حلقة إذاعية في بون
} الأمين سمير رفعت*
حطّت بنا الطائرة في مطار فرنكفورت الألماني الدولي، كنت في عداد وفد مجلس الشعب الشامي المتّجه إلى الأورغواي في أميركا اللاتينية لحضور الاجتماع الدوري للاتحاد البرلماني الدولي، الذي يُعقد كل مرة في دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد.
كان السفير الشامي سليمان حداد في انتظارنا في المطار الذي وصلناه مساء كمقطع أوروبي في طريقنا إلى أميركا الجنوبية، وسنبقى في ألمانيا يوماً وليلة ثم نتجه إلى الأورغواي.
عاصمة ألمانيا كانت «بون»، تلك القرية الكبيرة الصغيرة، وكانت السفارة الشامية فيها تحفة لكلّ من رأى، جعلها السفير سليمان حداد قصراً دمشقياً رائعاً مزخرفاً بالفسيفساء والصدف والبروكار الدمشقي، وقد أمضى السفير حداد سنوات في تأهيلها، وجَمَعَ لذلك التبرّعات من الجالية الشامية المتواجدة في ألمانيا، وأحضر لها معلّمين من دمشق الذين قاموا بتزيينها وجعلها جنة للناظرين والزائرين، لذلك كان السفير حداد يفخر بكلّ من يزوره ليريه تلك التحفة المعمارية الدمشقية على الأرض الألمانية…
انتقلنا بالسيارات من فرنكفورت إلى بون العاصمة، وكان السفير الشامي قد هيّأ لنا إقامتنا في مبنى السفارة، وأولَم على شرف وفد مجلس الشعب عشاءً دمشقياً لذيذاً قامت زوجته بالإشراف على تحضيره… وهي السيدة الدمشقية الراقية من آل الموره لي.. وابنة السفير الصبية الجميلة ريم، التي أشرفت بدورها على الاطمئنان على راحتنا.
بدأت جولتنا في السفارة بعد أن خطفنا السفير حداد ليرينا تحفته الفنية الدمشقية، وبالفعل ذُهلنا جميعاً بما شاهدناه من فنّ العمارة الدمشقية، وبعد جولتنا في أرجاء السفارة قدّم السفير سليمان حداد لرئيس مجلس الشعب رئيس الوفد عبد القادر قدورة سجلاً ذهبياً طالباً أن يكتب له كلمة فيه، وكنا نحن وفد مجلس الشعب وأركان السفارة وزوجة السفير وابنته واقفين ننتظر ماذا سيكتب السيد قدورة عن هذه التحفة التي شاهدناها، دعاني السيد قدورة لمساعدته في انتقاء الكلمات التي تليق، ولمّا انتهى من كتابتها وتلاوتها على الحاضرين… التفت السفير حداد مثنياً على ما كتبه السيد قدورة ثمّ علّق قائلاً: هذا كلام رائع سيبقى في هذا السجل الذهبي في السفارة، وسيطّلع عليه كلّ من يزورنا.. ولكن أنتظر منك يا أبا قيس أن تقدّم لنا هدية عينيّة، بالإضافة إلى هذه الكلمة الجميلة التي لا يمكن صرفها خارج إطار السجلّ الذهبي.
علّق الأستاذ قدورة أنّه لا يملك ما يقدّمه إلا هذه الكلمات التي تثني على ما شاهدناه من أثر فني رائع…
التفت السفير حداد نحوي طالباً مني أن أكتب كلمة في السجل، ثمّ علّق قائلاً: لا تكن بخيلاً كرئيس المجلس وقل ماذا ستقدّم للسفارة غير الكلمات… عندها قلت للسفير حداد إنّي سأقدّم لك هدية لا أدري ما قيمتها عندك، ولكنها عندي تساوي وجودي… ولم يكن يعرف السفير سليمان حداد ماذا أقصد، ولكن استدرك فوراً وقال: «إذا كانت عندك تساوي وجودك، فإني سأضعها فوق رأسي»… عند ذلك أدرت ياقة الجاكيت الذي أرتديه وسحبت دبوساً يحمل شعار الزوبعة المذهّبة وقدّمته له قائلاً: «هذا شعار الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يشرّفني أن أنتمي إليه». أخذ السفير حداد الزوبعة، قبّلها ووضعها فوق رأسه وسط دهشة جميع الحاضرين، أعضاء مجلس الشعب وأركان السفارة وعائلة السفير، وأوّل المتعجّبين كان رئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة، وقد شعر السفير حداد بدهشته، فالتفت إليه معلّقاً: «أمام كرم الرفيق سمير أنحني وأضع هذه الزوبعة حيث يجب أن تكون، أيّ على رأسي، ولك أن تكتب عنّي ما تشاء حين تعود إلى دمشق».
بعد هذه الحادثة، وبينما نحن نتناول العشاء في منزل السفير حداد، جلست ابنته ريم إلى جانبي وراحت تنهال عليّ بأسئلتها عن الحزب ومبادئه وتاريخه، واستغرق العشاء أكثر من ساعتَين، وأنا أجيبها على مرأى ومسمع الحاضرين، فكانت حلقة إذاعية رائعة كلّ روّادها من «الرفاق» في حزب البعث، بل ومن القادة.
هنا التفتت زوجة السفير قائلة ومخاطبة زوجها: سليمان إلى متى سيبقى هذا الوفد هنا؟ أجابها: غداً سينطلق إلى أميركا اللاتينية. قالت معلّقةً: الحمد لله.. لأنّه لو بقي سمير رفعت ليلة أخرى لكنّا مضطرين أن نضع علم الزوبعة عوضاً عن العلم السوري فوق السفارة، فهي ليلة واحدة جعلتك تقبّل الزوبعة وتضعها على رأسك، وأفقدني ابنتي ريم التي ستنام هذه الليلة قومية اجتماعية.
بعدها بسنوات التقيت السفير المتقاعد سليمان حداد عضواً في مجلس الشعب في الشام، ثمّ رئيساً للجنة العلاقات العربية والخارجية في المجلس، وكنّا نلتقي تقريباً كلّ يوم في مكتب منظمة البرلمانيين العرب والأميركيين من أصل عربي الذي كنت أديره…
وكذلك التقيت ابنته ريم حداد زميلة في هيئة الإذاعة والتلفزيون، هي في القسم الإنكليزي تقدّم نشرة تلفزيونية، وأنا في القسم العربي أقدّم نشرة بالعربية، وكان السفير حداد وابنته ريم يذكراني دائماً بليلة «بون» التي تركت أثراً جميلاً.
بالإضافة الى عملي الأساسي مستشاراً سياسياً واعلامياً في مجلس الشعب، اعتبر مكتب المنظمة مقراً للحزب السوري القومي الاجتماعي، وكانت تتردّد التحية القومية في المكتب عشرات المرات يومياً، فمنذ إطلاق المنظمة عيّنت الرفيقة فداء بطرس مترجمة للغة البرتغالية، والرفيقة مارسيلا منعم مترجمة للغة الاسبانية، وعمران الزعبي الصديق والأخ الذي تسلّم في ما بعد وزارة الاعلام في الشام. وقد اتصل بي الأمين الصديق ربيع الدبس حين كان مسؤولاً في مركز الحزب لينقل إليّ رغبة عمران بالحصول على رقم هاتفي في بيروت، وبعد أن أعطاه إياه بثوان قليلة رنّ الهاتف لتجيب زوجتي، وكعادته في ظرفه قال لها: معلمتي أنا في السوق ماذا تريدين أن أحضر لك من خضار وفواكه، فأجابته، وهي تعرف صوته جيداً، لقد قيل لي انّ عمران يعمل في ساعات فراغه وزيراً للإعلام، وقد صدّقت الآن هذا القول، واستمرّ الاتصال طويلاً. وما زلت حزيناً لأني لم ألبّ، رغم إلحاحه، دعوته لزيارته في مكتبه في وزارة الاعلام في الشام، او حتى في مكتبه في الجبهة الوطنية التقدمية حين عُيّن نائباً لرئيسها الدكتور بشار الأسد.
وفقدتُ الصديق عمران الزعبي دون أن ألتقيه… رحمه الله.
أما الرفيقة مارسيلا منعم، فقد غادرت دمشق الى الأرجنتين بعد ان انتخب عمّها كارلوس منعم رئيساً للجمهورية، وعمّها الثاني ادواردو منعم رئيساً لمجلس الشيوخ، فراحت لتتسلّم مكتبه في المجلس، وحين زرت في عداد وفد مجلس الشعب الشامي مجلس الشيوخ في بيونس ايرس، تقدّمت مارسيلا الجميع لتعانقني عناقاً طويلاً وهي تذرف الدموع، ووقف وفد مجلس الشعب برئاسة الأستاذ عبد القادر قدورة، وادواردو منعم يتأمّلان هذا العناق الذي ينمّ عن وفاء وشوق للوطن.
*رئيس المجلس القومي