غادا فؤاد السمان… المتلاشية والمتشظيّة والمتبعثرة والسكين في أحشائها
حاورها: جهاد أيوب
منذ قدومها من دمشق إلى بيروت عرفتها… عرفتها ثائرة على كل شيء، وعلى حالها، وعلى انقراض الطفيليّات، وموج البحر، والأرض والسماء. عرفتها لا تساوم، لا تكذب، ولا تجامل، وإذا أحبت متطرفة، وإذا قررت البعاد متطرفة، وإذا كتبت متطرفة، ومع هذا أنا الوحيد بين عشرات الزملاء اكتشفت الطفلة فيها، والتسامح المزروع بنظراتها البراقة، والقلب الكبير المطرز بالصمت والقلق والثورة!
شكلنا صداقة صدمت الجميع، وغبنا مع البحث عن الرزق والمستقبل وصناعة الذات… عشرات السنين لم نتواصل، لم نفتح نافذاتنا معاً، وعشنا الغربة بكل أنواعها معاً، وشربنا زيت حبر الحياة في ظروف متشابهة معاً رغم عدم اللقاء…
القدر جمعنا من جديد، لأكتشف أن غادا فؤاد السمان لا تزال تلك الطفلة، سيدة علمتها الحياة الصبر والانتظار والبحث مع القدر، وجدتها أكثر لمعاناً في كتابة تُحسد عليها، شاعرة أنيقة تبوح الروح، كاتبة مفعمة بلغة تطير معها إلى خيال نظيف… إنها الأديبة غادا فؤاد السمان، عاشقة بيروت بكل تناقضاتها، والأمينة على دمشق الياسمين… في هذا الحوار الذي سقط سهواً دون تخطيط هي غادا الحقيقية التي تبوح من روحها.
} هل أنت ثابتة أو متلاشية بعد أن غرقنا في وجع أوطاننا؟
ـ ثابتة في المفاهيم الفيزيائية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، متماهية في المنظور الروحي، ومتلاشية ومتشظية ومتبعثرة في الألغام الاقتصادية المزروعة بمهارة خارقة بين خطوة وخطوة.
} مَن أنت في قارورة الصبر والانتظار؟
ـ قطعاً أنا غار الصبر والانتظار ليس لأن العسس في بلادنا يشاؤون حجر المثقف، ولكن أنا هناك تيمناً بالرسل والقديسين وكل من نذر ذاته للرحمن أبيّاً.
} هل الكتابة كانت منفسك، أو أمومة تفتقدينها؟
– ـ لا أحتاج الأمومة فقد عشتها أكثر بكثير مما ينبغي، ولا هي “منفسة” في غرفة إنعاش، الكتابة ببساطة وسيلة من وسائل الهروب من الذات ومن الآخر ومن المجتمع ومن الناس ومن الجحيم.
} لستِ أول مؤنث في الكتابة، ودائماً أسمع شكواك على هذا المؤنث؟
“وبعد تنهيدة عميقة” وما أدراك ما التأنيث في بلادنا، وكيف ينظر لها في الوسط الثقافي، أجمع على أنها ضلع مكسور ينقصه عقل ودين، وانا خرقت هذه النظرية عندما تسلحت بأنياب الكلمات، ومخالب الحروف، فعرف الجميع أنني امرأة محظورة من التطاول، وهكذا بقيت أنثى عاقراً من العلاقات، وعشت امرأة مكتظة بالأمومة لدرجة التخمة، الموجع في التشخيص لهذه التخمة المزمنة من الأمومة المفرطة…
} هل الأمومة تلازمك بعد أن دخلت ناديها بإرادتك؟
ـ طوال ثلاثة عقود من الزمن وأنا أتابع أمومتي عن كثب من خلال طفلي البكر الذي والذي أنجبته وأنا طفلة لم تتجاوز مراهقتها، ولم تبلغ رشدها بعد، وقد تخطّى الثلاثين من عمره وخوفي عليه لم يتخطَ قلبي كأم تقحم لهفتها وعواطفها في كل خيار وكل قرار وكل ميول وكل أهواء له، وخاصة بعدما فصلتنا حرب السنوات العشر في سورية التي لم أدخلها منذ بداية الحرب!
} وكيف يراك أولادك؟
ـ طفلي الأول الذي يصغرني لا يراني غير من منظار صداقة مملة احياناً، ورفقة طريق إلزامية، وزميلة صف من صفوف الحياة التي رسبت فيها بتقديره كأم شاءت ان تدرس، وتتعلم، وتتثقف وتهتم بإنسانها وشخصيتها واسمها فقدّر أنني رغم كل ماقدمت مجرد امرأة أنانية نجحت أمام ذاتها وليس أمام اولادها!
أما طفلي الأصغر، وهو في الثالثة والعشرين من العمر، لا يملك لي من المشاعر غير السخط والغضب والغلّ، فبنظره انني المخادعة الاكبر في حياته عندما نميت في ذاته كل المثاليات ولم أصارحه بوجه المجتمع الحقيقي، ويوسمني بالدكتاتورية الظالمة الأكبر في حياته عندما حافظت عليه من المواجهات والمجابهات، وحاولت التصدي لكل التفاصيل نيابة عنه، ولا أخفي أنني وفي اول سنة في حياتي قررت الابتعاد وعدم اجترار الماضي وعدم التبرير الدائم، ولكن بعدما بدأت الحياة تتكشف لأولادي على حقيقتها، لم يكن من نصيبي سوى اللوم المتواصل مع كل خطوة وكل صدمة وكل عثرة وكل مفترق وكل طريق، وما أضيق فسحة العيش في بلادنا، وما أضيق الطريق.
الصمت وأنا
} أيهما تمتلكين الصمت أو صدى الوجع؟
ـ أمتلك الوجع ذاته، هو السكين المغروسة في أحشائي وأتحسسها في قهوة الصباح وأنا أتابع مآسي الناس وأتذكر غربتي وغربة أولادي وغربة كل الغرباء مثلي عن هذه الأرض التي يحتلها الطغاة فقط.
} إذاً، من حقنا نسأل هل تتحملين مسؤولية ما تكتبينه، وما تقولينه، وما تبوحين به مع ذاتك؟
– ـ ما من كاتبة عربية او حتى كاتب تجرأ على مثل ما تجرأت، فقد كنت الأولى التي أماطت اللثام عن فرسان القضية وعرابين التطبيع، والأولى التي تطاولت على المقامات العالية التي صنعتها القضية حتى صاروا أكبر منها وتركوها لشأنها وغادروها وغدروا بها، الأولى التي كتبت عن الإسرائيليات بالأقلام العربية، الأولى التي فخخت نفسها بالحقيقة، والأولى التي تحملت الرجم منذ عقدين من الزمن حتى اليوم، الأولى التي دفعت من شرايينها ونبضها حتى أنهكت العضلة التي تعمل بقليل من الجهد وكثير من الإيمان.
} في حال كهذه كم غادة أنت؟
ـ أنا أجمع جمعاً «غفوراً» من النساء، انا لا سمّ قاتل قد يخفق بل سمّان، أنا الحبّ الذي يملك كل مخزون العواطف، انا الحب الذي يسير ببسطار محارب وخوذة مجنون، أنا الحب الذي يبغض كل السواد الراسخ في القلوب، واقسم أن يزيحه لينبثق البياض في هذا العالم.
} كيف تقيس غادة الكاتبة مسافات الوطن، مسافات العاطفة، مسافات الأم، مسافات الصداقة، ومسافات ذاتك؟
ـ أبدأ من ذاتي كمحور لهذا الوجود، وقتها كل المسافات تتساوى وتتناسق وتتزن.
} غادة الأمس ماذا كانت، وغادة اليوم ماذا أصبحت؟
ـ غادة الأمس كانت أصلب حرفاً، أشرس كلمة، أمتن موقفاً، أغزر مشاهدَ، أبلغ أحلاماً ووقائع، غادا اليوم تحاول ان تعيش بأقل ضوضاء ممكنة.
} إذاً، هل الثورة الجامحة التي كانت عندك أصبحت مجرد ذاكرة عند غادة؟
ـ كل النظريات الثورية ماتت مع “جيفارا” ومفردة الـ”ثورة” أصبحت كقطعة الخردة تباع على ظهور البغال في كل مفترق معشوشب بصغار “الكَتَبَة”.
الكاتب والانفصام
} ما علاقة الكاتب بالانفصام، وهل عشت ذلك؟
– مشكلتي التطابق مع صفحتي البيضاء التي لطختها الأيام بنصوصي التي أكتبها بدمي الذي أستمد سواده من ظلام المراحل التي نتخبّط بها منذ الاستقلال وحتى اليوم.
} إلى أين ذاهبة غادا فؤاد السمان؟
ـ إلى حتفي الذي تهت عنه بأكثر من محاولة أنقذتني منها يد القدر التي شاءتني ان اكون شاهد عيان على قتل الرحمة من النفوس واستئصال الإيمان من الارواح، لهذا نحن على مفترق الفجائع، وطالما أننا على هذا القدر من التمذهب والتطييف والجحود فلنتوقع كل مهول وكل صعب قادم.
} هل تعرضت غادا للغدر، وهل أنت من غدر بالآخر؟
– غادر غادر غادر.
ويخذلني العتب
وينزوي كل ببقاياه
في ركن من صدأ
تمارس رمادك الماكر
وأتمّ وحدتي الفاجرة
بمسّ من جنون…
هكذا أختم إحدى قصائدي التي توثّق ما عانيت، لا أحبّ نبش الذاكرة إلا على سبيل البياض، اما عن كوني غادرة، فلا يمكن ان يتعايش النبلاء مع هذه السمة البغيضة، وانا وبكل اعتداد وثقة من أنبل النبلاء، وكل من جرحني عن قرب… يشهد، ليس ضعفاً او جبناً او غباء، لا سمح الله، وإنما شهامة ورِفعة وتجاوز وعزّة وكبرياء.