حان وقت التغيير… لاستعادة الدور والاحترام
المهندس خالد الرواس
يحذّر البعض من التدخل الفرنسي في شؤوننا الداخلية، كما لو أننا كنّا قد نجحنا ولمعنا في إدارة تلك الشؤون، أو أننا كنّا على مستوى المسؤولية في الحفاظ على مصالحنا الوطنية العليا، وجاءت فرنسا اليوم لكي تعبث بها أو تخرّبها، أو لكي «تستعمرنا من جديد» على حدّ ما يحذّر منه البعض الآخر مشكورين، في وقت أظهرت فيه الإدارات السياسية اللبنانية المتعاقبة، على مرّ السنين، أسوأ نموذج لصنّاع الفساد في الأرض، يَصلُح لأن يكون قدوة للأنظمة الفاسدة في العالم، الراغبة بإسقاط دولها من الداخل، بما أدّى الى إفلاس الدولة – سياسياً واقتصادياً ومالياً – والى تشريد الناس بعد إفقارهم والحجر على أموالهم، الأمر الذي أفقد لبنان – كدولة وكرسالة وكوطن – احترامه بنظر مواطنيه وبنظر الخارج على السواء.
فالنظام السياسي في لبنان القائم على التمثيل الطائفي في الوظائف العامة بما فيها الرئاسات الثلاث، قد أثبت فشله، بعدما تبيّن أنّ ظاهره «توافقي سياسي»، وأنّ باطنه يخفي محاصصات طائفية وارتكابات، بحجة «الحفاظ على السلم الأهلي»، فما حصل ويحصل في لبنان، هو عملية انتحار ذاتي، أبطالها حكّامه من زعماء الطوائف، وأزلامهم ومناصريهم، ممن «قفزوا» بعد الطائف من الشارع الى السلطة، بعدما استبدلوا ثيابهم فقط، دون أفكارهم، فظلت إدارة الشارع راسخة في أذهانهم، يمارسونها وهم في الحكم، متمترسين بهويتهم الطائفية، بل المذهبية، مصوّرين الحكومات التي خدمت أهدافهم على أنها «حكومات وحدة وطنية»، من دون حسيب أو رقيب، حتى جاءت النتائج كارثية على النحو الذي وصلنا اليه.
وإذا كانت فرنسا قد سارعت إلى احتواء ذيول انفجار المرفأ تحت عناوين إنسانية، لكنها بادرت أيضاً وبالسرعة ذاتها، الى لعب دور سياسي، عبر طرح عناوين إصلاحية على المسؤولين السياسيين، بدءاً بتكليف الدكتور مصطفى أديب بتشكيل حكومة اختصاصيين، على أن تحظى بثقة الدول المانحة، وعبر مخاطبة مختلف القوى السياسية الموجودة في السلطة، بضرورة المضي في تطبيق الإصلاح الداخلي الشامل، تمهيداً لعودة الثقة والاستقرار الى البلد، يسمح بإعادة ضخّ الأموال من الخارج، على أن يكون خاضعاً لتدقيق مانع للهدر والسمسرات، دعماً للإصلاح وإعادة الإعمار، بما يعني أنّ لبنان بات على عتبة فرصة تغيير حقيقي في بنيته السياسية القائمة، إنقاذاً من نفسه، لن يكون للطبقة السياسية الحالية أو معظمها أيّ مصلحة فيه، في ظلّ العمل على إقفال شرايين الهدر، وعلى ضوء تطبيق ما لم يتمّ تطبيقه من اتفاق الطائف، وفي مقدّمها إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس شيوخ، وإقرار قانون انتخابي على أساس الدوائر الكبرى أو على أساس لبنان دائرة واحدة، إضافة إلى معالجة ملف الكهرباء، وخطوات إصلاحية أخرى، كمدخل لعملية الإصلاح الجدّي التي طالما انتظرها اللبنانيون، تطبيقاً لما ورد في الدستور، لكن هذه المرة بطلب فرنسي، بما لا يجعل هذا الطلب استعمارياً، بل هو طلب قد ساهم في الكشف عن مدى سوء الإدارة اللبنانية، وتمنّعها عن تطبيق الدستور على مدى عقود، عن سابق تصوّر وتصميم، في ظاهرة تآمر من الداخل على الداخل، غير قابل للعلاج، أفقد لبنان مكانته ودوره واحترامه تجاه نفسه وتجاه الخارج.
فالتآمر الداخلي قد طال المصالح الوطنية العليا وأسقطها بالضربة القاضية، بما خدم أعداء لبنان، انسحبت نتائجه لتطال أرواح الناس وبيوتهم ومصالحهم وأموالهم ومستقبل أولادهم، فضلاً عن إنهاك اقتصاد البلد وفرملة نموّه، بما لا يفتح أيّ مجال لأيّ إصلاح، إلا بتغيير قواعد النظام السياسي القائم ووجوهه، الذي شرّع الأبواب، بسبب انتكاساته المدوّية، لأدوار دولية لإجراء عملية الإنعاش وإعادة الاستنهاض.
من جهة ثانية، لا بدّ من قراءة موضوعية للأحداث والمستجدات، انطلاقاً مما يدور في الساحة المحلية وربطها بما يجري من أحداث في المنطقة، لكي نتلمّس وقائع وخلفيات التحركات الدولية، واهتمامها «اللامفاجئ» بالوضع اللبناني، في هذه الفترة بالذات، حيث تحتدم الأساطيل في البحر المتوسط، وتتوسّع الخلافات بين دول حوضه، ومن خارجه، حول المنافع الكبرى من الطاقة والغاز الكامنة في قعره، تمهيداً لاستثمارها والهيمنة عليها في المرحلة المقبلة، تثبيتاً لنفوذها في هذه المنطقة الحساسة من العالم، بما سيؤدّي غالباً، الى عودة التحكم مرة جديدة بمصائر الشعوب الضعيفة وبثرواتها ومستقبلها، تنفيداً لأجندة دولية، من أهمّ مفاعيلها إجراء التسويات السياسية الكبرى بين دول المنطقة، بدءاً من لبنان، تمهّد لخارطة نفوذ جديدة تخدم مصالح مختلف الدول ذات الصلة بالمشكلات العالقة، إقليمياً ودولياً.
وإذا كانت إحدى الخلفيات الأساسية للمبادرة الفرنسية في لبنان هي اقتصادية، يكون لبنان قد خسر مرتين، مرة من أوليائه كلصوص، ومرة من أصدقائه كأوصياء جدد، وفي كلتا الحالتين يكون الضرر قد وقع، لكن يجب الإفادة هذه المرة من التجربة الماضية لكي تبقى «سابقة» في حياتنا يجب ان لا تتكرّر، فالفرنسيون براغماتيون، لا وقت لديهم لتضييعه، مثلهم مثل سائر البلدان التي تحترم مصالح شعوبها، يجب علينا الإفادة من ذلك، لتحقيق التغيير المطلوب في نظامنا السياسي والإفادة من المتغيّرات، لكن بما يتناسب وينسجم مع تكريس هويتنا الوطنية، وتحصين سيادتنا، وتعزيز طموحاتنا في إعادة البناء وتطوير مؤسساتنا الحكومية والمالية كافة، بعد تنظيفها ونفض الغبار الطائفي والمذهبي عنها، بما يعيد ثقة المواطن اللبناني بها، من دون التهاون في مسألة الحفاظ على حقوقنا الوطنية لمصادر الطاقة الموجودة في مياهنا الإقليمية والاقتصادية، على مستوى النفط والغاز، كثروة وطنية يجب حمايتها بقوانين يجب أن تصل عقوبة العابثين بها الى الإعدام، باعتبارها خيانة للوطن.
لذلك، فإنّ عملية التغيير التي أضحت ضرورية، لا بدّ لها أن تبدأ من مكان ما، لاستعادة دور لبنان ومكانته ودوره واحترامه الذاتي وأمام الدول، وحين يصعب حصول ذلك بإرادة داخلية، ويصبح ظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند، فلا يعود هناك سبيل عند الناس إلا الاستناد الى نقطة انطلاق جديدة، ولو صديقة، لبدء عملية التغيير والإصلاح، المُعرقَل عن سوء قصد من الطبقة السياسية الحاكمة، عاش في ظلها الناس ظلماً عميقاً لا تمحوه أحداث الأيام، التي لا بدّ أن تعيد الحق الى أصحابه، ولو بعد حين. وللحديث تتمة…