الوطن

ترامب ومسرح اللامعقول.. 
ماذا عن صبرا وشاتيلا؟

   نظام مارديني

وأنا أتابع مسرح اللامعقول في البيت الأبيض، حيث غابت فلسطين، تساءلتُ عما إذا كانت توجد نقاط مشتركة بين «التراجيديا» الإغريقية القديمة و»التراجيديا» الأميركية الجديدة الممتدة «إبراهيمياً» إلى مشايخ الخليجولكن صور التواقيع لم تكتمل فرحتها وقد قطعتها صافرات الإنذار التي دوت في عسقلان وأسدود بالتزامن مع خطاب وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، لتعيد المشهد إلى الواقع.

لقد كَسَرَ فتية فلسطين أمس، بصواريخهم، الصور النمطية الحزينة التي كانت تنقلها الوكالات العالمية، حيث كانت الصواريخ تقرع فيها أجراس الكنائس وأصوات المآذن، وتتنشق من خلالها رائحة برتقال يافا.

هل حقاً نحن من الطينِ ذاته مع هؤلاء الذين جاؤوا من أساطير ونسل إبراهيم؟ هُم يحملونَ الأوطانَ بكذبة في المعاملة من دون حاجة لتصريحٍ صاخب على منابر كلامٍ منافق أو إعلانٍ فارغ.. ونحنُ طرائد وطنٍ نتعلّمُ الصيدَ بأجسادِ أبنائنا ونهبُ الموتَ شهادة ولاءٍ لأرض تُتيحُ لهم فرصةً لعشاءٍ باذخٍ في ملكوت السماء.. نحن خُلقنا كي يُلاحقَ العالم ومضة البرقِ في سمائنا وهو يرى كيف ينشرُ الشهداء الأخضرَ على سِعَةِ اليابسِ في كونهِ لتزهو مرايا النسيم بوجهِ أطفال يبتسمون في فضاء فلسطين.

كانت صور الأمس وكأنها لحظة «الفهلوة» الأميركية الصهيونية مقابل الذُّل الخليجي.. لحظة حقق الثنائي ترامب/ نتنياهو هدفهما المشترك بالتزامن مع ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا؛ وقد أخضعا مشيختين خليجيتين من دون حرب، ومن دون أن تسقط قطرة دم.

لم ينجحا بإخضاع الفلسطينيين عبر صفقة القرن، لكن عيونهما ظلت شاخصة على أمرين كما تبيّن من تصريحاتهما.. نتنياهو أمس في البيت الأبيض وقبلها في فلسطين المحتلة: «نريد أموالهم، أموال الإماراتيين، ونريد أن ننهي الصراع مرة واحدة وللأبد».. وكان قد سبقه إلى هذا الطلب ترامب، بتصريحات متتالية أهان فيها دول الخليج، وخصوصاً مملكة السواد، السعودية: «نريد أموالكم مقابل الحماية»!

مشهد البيت الأبيض كان طافحاً بالذل والسخرية، إذ بدا وزيرا خارجية الإمارات والبحرين وكأنهما شخصيّتان كرتونيتان، كتوم وجيري، يحركهما دون أن يتحدث إليهما صاحب الشعر والسحنة الذهبييّن.

أما بعد

الموقّعون تحدّثوا كثيراً، لكنّهم لم يقولوا شيئاًووقّعوا كثيراً حتى حارَ ترامب ما هو فاعلٌ بقلمه سوى أن يقدّمه لشيخ الإمارات عربون خيانته.

وبعد ذلك

لن يبقى تاريخ 16 أيلول في العام 1982، مجرد ذكرى ففي كل يوم ستكتب وصية شهيد من شهداء «صبرا وشاتيلا» حتى تجفّ المحابر وتنفد كميات الورق التي يتراكم عليها الغبارحتى تعطس جميع القيم وتتعطل المباهجحتى تضجّ بها أصداء الملكوت لكي تكتمل مأساة مسرح التراجيديا الفلسطينية الذي هدف إلى تصوير المأساة، وبحسب أرسطو فإن «هيكل العمل التراجيدي لا ينبغي أن يكون بسيطاً بل معقداً، وأن يمثل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة».. يقول طفل شهيد: «كتبتُ وصيتي علّ أحدهم يأخذ بها لتكون منهجاً حياتياً له في هذا المستقبل الذي لا شكل له ولا ملامح!».

ونحن نجلس على جبل من الذكريات لسنوات الألم الفلسطيني الـ «38»، لا يزال المتهم الوحيد فيها هو العدو وبيادقه.. الأرامل يفترشنَ الأرض والثكالى في كل مكان، وناتج مذبحة «صبرا وشاتيلا» الذي اقتطفناه بعد الاحتلال العالمي لبيروت ملؤه الصراخ.. فالطفل بكى والأم صرخت والأب صمت.. وهكذا فالصراخ بأشكاله كان منتشراً في الأنحاء كافة بشكل لم يسمع صداه من قبل مَن يدّعي الإنسانية.. كان القتلة يضحكون ويسكرون على جثث أهلنا بكل تعالٍ وقبح.. ولكن بقيت «صبرا» هوية عصرنا إلى الأبد، كما يقول الشاعر الراحل محمود درويش في قصيدة «مديح الظل العالي».

نعرف القتلة، واحداً واحداً.. نعرف أسماءهم وعناوينهم.. وحتى أقيسة أحذيتهم.. هم نماردة وفراعين كانوا يملأون المخيم ومَن عليه من المواطنين، من فلسطينيين ولبنانيين، يصرخون من موتهم المبجل. في هذه الأرض حيث لا ينفع الدعاء إلا بالبارود.. فالعدو ومَن معه من الخونة لا يريدون إلا وجوهاً تغطيها الدماء المعجونة بالتراب وهم يدركون أن التاريخٍ يدوّن سرائرَه القتلةُ ورجالُ المخابرات والعاهرون في زوايا عالمنا العربي وما أكثرهم.. ولذلك كان ابن صبرا وشاتيلا يعي تماماً أن لحروبِ الفلسطيني أكثرَ من جبهةٍ، وأنَّ لموتِه أكثرَ مِن قاتل.

بين الصرخات كانت هناك صرخة لأمِّ ذُبح طفلها بين يديها، وهو الذي لم يكن يستخدم إلا الألعاب في لعبة الموت على ساحل الطفولة.. ها هو يذهب الى حيث الخيال المخملي الناعم ينام حالماً: مَن هو البطل الذي سيبدّد غيوم الظلم والظلام؟

وأنت تنظر الى شمس «صبرا وشاتيلا» بقلب حزين تستثار فيك صور كثيرة تقدّم إليك الندوب على طبق من اشتهاء الألم المفرط في الحدّة، تتوجّه بنظرك الى كل ما تستطيع أن تبلغه بها، فترى الندوب علت كل وجه أمامك وخلفك.. أين توجّه بصرك كي لا ترى ندبة فلسطينية واحدة؟

ندوب فلسطينية تحكي قصصاً ليست من الخيال، بل هي من صميم الواقع الساقط عليهم مثل الحمم.. ندوب أخفّ أحمالها مثل جبل الجرمق في الجليل.. هي ندوب هتكت قواهم وجعلتهم يئنون تحتها كمن يحمل كرة صخرية لا مفرّ من الإمساك بها، فأنت إما أن تمسكها أو تسقط على رأسك ولا مفرّ من ذلك.

إن ينسَوا من عايشوا تلك الآلام فهو أمر بالغ الصعوبة، ويكاد أن يكون مستحيلاً.. ما عادوا يحتملون اللوعة والندوب التي سكنت ثنايا وجوههم وأجسادهم المعذبة طيلة 38 سنة، وها هم يسحبون أعمارهم منها سنة بعد أخرى.. يستلّون شهورهم فتأتيهم مشوّهة غير مكتملة!

تحية إلى كل أم وأب وطفل.. إلى كل صبية كانت تحلم.. وإلى كل شاب كان مؤمناً بأنه يتهيّأ للمقاومة والعودة إلى فلسطينه.. وإلى كل مَن حمل ندوب عمره كالعروس التي تبحث عن مكان تأوي اليه!

يقول المسرحي الفرنسي الشهير جان جينه، وهو يصف وضع امرأة فلسطينية استشهدت: أصابع يديها كانت مروحية الشكل، والأصابع العشرة مقطوعة بمقص.. لا شك في أن جنوداً قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقص ويستعملونه، ضاحكين مثل الأولاد وهم يغنون فرحين!

بين جثث الموقّعين في البيت الأبيض.. وشهداء «صبرا وشاتيلا»، خيط رفيع يشير إلى أن الصراع سيبقى مستمراً ومفتوحاً على مصراعيه، لأنه صراع وجود.. هكذا تقول الحقيقة ويكتب التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى