الفلسفة المدرحيّة.. فلسفة أصيلة تقدّم الترياق لخلاص الأمة والعالم (1/3)
أنطون سعاده دعا شعراء سورية وأدباءها للاطلاع على كنوز التراث السوريّ الروحيّة لتوليد ادب جديد
} د. ادمون ملحم
المدرحيّة هي فلسفة اجتماعية جديدة تتناول الإنسان، بحقيقته الاجتماعية، والقيم الإنسانية وقضايا الوجود الإنساني وتطوره. وتنبثق عن هذه الفلسفة الشاملة «نظرات جديدة في الاجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها»(١)، ويعتبرها سعاده «فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ»(2) و«نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن» تُشَكِّلُ فتحاً فلسفياً جديداً «ومركز انطلاق نحو سموٍّ إنساني جديد».(3) وفي تعريفه لهذه الفلسفة، يقول سعاده، هي «فلسفةُ التفاعلِ الموحَّدِ الجامعِ لقوى الإنسانيةِ»(4) القائلةِ بتفاعل العوامل المادية – الروحية في كلِّ معركةٍ إنسانيةٍ غايتُها سد الحاجات الحيوية والمطالب المادية والنفسية والارتقاء بالحياةِ وتجويدُهَا.
وهذه الفلسفة الاجتماعية الكاملة والموجودة «في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه، في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته»(5)، ترى وجود الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى، حقيقة المجتمع الذي هو الوجود الحقيقي والضروري لبقاء الإنسان والتحقيق الأمثل للذات الإنسانية، لا من زاوية الفرد كما رآه السفسطائيّون، بأسلوبهم المتهوّر، الذين جعلوا الفرد حكماً و»مقياساً لكل الأشياء» أي ان «كل فرد هو لنفسه مقياس الحقيقة شعوراً ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق.»(6) وهذا الأسلوب نتيجته الوحيدة: الفوضى في المجتمع. والمدرحيّة لا ترى وجود الإنسان من زاوية فلسفة الشخصانية أي فلسفة الشخصية الفردية الأنانية الفوضوية التي تسيء بسلوكها وأنانيتها للمجتمع. هذه الفلسفة حاول فايز صايغ بثَّ أفكارها في أوساط الحزب، متأثراً بالمفكر الروسي نقولا برديايف الذي رّوجَ لها في كتاب «العبودية والحرية»، معتبراً «أن الفرد منبثقٌ رأساً من الله وليس من النوع الإنساني أو المجتمع الإنساني»(7)، وهو كائن حر وفوضوي ومتمرّد. فشخصيّته السلبية لا تتحقق إلا بالتمرد على واجبات المجتمع وعدم الاتحاد فيه وبالتحرر من الاعتماد على الطبيعة والمجتمع والدولة. فالشخصية الفردية الحرّة الخلاّقة، بنظر هذه الفلسفة الفردية، هي القيمة العليا وقضيتها فوق قضية المجتمع ومتقدمة عليها ولا ولاء لها إلا لأنانيتها الفردية.(8)
والمدرحيّة ترى ايضاً أن الحياة الإنسانية والارتقاء الإنساني لا يمكن تفسيرهما بالمبدأ الروحي وحده او بالمبدأ المادي وحده بل بالتفاعل الروحي– المادي المتجانس الذي يحقق مطالب الحياة المادية والنفسية ويرتقي بها.. وكما يؤكد سعاده: «إننا نقول بأن التاريخ والحياة يفسران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامـع. بفلسفة جديدة تقول إنّ المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم.»(9) وفي رسالة وجهها للقوميين الاجتماعيين عام 1947، أكّدَ ان تعاليمه المُحيّية تدعو العالم إلى ترك العقائد الجزئية، الخانقة والجشعة والجامحة، في تفسير التطور الإنساني وإلى الإقلاع عن مقولة اعتبار العالم ضرورة، عالم حروب مهلكة بين القوتين المادية والروحية.. ودعا المكابرون إلى التسليم معه «بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.»(10)
فلسفة أصلية
والمدرحيّة ليست فلسفة غريبة، مستوردة من العالم الخارجي او مقتبسة من فلسفاته العصرية المتنوعة، بل هي فلسفة أصلية نبتت في تربة البيئة السورية بجذور عميقة في التاريخ ونمت شامخة في الحياة تعطي من ثمارها أفكاراً صالحة تغذّي العقول ومناقب سامية تهذّب النفوس. فهي، أولاً، فلسفة منطبقة على خصائص البيئة السورية واستعدادها النفسي والمادي لتقبلها والعمل بها، ومتوافقة مع شخصية المجتمع السوري وخططه النفسية. وهي، ثانياً، فلسفة ناتجة عن التفكير السوري الإبداعي المستقل المرتكز على الاستقلال الروحي والفكري والذي نجد أصوله في نفسية الشعب السوري وفي تراثه الفكري–الثقافي الحضاري منذ بداياته الأولى ابتداءً من الأساطير العميقة «الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية»(11) مروراً بما أنتجه السوريون القدامى من فكر وحكمة وعلم وفنون وفلسفات وشرائع وتصورات للكون والحياة وغيرها من المآثر الثقافية والإنجازات التي سجّلها عظماء سورية ومنهم فلاسفة كبار أمثال طاليس الفينيقي، المعروف بأبي الفلسفة، وزينون الفيلسوف الرواقي، السوري – الفينيقي، الذي أنشأ المدرسة الرواقية التي وضعت «أسس الأخلاق والفضائل والقيم» الجديدة لإنسان جديد عالمي ولمدينة كونيّة فاضلة حيث البشر فيها إخوة والذي عبَّرَ بنظرته الفلسفيّة العميقة عن النفسيّة السوريّة العمليّة التي لم تتهرّب يوماً من العمل لتحقيق الأفضل في هذا الوجود ولم تلجأ في نهجها إلى ما وراء الوجود، إلى الميتافيزياء، لتحل مشاكل الإنسان وتوقه إلى السيطرة على أسرار الكون. وأمثال الفيلسوف الشاعر المتألق أبي العلاء المعرّي والفيلسوف الأديب جبران خليل جبران والعبقري الدكتور فيليب حتي وغيرهم.
والتفكير السوري الإبداعي الذي سعى في كل مراحل التاريخ إلى الكشف على أسرار الكون وألغازه وإلى ابتكار الاختراعات والفنون الراقية وتسجيل أروع الشرائع والقوانين والفلسفات وغيرها من المنجزات الحضارية.. هذا التفكير الإبداعيّ تجلّى في إنتاج سعاده وطريقة تفكيره المستقل و»شكّلَ انقلاباً فكرياً عظيماً وسط شعبنا يعكسُ نفسيتنا السورية الجميلة الفاعلة في الوجود والتي تتمتّع بكل مؤهلات الوعي الصحيح والإدراك الشامل لشؤون الحياة والكون والفن والتي «تقدر في ذاتها على المعرفة»(12) و«تمييز القصد وتصور أسمى صور الجمال في الحياة».(13)
وبفضل نبوغه وعبقريّته وما تمتع به من ملكات عقلية ومن مهارات الإبداع والتفكير الإيجابي السليم والبعيد عن التقليد والاقتباس، ونتيجة معرفته العميقة بالتاريخ والعلوم الاجتماعية والانتروبولوجية والجغرافية واطلاعه الواسع على حضارات إنسانية وعقائد دينية ومذاهب فلسفيّة متنوّعة، استطاع سعاده ان يصيغَ فلسفته القومية الاجتماعية الجديدة التي تُعتبر ابتكاراً جديداً في التفكير الفلسفي واستمراراً فلسفياً لخط التفكير السوري القديم وقضاياه، ولكن «بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانيّاته والفن ومراميه».(14) فنظرة سعاده الجديدة متصلة اتصالاً وثيقاً بالأصل الجوهريّ، بخط الذات السوريّة التاريخيّة وسيرها وبحقائق التفكير السوري القديم ومبادئه وقضاياه، وصادرة عنه، وهذا ما يسمّيه سعاده، بموصل «الاستمرار الفلسفيّ» بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد(15). ومبدأ الاستمرار الفلسفيّ يتجلّى بشكل واضح في شرحه للمبدأ الأساسيّ السابع، الذي يتضمّن دعوة صريحة إلى النهوض القومي عبر طريق الاستقلال الفكري–الروحي المنزّه عن التأثيرات الغريبة دون الانعزال عن التفاعل مع العالم، وفي دعوته الواضحة للاتصال بالذات السورية «وفهم بنيتها وتيارات عواملها ومبادئها المحركة»(16) من خلال الالتزام بالتاريخ القومي والعودة إلى التراث السوري والحضارة السورية وإلى جوهر الأمة ونفسيتها الحقيقية الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي سيرها وأعمالها ومآثرها الثقافية.(17)
إن نظرة سعاده العملية للوجود المبنية على فهم جديد للحياة وقضاياها لا تعتمد على مبدأ الاستمرار الفلسفي وحده بل على مبدأ الاطراد الفلسفي ايضاً. المبدأ الأول يُوصل التفكير الجديد بالتفكير القديم ولا يلغي الحقائق القديمة أو يلقيها في زاوية الإهمال والنسيان، إنما يعدِّل فيها ويبقي على الصالح منها. أما مبدأ الاطراد الفلسفي، فيعني أن النظرة الجديدة هي أعلى درجة وأرقى من مفاهيم السابقين في بحثهم عن الحقيقة. إنها تقدّم إضافات جديدة للمفاهيم السابقة لذلك يمكن اعتبارها خطوة جديدة متقدمة نحو الارتقاء لأن الحياة تسير إلى الأمام في شكل تطوّري وتصاعديّ وليس إلى الوراء. وهذا المبدأ يعني أن المدرحيّة تأخذ بفكرة التطور وليس بفكرة التراجع. فالوجود الإنساني (السوري) وجود طبيعيٌّ، حيٌّ، في البيئة السورية الطبيعية وهو حصيلة ناتجة عن التفاعل المادي – النفسي ويسير وفق نسق تطوريّ ممتدّ في الزمان، وكل مرحلة من مراحل هذا التطور مرتبطة، بشكل وثيق، بالمراحل التي سبقتها. وقد بيّنَ سعاده صفات هذا الوجود في كتاباته المتعددة، كما وضع الأساس العلمي العام لتكوينه بجميع مظاهره وعوامله الأساسيّة في كتابه «نشوء الأمم» ولم يتمكن من إنهاء كتابه الثاني في بحث «نشوء الأمة السورية» ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ إذ صودرت أوراقه أثناء الاعتقالات الثّانية في صيف 1936 من قبل سلطات الانتداب الفرنسي، وتعرّض بعد ذلك إلى ملاحقات ودسائس ومتاعب واغتيال.
ودعا سعاده أبناء شعبه للأخذ بنظرته الجديدة وللعمل بوحي تعاليمها من أجل إشادة تمدّن جديد أفضل من التمدن القديم الذي وضع قواعده أجدادنا الأولون وبناء حياة راقية يجدون فيها كل الفرج والجمال وحسن المآل، وقال: «يجب على الأمم الراقية ان تتشبه بنا او تنسج على طرازنا القومي الاجتماعي».(18)
فالسوريون القوميون الاجتماعيون يجاهدون، ولهم عقيدة كلية، تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعية، وترتفع في مثل عليا غير متناهية. إنهم يحاربون، واثقين من أنهم يشيّدون تمدناً جديداً أفضل من التمدُّن القديم الذي وضع قواعده أجدادهم الأولون. فهم، من هذه الناحية الفلسفية، الأساسية، في طليعة الأمم التي تسعى لإيجاد عالم أفضل من الموجود، ولا يحتاجون لأخذ دروس، في هذا الموضوع، من شعب من الشعوب، بل إنهم يشعرون بأنهم يقدرون أن يفيدوا الشعوب الأخرى، في جميع القارات على السواء، بتفكيرهم الجديد، الذي لم يسمح لهم الأدباء المجزرون، والنفعيون، والرجعيون، بالانصراف إلى توسيعه وإعلاء بنائه وكشف مخبآته الرائعة، بما أثاروه عليهم من ضجيج، وما شغلوهم به من عنعنات وترهات ومخرفات، لم يجد القوميون الاجتماعيون بداً من الحفول بها، وصرف بعض الوقت الثمين في محاربة سمومها.(19)
فلسفة الأساسيّات:
حرَّكَ سعاده قضية الفكر الفلسفي الأساسي ودعا المنتجين فكراً وفناً، من أدباء وشعراء ومثقفين وموسيقيين وطلبة العلم والفلسفة، للأخذ بنظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفن ولإنتاج أعمالهم على ضوئها وللتعمق في درسها بأبحاث ثقافية وفلسفية وأدبية واقتصادية جديدة توضح المسائل والقضايا التي تعالجها وتنقل الفكر من السطحيات ومسائل الإدراك العادي والتفكير الاعتيادي إلى الأساسيّات: إلى المرامي السامية من الفكر والشعور وإلى «قضايا الحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضايا الحياة العملية».(20) وبرأي سعاده، فإن القضايا الأساسية السامية تشمل قضية الفرد – الإنسان والمجتمع وغرض الوجود الإنساني وقضية الوطن القومي والعمل في سبيله وحفظ سلامته ووحدته وحياته. كما تشمل القيم الإنسانية المجتمعية كالحرية والواجب والنظام والقوة والحق والخير والجمال وغيرها.(21) وفي كتاب توجيهي أرسله سعاده إلى الدكتور شارل مالك بعد أن أهداه هذا الأخير نسخة من خطاب بالإنكليزيّة ألقاه في كلية البنات في الجامعة الأميركانية بعنوان «معنى الفلسفة»، يقول سعاده:
إنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسيّة الأخيرة عينها التي فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة.(22)
ومن أجل نفض الغبار عن حقيقة النفسية السورية الأصلية ومكنوناتها، دعا سعاده إلى إحياء التراث السوري الروحي – الفكري والكشف عن مآثر هذه النفسية الثقافية وإنجازاتها وإلى العودة إلى الجذور الحضارية وإلى الأساطير السورية الأصلية ذات المغزى الفلسفي في الوجود الإنساني طالباً من الأدباء والشعراء السوريين الاطلاع على هذه «الكنوز الروحية الثمينة» وما يوجد في طبيعة أمتهم من موحيات فلسفية وفنية أصلية «يؤهلهم فهمها لإنشاء أدب فخم، جميل، خالد… يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها».(23) وهذا الأدب الذي دعا إليه، «هو أدب الحياة، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوّرنا ويعبّر عن مثلنا العليا وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته».(24)
وقال: إلى مقام الآلهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور.(25)
وأضاف: الآن أخاطب، أنا، جميع شعراء سورية قائلاً: تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور حقيقتنا وأمل إرادتنا وصحة حياتنا. تعالوا نشيد لأمتنا قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا السورية ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها المتناولة قضايا الحياة الإنسانية الكبرى.(26)
الفلسفة المدرحيّة وما قدّمته من حافز روحي، فتحت آفاقاً جديدة للفكر وأحدثت تغييراً «في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة»(27)، وأطلقت تياراً ثقافياً – معرفياً، فاعلاً في ميادين الأدب، والشعر، والموسيقى، وسائر فروع الفن، ومعبراً عن مكنونات النفس السورية التي كانت مكبوتة ومحجوزة وعن سمو تفكيرها ومقاصدها النبيلة. كما أيقظت هذه الفلسفة وجدان ألوف الأحداث والطلبة وحرّكت عوامل الحياة والارتقاء في فئات كثيرة من الشعب وفي أوساط أهل العلم والأدب والفنون، و»صيّرت العلوم الميتة علوماً حية، فاكتست العظام لحماً ونبضت عروقها بدم الحياة الحار..»(28).
والفلسفة المدرحيّة تتضمن مبادئ مناقبية نجد فيها أبجدية الحياة الجديدة وقيمها السامية.. وهل تسمو الحياة بدون المبادئ السامية؟ لقد تساءل سعاده في سجّلِ مذكراته اليومية قبل تأسيسه للحزب: «ما هي قيمة الحياة بدون مبدأ؟ وما هي الحياة بدون مثل منشود؟»(29) وبعد تأسيسه للحزب وفي معرض شرحه للعقلية الأخلاقية الجديدة يقول: «إن الحياة الإنسانية بلا مبادئ يتمسك بها الإنسان، ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة..»(30)، لذلك تسعى الحركة القومية الاجتماعية أن تغرس هذه التعاليم والقيم السامية في النفوس لتنبت حباً عظيماً للأرض وللمجتمع، لأنه بدون الولاء للمجتمع وبدون التفكير بخيره ومصالحه وبدون التعاون الاجتماعي لا ترتقي الحياة الاجتماعية ولا ينعم المجتمع بأكمله بالحياة الراقية الجميلة. إن التعاون الاجتماعي، يقول سعاده، «هو الطريقة الأساسية لحفظ حياة المجتمع وشخصيته وتأهليه للتقدم في مراقي العمران والتمدن».(31) والحركة القومية الاجتماعية التي قامت على أساس فكرة فلسفية أساسية، يقول زعيم النهضة: «هي الحركة التي استمدت وجودها من الأرض والشعب بكل ملله وطوائفه – وهي الحركة التي سارت بالمحبة للأرض والشعب – للشعب كله بجميع فئاته..».(32)
وفي بحثه المنشور في الزوبعة عام 1942 بعنوان «العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة» علَّقَ سعاده على بعض الكتّاب الخنفشاريين الذين أظهروا «سفسطة إنكارية» واعتبروا «أنه ليس عندنا «سوى آراء وأحلام تلمع هنا وهناك»، فيلقون بالدروس علينا بوجوب التشبه «بالأمم الراقية»، التي تُعنى بالأمور الجوهرية، ولا تحفل بالقشور، نظيرنا نحن السوريين».(33) ويضيف:
«إنّ أمماً كثيرة، قوية، كانت أمامنا أشواطاً ومراحل في التفكير الاجتماعي ــــ الاقتصادي، وكان ذلك في عهد مضى، أما الآن فإن نهضتنا القومية الاجتماعية قد جعلتنا في مقدمة الأمم الثقافية المتمدّنة من هذا القبيل. فنحن لا نفتقر إلى قواعد اجتماعية ــــ اقتصادية من الخارج. بل نحن نقدر أن نساعد غيرنا ونعطي من تفكيرنا».(34)
ما كان يؤلم سعاده هو الجهل المنتشر في المجتمع والذي لم يقتصر على العامة من الناس بل طال بعض الكتّاب والأدباء الذين فقدوا الثقة بالنفس ولم يهتموا بدراسة ما يجري في شعبنا من تطوّر فكريّ رائع، بل تعوّدوا أن يطلبوا منا أن «نتشبه بالأمم الراقية» وننسج على طرازها. يقول سعاده:
هو الجهل، وموت الروح، وانعدام الطموح والمثل العليا، وفقد الثقة بالنفس والجنس، عند الأدباء المجزرين الذين ولدوا في عصر مظلم ولم ترَ أنفسهم النور قط. ولذلك، لا يرجى منهم أن يروا، ببصائرهم العمياء، الألوان والظلال، والخطوط، والأشياء، والقيم، والطرق، وأشكال الحياة ومعانيها، والمثل العليا، التي اعتنقتها النفوس التي ولدت في النور وسارت في النور.(35)
وما كان يؤلم سعاده أيضاً هو حالة اليأس والخوف المسيطرة على النفوس بحكم الظروف الروحية النفسية السائدة في المجتمع نتيجة فقدان الثقة بالنفس وبمواهب الشعب وإمكانياته والاستسلام للخنوع. هذه الحالة، التي اعتبرها سعاده أكبر نكبة أصيبت بها الأمة، أدّت إلى نشوء «طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية»(36)، ينشرون الخوف و»يقنعون الناس بأن الخوف أفضل طريق للحياة»(37)، و»يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجيّة والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق..»(38)، لكن سعاده يؤكد بأن سورية الناهضة بالفلسفة القومية الاجتماعية الجديدة هي غير سورية القديمة «المسترسلة إلى أوهام فاقدي الروح القومية وعديمي الثقة بالنفس»(39). إن السوريين القوميين الاجتماعيين قد حرّروا أنفسهم، بفضل مبادئ القومية الاجتماعية، من الأوهام التي قعدت بهم عن طلب ما هو جدير بهم. لقد تحوّلوا بمعرفتهم الجديدة إلى مصارعين أحرار، واعين معنى وجودهم وحياتهم ومصالحهم في الحياة وضرورة تحسين هذه الحياة وتجويدها، وعاملين بكل تضحية وتفانٍ لانتصار الفضائل الجميلة والمناقب الراقية والمثل العليا العظيمة لأمتهم. وبفضل النهضة القومية التي أخرجتهم من الظلـمة والجهل والضلال والشك والفوضى الى النـور والمعرفة والهُدى واليقين والنظام، فهم يصارعون بإرادتهم الحرّة ومناقبهم الصافية ويبذلون الجهود والتضحيات ويعطون بسخاء وبطولة لإيقاظ الوجدان المجتمعي وتوليد الوعي القومي الصحيح في مجتمعهم المفكّك والواهن فيتحوّل هذا المجتمع بأسره إلى مجتمع إنساني، موحّد، وقويّ، وحرٌّ، وواعٍ، ومناقبي، مجتمع خلاّق وناهض بأبنائه الأحرار وسائر لتحقيق مقاصده الكبرى في الحياة، مجتمع نموذجيٌ، راقٍ، وقدوة لغيره من المجتمعات الإنسانيّة وقادر أن يكون بعبقريّة أبنائه وإبداعهم معلماً وهادياً للأمم .
هوامش:
(١) سعاده، «العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة»، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942
(2) أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، الطبعة الرابعة، بيرون، 1977، ص 102.
(3) نظرة سعاده إلى الإنسان، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948.
(4) رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947
(5) راجع كتاب الزعيم إلى عميد الإذاعة (فايز صايغ)، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/12/1947.
(6) نظرة سعاده إلى الإنسان، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948.
(7) راجع مقالة «مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة»، منشورة في النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد، أ، العددان 3 و4، 15/12/1947.
(8) راجع مقالة «مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة»، منشورة في النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد، أ، العددان 3 و4، 15/12/1947.
(9) المذهب القومي الاجتماعي (من خطاب الزعيم في الاجتماعي القومي في نادي «شرف ووطن» في بوينُس آيرس في ديسمبر/ كانون الأول سنة 1939)
(10) رسالة من الزعيم إلى القوميين الاجتماعيين، 10/01/1947، منشورة في نشرة عمدة الإذاعة بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947
(11) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، طريق الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 51.
.(12) المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 109.
(13) المرجع ذاته.
(14) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، طريق الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 71.
(15)سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، طريق الفكر السوري، بيروت، 1960، ص 60.
(16) هيثم، سعاده طبعاً، طبعة أولى 1988، مؤسسة بيسان، بيروت، ص 113.
(17) المحاضرات العشر، ص 105-106.
(18) سعاده، الآثار الكاملة 10، ص 28.
(19) سعاده، «العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة»، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942
(20) من الزعيم إلى الدكتور شارل مالك، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، 01/03/1948.
(21) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، بيروت، 1960، ص 67.
(22) من الزعيم إلى الدكتور شارل مالك، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، 01/03/1948.
(23) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، بيروت، 1960، ص 45.
(24) المرجع ذاته.
(25) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 64.
(26) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 64-65.
(27) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 49.
(28) المرجع ذاته، ص 48.
(29) أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس، بيروت، 1975، ص. 218.
(30) أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ص. 177.
(31) سعاده، شق الطريق لتحيا سورية، نشرة عمدة الإذاعة، بيروت، المجلد 3، العدد 9، 31/10/1947
(32)سعاده، مختارات في المسألة اللبنانية – 2- الانعزالية أفلست 1947 – 1949، ص 150 – 151
(33) سعاده، «العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة»، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942
(34) المرجع ذاته.
(35) المرجع ذاته.
(36) راجع خطبة الزعيم في حفلة الأول من آذار عام 1938، منشورة في كُتيّب «سعاده في أول آذار»، ص 27.
(37) راجع خطاب الزعيم في بشامون، 03/10/1948
(38) راجع خطبة الزعيم في حفلة الأول من آذار عام 1938، منشورة في كُتيّب «سعاده في أول آذار»، ص 27.