السجال الطائفي السياسي لا ينقذ وطناً ولا يبني دولة ولا يطعم جائعاً فاجتنبوه…
} علي بدر الدين
السجال السياسي الطائفي المستجدّ بنسخته الأصلية من بوابة تشكيل الحكومة هذه المرة ليس مستغرباً، لأنّ جمره لا يزال تحت رماد مصالح الطوائف والمذاهب.
يكفي هبوب رياحها من هنا أو هناك، لكشف المستور، وسقوط الأقنعة، وفضح الزيف والنفاق، وهذا الكمّ من شعارات المحبة والتسامح والوحدة الوطنية والعيش المشترك، التي عانى اللبنانيون منها الكثير من الصراعات والحروب والفتن والتهجير والهجرة٠ ولا زالوا يدفعون أثماناً باهظة تحت مظلتها الخادعة، التي لم تخدم سوى مصالح مطلقيها ورعاتها والمحرّضين عليها. وكانت ولا زالت وبالاً وبلاء على هذا البلد وشعبه المسكين.
ليس مفاجئاً احتدام السجال بين المكوّنات الطائفية والمذهبية عند أيّ استحقاق وطني، أو في أيّ تفسير لأية مادة دستورية، وتفاقم منسوب التوتر والخطاب الطائفي، إلى حدّ الاتهامات المباشرة، تارة بعرقلة تشكيل الحكومة، وتارة أخرى بفرض المثالثة، وطوراً بتغيير وجه لبنان نحو الشرق، وإلى آخر معزوفة مصطلحات الإلغاء والامتيازات والمداورات وتوزيع الحصص والحقائب والنهب والفساد، ومصالح الطوائف والمذاهب، كأنّ الجميع متأهّب للمنازلة الكبرى، التي تنتهي عادة بتبويس اللحى والمصافحة والإعتراف، وعفا الله عما مضى، ولعنات بالجملة على الشيطان الرجيم الذي «فخت دف» العيش المشترك ونعمة الطوائف وفرّق شمل عشاق الصيغة اللبنانية الفريدة من نوعها في العالم، ولّادة الفتن والصراعات والحروب المستمرة منذ ما قبل ولادة ما سمّي بـ “دولة لبنان الكبير»، ولم ولن تنتهي فصولها لمجرد اجتهاد أو اختلاف على تفسير مادة دستورية حول حقيبة وزارية، أو المداورة في توزيع الحقائب وما سُمّي منها زوراً بالسيادية. أو في أية مادة أخرى وحول أية قضية. لأنّ المهمّ بالنسبة للسياسيين والطائفيين والمذهبيين تواصل الاختلاف حتى التمايز، ليستمرّوا في مواقع السلطتين السياسية والدينية، وليواصل الشعب الجاهل والمعبّأ والمدجّن والتابع غرقه في بحر الفتن والغرائز والانقسام والتقاتل.
ويقدّم دمه قرباناً على مذبح من ورّطه واستغلّ فقره وجوعه ومرضه أو جهله.
ما يشهده اللبنانيون من مداورات ومناورات وألاعيب في التجاذبات والمسرحيات السياسية والطائفية والمذهبية، وإنْ كان البعض ربما صادقاً ومحقاً، أو هادفاً لتمرير مشاريع إقليمية ودولية، أو لتقطيع الوقت، بانتظار التفاهمات والتسويات، أو عدمها، ليُبني على الشيء مقتضاه، إنْ لجهة حسم أمر تشكيل الحكومة، أوؤلجهة تنفيذ بنود المبادرة الفرنسية وولوج عملية الإصلاح وعودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
هذه الطريقة المجرّبة من الطبقة السياسية وحكوماتها المتعاقبة أثبتت فشلها وعقمها، بل أكثر من ذلك، أسقطت البلد بالضربة القاضية القاتلة وأفقدته قراره وجعلت قوته في ضعفه وارتهانه للخارج. وعبثاً تحاول استعادة أنفاسه وتسديد ديونه وانتشال شعبه من الفقر والجوع والبطالة، لأنّ لا أحد في هذا العالم المترامي ولا المنظمات الدولية النقدية والاقتصادية تفتح أبوابها للضعفاء والفاسدين والناهبين، وقد وصلت أخبارهم التي تفوح منها رائحة كريهة يتجنّبها الكثيرون من هذه الدول التي يطرق المسؤولون أبوابها ويمدّون لها أياديهم طلباً للمساعدة وتأمين بديل عما نهبوه من أموال عامة وخاصة وركنوها في خزائن المصارف الخارجية.
مقابل موافقة الدول وصندوق النقد الدولي على دعم لبنان لا بدّ من شروط قاسية على مستويي الداخل والخارج، والتي من أولوياتها إجراء إصلاحات حقيقية داخلية، وهذا ما لا يناسب الطبقة السياسية الحاكمة الغارقة في الفساد، والعائمة على المصالح والثروات. والأهمّ أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
كلّ هذا “اللفّ والدوران» و»اللت والعجن»، والصخب الإعلامي ورفع السقوف من هذا المكون الطائفي أو ذاك، لن يأتي بجديد أو يحدث فرقاً أو يؤمّن غلبة لفريق على آخر، لأنه مجرد صدى في صحراء خاوية، واجترار تستخدمه الطبقة السياسية منذ اتفاق الطائف لتعزيز مواقعها وتحصين مكتسباتها وحماية مصالحها، على حساب هذا الشعب الذي يُرثى لحاله وفقره وتعاسته. وهذا الوطن الذي أصبح في رأس قائمة الدول الأكثر فساداً، والأقلّ مكانة ودوراً…
لا جدوى من هذا التهييج الطائفي والمذهبي، ولبنان يعدّ أيامه الأخيرة وهو بلغ حدّ السقوط في المهوار، إذا لم يجد أحداً يسمع صوته ويسعفه، ويرمي له حبل الإنقاذ قبل فوات الأوان، ولأنه لن يضيف جديداً أو تغييراً أو انقلاباً، على العكس تماما، فإنه يعيد النفخ في أبواق الفتنة ويعمّق الشرخ ويحيي الاصطفافات التي اعتقدنا أنها تبعثرت، ويشدّ العصب الطائفي والمذهبي، على لا شيء، ولا يخدم فقط سوى الطبقة السياسية والذين ينتعشون في الحروب،
بعيداً عن فرضية من يملك الحق والحقيقة من المتساجلين المختلفين، الذين يقلدون الطبقة السياسية، وللأسف ينطقون بلسانها والدفاع عن نهجها ومصالحها، عليهم أن يقوموا بدورهم الديني والرسالي والإنساني للدفاع عن الوطن والناس وتوظيف الوقت والجهد والموقع الديني، لاسترجاع حقوق الفقراء والمعذبين وانتشالهم من فقرهم المدقع والعمل على توفير مقومات الحياة الكريمة واللائقة لهم. وهم يدركون جيداً “أنّ أقربهم الى الله أنفعهم لعياله» وليس فقط لطائفته ومذهبه والطبقة السياسية المالية، وهم عن قصد أو من دونه يخدمونها ويحمون مصالحها ويغطون فسادها والأمثلة كثيرة ومعروفة.
ليس من مصلحة أحد أو طائفة أو مذهب تكبير الحجر، والانزلاق إلى المجهول، وفتح أبواب جهنم وملحقاتها بئس المصير، لأنها لن تبقي ولا تذر، ولن ينجو منها أحد مهما ادّعى وتحصّن بمواقعه الزائلة، أو بالعصبية والطائفية والمذهبية والقبيلة والعشيرة.
إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.