محمد الماغوط ضمن «أعلام خالدون» في لقاء دمشقيّ
استعرض الباحث أسامة الماغوط ضمن سلسلة «أعلام خالدون» الشهرية التي استضافها ثقافي أبو رمانة في دمشق بعضاً من جوانب حياة الشاعر محمد الماغوط، مقتصراً على أنماط سلوكه الحياتية والوسائل التي كانت تدفعه إلى كتابة الشعر وكيفية انعكاس الحوادث الاجتماعية والإنسانية على موهبته الشعرية والمسرحية.
لفت الباحث إلى أن الشاعر محمد الماغوط بدأ حياته الاجتماعية في دمشق بعدما فشل في التعامل مع الزراعة والأرض ليختار الثقافة والأدب والكتابة ملاذاً إنسانياً جعلته الموهبة الكامنة في داخله يلجأ إليه، متأثراً بالأزمات الاجتماعية التي كانت تلم بأسرته وبمجتمعه، إضافة إلى البيئة الصحراوية الملاصقة لبلدته السلمية.
في دمشق كانت تجربة الماغوط في الخمسينات مغموسة بألم السجن ووجع الفقراء وآثار الظلم، إذ مضى بنزوعه الإنساني باحثاً عن المرأة والحرية والأفق، بحسب الباحث، فتأثرت قصائده بتلك الظواهر عبر ألفاظها ومفرداتها وتكوينها البنيوي الذي اعتمده الشاعر في نسيج نصوصه. وأوضح الباحث أن عمّه الشاعر محمد الماغوط انضم إلى جماعة مجلة «شعر» في لبنان حيث تعرف إلى الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه في مجلته، كاشفاً أن أول من اكتشف الماغوط شاعراً هو أدونيس في إحدى جلسات المجلة وعبر قصيدته التي حملت عنوان «القتل» التي قرأها بحضور يوسف الخال وأنسي الحاج والأخوين الرحباني فتركهم يتساءلون هل الشاعر هو «بودلير أم ريمبو؟» حتى أشار أدونيس إلى الماغوط قائلاً: هذا هو الشاعر الذي كتب القصيدة.
يكشف الباحث أن الشاعر الماغوط تعرّف إلى الشاعرة سنية الصالح في بيت الشاعر أدونيس وهي شقيقة زوجته خالدة سعيد حيث كان الماغوط وسنية يتنافسان على جائزة صحيفة «النهار» لأفضل قصيدة نثر، وكان قدرهما الزواج، ثم تتالت التداعيات وصدرت مجموعته الشعرية الأولى «حزن في ضوء القمر» عام 1959 عن مجلة «شعر»، ثم مجموعته الثانية «غرفة بملايين الجدران عن الدار ذاتها عام 1960.
كان لدمشق بالنسبة إلى الماغوط المقام الأول إذ سكنته وسكنها فلم يستطع مغادرتها وكان يذكرها في معظم قصائده، خاصة حين يغادرها ولو لأيام قليلة، إذ خاطبها في قصيدته «عربة السبايا الوردية» التي يقول في مطلعها: «أيها الربيع المقبل من عينيها .. أيها الكناري المسافر في ضوء القمر خذني اليها .. قصيدة غرام أو طعنة خنجر ..فأنا متشرد وجريح».
يعتبر الباحث أن الماغوط تجاهل سائر القوانين القديمة التي تحكمت في أصول الكتابة الشعرية، ولا سيما في مجموعته الشعرية الأولى «حزن في ضوء القمر» التي كانت بمثابة بيان شعري يمليء الاحتجاج والصراخ والحزن، مقتحماً بذلك الأبجديات التقليدية لشعراء تلك الفترة. وأهمية قصيدة الماغوط في الصور الشعرية المبتكرة ولغة الشاعر كأب شرعي لقصيدة النثر العربية، إذ استطاع أن يقلب الطاولة على جميع أبناء جيله، ناقلاً ذائقة القارئ إلى مفردات تمرده وعصيانه.
أربك الماغوط النقاد في التعامل مع أشعاره حتى يضطروا إلى الاعتراف بها واستثنائها كمادة أدبية رفيعة المستوى، هو القائل: «ليس لي عالم منظم في كتابة الشعر .. إنها فوضى أشبه ما تكون بمعركة خيول في الغبار رويداً ورويداً تنجلي المعركة ودائما يكون الصدق هو بوابة قصيدتي وخاتمتها». تشبث الماغوط بعفويته وفطرته فكانت قصائده تلقائية مستقاة من بيئته الريفية، معلناً عبر مجموعته «الفرح ليس مهنتي» تحوله إلى كتابة المسرح والزوايا الصحافية بعد صمته الشعري، كاتباً عشرات المقالات في مجلة «المستقبل» تحت عنوان «أليس في بلاد العجائب» ثم مسرحيته «كاسك يا وطن». وكتب أيضاً في مجلة «الكفاح العربي» ومجلة «الوسط» وفي هذه الكتابات ردّ على طرح ما عرف في مسرح النخبة حينذاك.
خرج الماغوط على الوزن والقافية إذ اعتبرهما تدجيناً للشعر، قائلاً: «الشعر نوع من الحيوان البري.. الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه وأنا رفضت تدجين الشعر وتركته كما هو حراً ولذلك يخافه البعض، وأعتقد أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي».
كتاباته المسرحية بدءاً بـ«العصفور الأحدب» حتى «ضيعة تشرين» وغيرهما كانت تجربة محيّرة للنقاد، إذ أعاب عليها سعد الله ونوس أنها نزعة تنفيسية تختلف عن مسرح التحريض، لكن الماغوط كان يرى غير ذلك، فالضحكة لديه كانت محاصرة بغصة، والتحريض يجب أن يكون مثيراً حتى البكاء، خلافاً لما يريده كاتب «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران»، أي سعد الله ونوس.
واعتمد الشاعر الماغوط، بحسب الباحث، في كتاباته المرجعيات الأخلاقية الشعبية والفطرية وقطع على نفسه عهداً أن يحقق أهدافها السامية وفق ما تجلى في مسرحه التي سما فيها البطل التراجيدي، خاصة نصوصه التي قدّمها مع دريد لحام، فبطله يدخل الزمن المسرحي جريحاً ويخرج منه جريئاً وجريحاً إذ لم يتمكن من تحقيق أهدافه.
رحل الماغوط وظل معاديا لأميركا التي يعتبرها عدواً لبلاده، رافضاً تكريمها له ودعوته له عدة مرات قائلاً: «لو نهض كريستوفر كولومبوس من قبره واكتشف دواء شعبياً لكل الأمراض المستعصية في التاريخ وعلى رأسها السرطان فلن يكفر عن جريمته باكتشاف أمريكا».