سورية ورقعة شطرنج المصالح… صراعات بصبغة دولية
} أمجد إسماعيل الآغا
في عمق المشهد السوري وتأثيراته وانعكاساته على جملة مشاهد الشرق الأوسط، يتضح لنا وبصورة جلية، أنّ الصراع في سورية تحوّل وفق أجندات بعض القوى، إلى صراع على سورية في المضمون والأهداف، حتى باتت هذه القوى تتقاسم المصالح في إطار البحث عن حلّ سياسي، مع تشاركية تتفاوت بنسب مختلفة في رسم حدود الجغرافية السورية، إضافة إلى وضع محدّدات ما ستؤول إليه التطورات.
كلّ هذا ليس في سبيل الوصول إلى الاتفاق على حلّ القضية السورية فقط، بل أيضاً في تحديد الدور الذي سيقوم به كلّ طرف في فترة ما بعد الحلّ. لتبدو ضمن ذلك رقعة شطرنج الجغرافية السورية ترتكز وفق مقتضيات المصالح المؤقتة، وكذا المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى، بين مختلف القوى الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري.
من البديهي القول بأنّ جلّ الاتفاقات التي تؤطر الملف السوري، لم ولن تخرج عن توقيت دمشق، إنما ووفق المعادلات الاستراتيجية التي تجمع سورية مع باقي حلفائها، من الضروري التمسك بجملة من القواعد الأساسية، ووسمها بمفردات السيادة والحلول السياسية.
ومن البديهي أيضاً القول بأنّ حلفاء دمشق لا سيما موسكو وطهران، ستكون لهم حصة الأسد في مرحلة ما بعد الحلّ، وفي التوصيف الاستراتيجي لا بدّ من وضع نقاط السياسة على حروف المصالح والأهداف، وهذا يعدّ منطقياً بالنظر إلى معادلات التشاركية بين دمشق وموسكو وطهران.
لكن يبقى التعامل مع الدولة السورية في المستويات كافة، مؤطراً بأبجديات السيادة، وقوة الموقف السياسي ووضوح أهدافه ومضامينه في دمشق، مع التركيز على جزئية جوهرية تتعلق بالموقع الجيوستراتيجي للدولة السورية، وحاجة حلفاء دمشق لاستثمار هذا الموقع وتوظيفه في خططهم تجاه عموم المنطقة.
من هنا يمكننا أن نقرأ الزيارة الروسية الأخيرة إلى دمشق، من منظور المصالح وتقاسمها والتشاركية الاستراتيجية بعيدة المدى، وهذا منطقي بالنظر إلى جملة من العوامل يمكن إيجازها وفق معطيين:
الأول– تدرك روسيا بأنّ الملف السوري قد اتخذ شكله النهائي، وفق أسس سياسية وعسكرية وحكماً اقتصادية، وعطفاً على منطق المصالح ترغب روسيا بوضع أسس ذات هيكلية جديدة لمرحلة ما بعد الحرب، وتحديداً في جزئيات الاستثمار الروسي في سورية وإعادة الإعمار.
من هنا يبدو منطقيا أنّ أربعين مشروعاً هم في طريقهم ليروا النور قريباً، ذلك ضمن إطار معادلة بدأت بالتبلور بشكل نهائياً، لجهة الحلّ السياسي الكامل والشامل.
الثاني– الزيارة الروسية تعني بشكل أو بآخر بأنّ قانون قيصر قد تمّ اختراقه بنجاح، وأفرغ من مضمونه وبعده الاستراتيجي، وبالتالي فإنّ عصب الاقتصاد السوري سيكون بمنأى عن القبضة الأميركية، وكذا جلّ الاستثمارات القادمة ستكون بعيدة عن التأثيرات الأميركية، إذ لا يُعقل أن يفرط ترامب أو أيّ إدارة أميركية قادمة، في توجيه الضربات لـ روسيا، خاصة أنّ القيصر الروسي أثبت بأنه ماركة عالمية لا يمكن قهرها.
ضمن ذلك، وفي مسار المصالح يبدو أيضاً بأنّ إيران ذات القبضة الناعمة، تسعى ليكون لها نصيب في الاستثمار الاقتصادي لمرحلة ما بعد الحرب.
فالتوازنات ببعدها الاقتصادي والنموذج الإيراني في تخطي العقوبات الأميركية، وقلب الحصار إلى مزايا وامتيازات، فإنّ هذه المعادلة ستنقل كما هي إلى سورية وتطبّق واقعاً، وبالتالي فإنّ جوهر العلاقات السورية الإيرانية تؤسّس لمصالح اقتصادية واستراتيجية، فما بين دمشق وطهران عمق استراتيجي تمّ تعزيزه عبر 23 اتفاقية اقتصادية، فضلاً عن أسس التعاون العسكري ودعم دمشق في الحرب المفروضة عليها.
تركيا تمثل وفق أجندتها في سورية، بعداً لصراع إقليمي ودولي تتجلى معالمه في جغرافية شمال شرق سورية، وعليه فإنّ همّ النظام التركي لم يعد مجرد تثبيت وجوده في بلد هو أكثر جيرانه حساسية، فهذا تجاوزه من خلال ثلاث عمليات عسكرية شنها في السنوات الأربع الماضية، وعزز بها وجوده العسكري والسياسي، ونقل أهدافه بصورة دراماتيكية من حماية الأمن القومي التركي، إلى دعم مجاميع الإرهاب في الداخل السوري، وصولاً إلى التوغل عسكرياً في الجغرافية السورية، تحت مرتكزات الاتفاقيات السياسية.
تركيا التي تتجنّب في سياساتها حيال سورية، اتباع نمط تصادمي مع فاعلين مختلفين ومؤثرين في الأزمة السورية، كـ إيران حليفة الدولة السورية والحاضرة بقوة إلى جانبها مع روسيا.
وتركيا أيضاً حريصة كلّ الحرص، رغم ما يظهر من تشنجات في العلاقة مع الولايات المتحدة حول الموقف من سورية لجهة الكرد، على أن تحصل على موافقة أميركية على الخطوات التركية هناك، والأخيرة لا تتأخر في ذلك، وقد حظيت عمليات تركيا الثلاث في سورية بموافقة أميركية.
في ذات الإطار فإنّ «إسرائيل» أيضاً تسجل حضوراً غير مباشر في سورية، إلا في ما يتعلق بموضوع إيران ووجودها وحلفائها بالقرب من خط وقف إطلاق النار على الجبهة مع سورية، لكنها في السياسة مع روسيا تبدي حرصاً مستمراً على التقارب والتفاهم، رغم ما بين الطرفين من تباعد في الموقف من القضية السورية وملفاتها.
في جانب موازٍ، فإنه لا يمكننا الإنكار بأنّ أهمّ الأطراف الفاعلة في تقاسم الأدوار والسياسات والمصالح، هي الولايات المتحدة التي تمارس دوراً مزدوجاً.
من حيث المبدأ فإنّ واشنطن شأنها شأن باقي الأطراف في سورية، لها تمثيل عسكري وقواعد في الجغرافية السورية، يُضاف إلى ذلك، وجود قوات سورية الديمقراطية، والتي تعتبر الذراع العسكري لـ واشنطن في شمال شرق سورية، والمستعدة إلى أن تسير مع واشنطن حتى النهاية.
الأهمّ في ما تقوم به واشنطن، أنها تضع نفسها في مكانة عراب يشرف على كلّ المتدخلين في سورية، حيث أنها تدقق في سياسات واستراتيجيات كلّ القوى، ولتحقيق ذلك فإنها تبادر بطرق عسكرية غير مباشرة، لتعلن عن اعتراضها أو احتجاجها على سياسات بعض الأطراف، وتحديداً أولئك الذين ترتبط معهم بمصالح حيوية واستراتيجية، بيد أنّ اعتراضاتها واحتجاجاتها على سياسات ومواقف بعض الأطراف، لا تجعلها تذهب إلى الحسم ضدّهم، الأمر الذي ساهم في بقاء واستمرار سياساتهم في سورية.
صفوة ما سبق، من الواضح أنّ الأدوار والسياسات الإقليمية والدولية المتداخلة في سورية، تتواصل بمستويات محدّدة من التوافق والاصطفاف، بغية تنفيذ استراتيجيتها، وقد تطبّق هذه السياسات وفق آليات ناعمة، وفي أحيان أخرى بالقوة الفجة.
ولأنّ واشنطن كانت أحد هذه الأطراف، فإنها تزيد إلى ذلك رعايتها للحالة العامة والقيام بضبطها، وفق أسسها الاستراتيجية التي تتشارك بها مع روسيا، كلّ ذلك يبقى مستتراً تحت توصيفات المصالح والشراكات الاستراتيجية، لكنه في حقيقة الأمر هو صراع بصبغة دولية، تجري أحداثه في سورية وفوق رقعة شطرنج المصالح.