ثقافة وفنون

المفارقة في القّصة الوجيزة

} الدّكتورة درّيّة كمال فرحات*

استطاع الأديب الرّاحل أمين الذيب أن ينطلق عبر تأسيسه لملتقى الأدب الوجيز في أن يضع رؤية جديدة تجاوزيّة، تبحث عن النّقد الأدبي المنبعث من الذّات الخاصّة، وعدم الاكتفاء في التّبعيّة الخارجيّة للنّقد أو البقاء في السّائد، وهنا ضرورة الانطلاق مما كان إلى ما هو مناسب لحركيّة العصر وتجدّده الدّائم. فالبقاء في المكان هو الغرق في مستنقع كبير.

وعليه كانت محاولة ملتقى الأدب الوجيز إيجاد تسمية القصة الوجيزة لنوع أدبي يتميّز بالتّكثيف والوجيز من المفردات والمفارقة، وذلك ليكون العنوان مناسبًا شكلًا ومضموناً.

والمفارقة لغويًّا مشتقة من فعل فرق أو فارق، وكما جاء في لسان العرب «فارَقَ الشيءَ مُفاَرقةً وفِرَاقًا باينَه والاسم الفرْقة. وتفَاَرق القومُ فاَرَقَ بعضهم بعضًا، والفِرْقُ والفِرْقةُ والفَرِيقُ الطائفة من الشيء المُتفَرِق. والفِرْقةُ طائفة من الناس، والفَرِيقُ أكَثر منه. والفرقانُ القرآن، وكل ما فُرِقَ به بينْ الحقّ والباطل فهو فرقان. وتتعدّد الدّلالات التي تُشير إليها اشتقاق كلمة المفارقة، وما يتبين أنّ هذه الكلمة تدلّ على  عكس التّناسب والتلّاؤم والتّطابق والانسجام والوحدة بين الشّيئين.

أمّا المفارقة اصطلاحًا فهي الجمع بين التّناقضات أو التّضادات، وهي تنافر أو تقابل بين ثنائيّات المواقف والأفعال، والمخالفة لما هو سائد ومنتشر من البداهات والآراء الموجودة في المجتمع. ومن هنا، تعني المفارقة مخالفة المعنى المتداول والشّائع بين النّاس.

وعليه فإنّ من سمات المفارقة هو قيامها على تعدّد الدّلالة، والتذّبذب بين متقابلين متضادين، من هنا قد نلمح غموض المقصد، فتسمح المفارقة بالمراوغة والتّظاهر من أجل إيصال المبتغى والمقصد إلى المتلقي. ويتولّد عن هذه المفارقة الكثير من التّأويلات، والتّناوب بين لغتين: أي لغة الظّاهر ولغة الباطن، فيمكن التّعبير عن فكرة ما بلغة معينة بهدف التّعبير عن معنى غير مباشر.

ويذكر يوسف حطّيني أنّ المفارقة ترتسم في الشّكلين الفنّيّ والموضوع، إذ يمكن للقاصّ أن يسعى في داخل أحدهما، أو في كليهما، من أجل الكشف عن الحوامل الممكنة للثّنائيّات الضّديّة التي يرتضيها شكلًا للتّعبير عن مكنوناته. وعليه فسمة المفارقة سمة بارزة يستطيع أن يستخدمها الأديب في نصّه ما يضفي البعد البلاغيّ والفنّيّ على كتابته، وقد يستطيع بذلك أن يتهرّب من التّعبير مباشرة لما يُريد قوله، وإن اختلفت الأسباب ما بين سياسيّ أو أدبيّ، أو ليشحذ تفكير المتلقي، ويوقد ذهنيّته.

والمفارقة التي تعدّ من الأساليب البلاغيّة قد اختلفت تعريفاتها عبر العصور، وبين أديب وآخر، وربما يعود ذلك إلى قدم هذا المصطلح، وإلى ما يتميّز به من مراوغة في طبيعته. فهذا المصطلح لا يُنسَب إلى أي علم من علوم اللّغة، ومن هنا يتطلّب دراسة هذا المصطلح وعدم الاكتفاء بالدّراسات النّقديّة الغربيّة.

والحديث عن المفارقة يستدعي تبيان سمات المفارقة التي من خلالها يمكن أن تبرز في القصة الوجيزة:

التّنافر الذي يبرز من خلال ظاهر الكلام وباطنه. وهنا قد نجمع بين الصّريح والمُضمَر.

سمة التّضاد بين الأقوال والأشياء.

المفارقة اللّغويّة أو اللّفظيّة التي تظهر من خلال بروز معنىً ظاهر، ويكون الهدف هو التّعبير عن معنى آخر، أي وجود معنى سطحي غير مقصود، إنّما المقصود هو المعنى الخفي المضمر.

سمة السخرية التي تجعل الخطاب في  المفارقة يتمتع بجانب من التّسلية والطّرافة والدّعابة، وقد توظّف السّخريّة المفارقة لنقد الواقع، والحطّ منه ما دام هذا الواقع يرتكن إلى مفاهيم الغرابة والفوضى والعبث.

سمة الغرابة وفيها تتحوّل المفارقة إلى علامة سيميائيّة تدلّ على الانزياح والخرق والثورة على العقل والمنطق.

سمة التّجريد أي تحوّل المفارقة إلى أداة تشكيليّة وتصويريّة تجريديّة.

سمة الدّراما أي أنّ االمفارقة هي التي تسبّب الأحداث الدّراميّة المأساويّة والتّراجيديا التي تنتج عن الأزمات والصّراع بين المتناقضات.

سمة الحرية وهي التي تمنح المبدع جانبًا من الحرية في التّعبير عما يراه في الواقع معتمدًا الأسلوب الذي يرتأيه من السّخرية أو الاستهزاء.

وقد تكون المفارقة في القصة الوجيزة من خلال رسم الشّخصية المحرّكة للأحداث، أو من خلال المكان والزّمان والحدث، وقد تبدو المفارقة جليّة في العنوان، فيكون العنوان مغايرًا للدّلالة الواردة في القصة، ومن هنا تنشأ المفارقة التي تشتمل على دالّ واحد ومدلولين اثنين، أحدهما حرفيّ واضح، وثانيهما يرتبط بالمقصد الذي ينشده الكاتب، فيكون مرمّزًا موحيًا به.

         وفي دراسة بسيطة لنماذج من القصة الوجيزة تقول الكاتبة التّونسيّة فتحية دبش في قصّتها تحت عنوان «مجهول»:

«عاد بعد سنوات من الغياب، تحلّق الأولاد حوله: كبروا كثيرًا وتغيّرت ملامحهم! أفرد جناحيه يحتضنهم ويشبع بعد إملاق.

سلّموا،

حملقوا،

ثمّ انفضّوا!

فقد انتهى وقت العناق ولم يوزّع الهدايا…».

تعتمد هذه القصة الوجيزة المفارقة القائمة على التضاد، والتقابل، والتناقض بين المواقف، بين موقف الأب والأولاد، فهو العائد من غربته ولديه شوق كبير إلى أبنائه، بينما يتّجه تفكير الأبناء إلى ما يحمله من هدايا، لهذا عندما انتهى وقت العناق والمشاعر والأحاسيس، ولم يحصلوا على هداياهم تفرّقوا من حوله. وتقوم هذه القصة الوجيزة على تشويه الشّخصيات والعوالم الموصوفة والأفضية المرصودة، ويُلاحظ أن المفارقة قد اتخذت، في هذه القصة، طابعاً اجتماعيًّا ساخراً، وتتميز هذه القصة بالجمع بين السّرد والحوار. والمفارقة نراها بين العنوان وما يدلّ عليّه، فيتبين أنّ هذا الشّخص بات مجهولًا بعد غياب العطايا.

وفي قصّة للكاتب الأردني صبحي الفحماوي بعنوان «جلسة غراميّة»:

كان يحدّثها عن الحروب القادمة،

ويحذّرها من أنّ الدّنيا متفجّرة، وأنّها تشتعل.

وكانت هي تطالبه برباط الحبّ المقدّس،

وتصف له لهيب غرامها المشتعل.

فالمفارقة تبرز من خلال التّضاد بين موقف الحبيبن في أثناء جلسة الغرام، فهو ويقوم حجاج الاعتراض على إيراد قضيتين متناقضتين هو يتحدّث عن اشتعال الحرب، وهي تتحدّث عن اشتعال الحبّومن هنا فإنّ المفارقة القصصيّة سمة بارزة من أهم سمات القصة الوجيزة وشروطها.

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى