فضلاً عن اعتماد سياسة الإهمال واللامبالاة والحرمان المزمنة والفساد والتحاصص، التي أدّت إلى الانفجار الزلزال في مرفأ بيروت وما خلفه من ضحايا وجرحى ومعوقين ودمار.
هذا الحدث الدموي التدميري الهائل والكارثي هزّ المشاعر، وحرك العالم الذي أبدى التعاطف مع اللبنانيين المتروكين لقدرهم ولطبقة سياسية لا همّ لديها سوى مصالحها والبقاء في السلطة وتراكم الثروات، وبعدها «لا ينبت حشيش، ولا أحد يعيش».
هذا الانفجار حفز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لزيارة لبنان مرتين وكان لهما تأثيرهما في قلب المعادلة وتغيير قواعد اللعبة والحكم، أقله لتاريخه في الشكل، لأنّ المفعول العملي لقياس مدى التأثير والتغيير مرهون بالوقت، والفرصة المتاحة أمام السلطة السياسية، لتأليف حكومة «المهمة» بالسرعة التي حصلت فيها عملية التكليف، وحدّدت بأسبوعين، ثم المباشرة باتخاذ قرارات إصلاحية باتت معروفة وتنفيذها في مدة أقصاها أربعة أسابيع.
وقد حصل ماكرون على تعهّد بالتزام المهل والتنفيذ من القوى السياسية التي التقاها في قصر الصنوبر ومن المسؤولين في السلطة. وفي المعلومات أنّ الرئيس الفرنسي، كما باقي المسؤولين الدوليين وقسم كبير من اللبنانيين ممّن لا يثقون بالطبقة السياسية، ولا يعوّلون على التزاماتها، ولضمان التنفيذ، كلف مسؤولين فرنسيين للمراقبة والمتابعة والإبلاغ عن سير العمل والنتائج أولاً بأول.
وقد برزت في الاستشارات النيابية غير الملزمة مؤشرات تسهيل عملية التأليف، عبّرت عنها الكتل النيابية التي نأت بنفسها عن كلّ ما يعرقل التأليف إلى حدّ أنها لن تشارك في الحكومة إذا كانت سبباً للعرقلة وتأخير التشكيل. وقد طغت الرومانسية غير المعهودة على التصريحات، من دون رفع الصوت والصراخ والتحدي، وكأننا أمام ملائكة هبطت من السماء. و»سبحان مغيير الأحوال من حال إلى حال».
ويبدو أنّ تأثير إجتماع قصر الصنوبر لا يزال سارياً، مع بعض الاستثناءات حول توزيع الحقائب، الذي سيكون حقل تجارب مصطنع يتخلله شدّ حبال بين القوى السياسية التي تتسلح بالأحجام والنفوذ لإبقاء القديم على قدمه، لا سيما ما يتعلق بما يسمّى بدعة الحقائب السيادية، في حين أنّ الدعوة إلى المداورة في هذه الحقائب لا تعدو كونها مجرد مناورة، لا أكثر ولا أقلّ لأنها ستشمل الحقائب السيادية دون غيرها. وهي بطبيعة الحال لن تأخذ طريقها إلى التنفيذ، وطرحت بهذا الشكل أساسا حتى لا تطبق.
لتاريخه، لم يظهر أو لم يحن بعد وقت معرفة خيط الحكومة الأبيض من الأسود لأنّ المطلوب إمساكه كخطوة أولى، والتعاطي بجدية ومسؤولية وحزم من الرئيس المكلف والسلطة والذين تعهّدوا الإسراع بالتشكيل أمام ماكرون.
هذا لا يعني أنّ القوى السياسية المعنية بالتشكيل ستخرج ببساطة من شيطنتها وتمرّدها والمطالبة بحصتها بكلّ وسيلة ممكنة حتى لو طارت الحكومة أو تأخر تشكيلها أشهراً، وهذا ما اعتاد عليه الشعب اللبناني من هذه الطبقة ناكثة الوعود، التي لا تعرف سوى مصلحتها مهما كانت العواقب والتداعيات.
ولكن هل تشكيل الحكومة، من دون عراقيل ورفع السقوف مختلف هذه المرة وله ما يبرّره ويفرضه، ويساعد على ولادتها بسلاسة، مع بعض العنتريات الجوفاء لزوم ما لا يلزم ولحفظ ماء الوجه أمام اللبنانيين وخاصة البيئات الحاضنة لها التي تؤلّهها ولا ترغب في أن تظهر أمامها مكسورة وعاجزة؟
رغم الوعود والضغوط الفرنسية التي تعتمد على ما يبدو سياسة العصا والجزرة، وخط بياني تصاعدي يبدأ بالتهديد بكشف مستور الطبقة السياسية المالي وحجم الثروات المكدّسة في المصارف الخارجية، وثم إلى أمور فضائحية مزمنة ومتراكمة قد تكون كافية لهدم كلّ ما بنته منذ انخراطها في الحرب الأهلية سنة ١٩٧٥ وملحقاتها لغاية اليوم.
قد يكون ذلك مجرد تهويل على الطبقة السياسية، ولكنه سيكون فاعلاً ومنتجاً خاصة أنّ هذه الطبقة تعرف ارتكاباتها وسجلها الأسود، ولا تريد الوصول إلى حافة الهاوية أو إلى مرحلة إسقاط كلّ أوراقها بما فيها ورقة التوت.
من غير المتوقع رغم كلّ ما يحصل أن تشكل الحكومة بالمهلة الزمنية المحدّدة لها، لأنّ شدّ الحبال وعضّ الأصابع، والتمسك بمجد بدأ بالأفول بعد عز وسطوة وهيبة تميّزت بها الطبقة السياسية منذ ما يقارب ٣٠ سنة، لا يمكن أن تقبل الخسارة بالضربة القاضية، ومن الجولة الأولى. وهي لا تزال تراهن على متغيّر ما أو على الوقت، أو على حصول تطورات مفاجئة في لبنان والمنطقة والعالم، حيث الجميع يقبعون على فوهة بركان يغلي وقد ينفجر بأية لحظة، ويسحب بساط فرنسا وغيرها من لبنان ويطيح بكلّ العهود والوعود، ويطيل بعمر الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان المتحكمة بشعبه.
على أمل الا يحصل مثل هذا السيناريو المشؤوم، ويشهد اللبنانيون التغيير الموعود وتتشكل حكومة ما بعد زيارتي ماكرون، مهما كان اسمها، حكومة المهمة أو الإنقاذية او المستقلة أو المطعّمة بسياسيين او من المتخصصين. المهمّ أن تشكل وتنفذ وتصلح ما أفسدته الطبقة السياسية، لأنها الفرصة الأخيرة التي لا يمكن تكرارها…