القنيطرة: مرارة الصيد الثمين والعبور إلى الجليل!
محمد صادق الحسيني
«كنّا، نتظر بفارغ الصبر منذ بداية الثورة، بدء عملياتنا الحربية ضدّ إسرائيل مباشرة والانخراط عملياً في تحرير فلسطين، وها هو عدوان القنيطرة وشهادة علي الله دادي يأتي ليطلق شرارة بدء انخراط إيران الفعلي في المواجهة المفتوحة لتحقيق تلك الرغبة…».
هذا الكلام قاله أحد أبرز مؤسّسي الحرس الثوري الإيراني، والمسؤول القيادي الأول الذي تقلّد منصب وزير الحرس الثوري ـ قبل أن تُدمَج الوزارتان في ما بعد في إطار وزارة الدفاع وقوات حرس الثورة ـ محسن رفيق دوست، وذلك على هامش مشاركته في تشييع الشهيد علي الله دادي.
وزير الدفاع الإيراني من جهته، وهو يذكّر بقرار تسليح الضفة الغربية الماضي على قدم وساق، منذ «أمر اليوم» الذي أصدره القائد العام للقوات المسلحة الإمام السيد علي خامنئي بعد وقف إطلاق النار في غزّة، علّق بدوره أيضاً بأنّ تحرير القدس قد اقترب.
من جهة أخرى، فإن قائد حرس الثورة الجنرال جعفري، وهو ينوّه بتشكل جبهة مقاومة إقليمية ميدانية مشتركة ضدّ «إسرائيل» من خلال ما سمّاه تركيبة الشهداء السبعة، لم يتردّد في توجيه تهديد مباشر إلى قادة الكيان الصهيوني الغاصب بالقول: «انتظروا الصواعق المدمّرة».
مجمل هذا الكلام يشي بأمر واحد لا غير: لقد بدأ العدّ العكسي لتحرير إصبع الجليل، واقتربت ساعات المنازلة الكبرى.
لا أحد يعرف متى وكيف وأين، ستبدأ شرارة الردّ الصاعق!
لكنّ مقرّبين من مطبخ صناعة القرار الإيراني، يؤكدون أنّ سيناريو تحرير الجليل الموضوع على طاولة غرفة عمليات المشهد الدمشقي الشهير الممتد من طهران مروراً بدمشق وصولاً إلى الضاحية الأبية منذ مدة، ولم يكن ينتظر إلا خطأ استراتيجياً من هذا النوع يرتكبه نتنياهو، حتى يصبح قرار القيادة العليا المشتركة نافذ المفعول، وها هو قد أصبح نافذ المفعول حقاً، وعليه، فإن عام 2015 سيكون عام تحرير الجليل من دون تردّد.
مصادر إيرانية متابعة لما جرى في مثلث شبعا ـ الجولان ـ القنيطرة، والذي أدّى إلى هذه الحماقة «الإسرائيلية» وهذا الارتباك «الإسرائيلي» الذي واكب العملية وما بعدها سواء في الفرح ابتداءً، ثمّ في محاولة التملص من مسؤوليتهم في الاعتداء المباشر على طهران من خلال اغتيال عميد في الجيش الإيراني هو الشهيد علي الله دادي، قالوا إنهم لم يكونوا على علمٍ بوجوده في الموكب، قد يكون سببه التالي:
تقول القراءة الأولية إنّ قيادة العدوّ كانت تبحث عملياً عن «السيد أبو علي» الطباطبائي القائد الممتاز ورفيع المستوى جدّاً في حزب الله والمسؤول عن وحدة العبور إلى الجليل، مواكَباً مع وحدة صاروخية كبيرة يشرف عليها.
ولما كان عليّ الله دادي القيادي الإيراني في الحرس الثوري الذي جاء إلى سورية حديثاً في مهمة استشارية لمساعدة أخوته في حزب الله والشعب السوري في مهمة تطهير سورية من الإرهاب المموّل والمسنود من الكيان الصهيوني، يحمل الاسم الحركي «أبو علي رضا»، فقد نقل لهم عملاؤهم الميدانيون أنّ «الصيد الثمين الذي كانوا يسمّونه أسد الجليل صار بين أيديكم!».
وهكذا، أطلقوا العنان لمروحياتهم بقصف القافلة التي كانت على مقربة من الحدود مع فلسطين نحو ستة كيلومترات .
واعتقدت القيادة العليا في «تل أبيب» أنّها أنجزت مهمة اقتناص «أسد الجليل» وأنها حصلت على صيدها الثمين، وذلك في إطار عملية ظنّتها وقائية ردعية ستربك الخصم وقد تؤخر عملية العبور إلى الجليل المتوقعة من جانب حزب الله.
هلّلت «القناة العاشرة الإسرائيلية» للخبر، واعتبرت ما حصل إنجازاً كبيراً للاستخبارات ووحدة المعلومات «الإسرائيلية» الخاصة بالساحة السورية. لكنّ القيادة «الإسرائيلية» سرعان ما اكتشفت، ليس فقط مرارة الفشل في النيل من «أسد الجليل» باكتشافها أنّ «أبو علي» الذي استُهدف ليس «أسد الجليل الحزب اللهي»، إنما ارتكابها حماقة التورط في الخوض في دماء إيرانية تراق للمرّة الأولى بأسلحة «إسرائيلية» مباشرة على مقربة من حدود فلسطين.
وقد يكون هذا ما يفسّر سبب تداركهم في تصريحات لاحقة بأنهم لم يكونوا ينوون مهاجمة قائد إيراني في عملية القنيطرة. وهكذا يبقى كابوس العبور «الحزب اللهي» إلى فلسطين يلاحقهم وكذلك خيبة أن يظلّ «أسد الجليل» لهم بالمرصاد.
أليس هو من يقول عنه القادة الأمنيون «الإسرائيليون»: «أكثر من يسلب النوم من عيوننا منذ أن أعلن نصر الله عن سيناريو الدخول إلى فلسطين…»، إنه الشبح الذي سيظل يلاحقهم ويميتهم في اليوم أكثر من مرّة.
أسد يحمل كل مواصفات ثلاثية المشهد الدمشقي: إيران ولبنان وسورية. فهو مولود شريف وكريم لأب إيراني وأمّ لبنانية، ويقاتلهم من سورية ويحرّك بأنامله الصواريخ المرتقبة أن تنهال عليهم من مثلث شبعا ـ جبل الشيخ ـ الجولان، صانعاً جغرافياً المقاومة الموعودة وخريطة مشرق ما بعد «إسرائيل».
الرواية أعلاه لا تقلّل أبداً من أهمية الوجع أو الألم الذي يعتصر قلوب أنصار المقاومة وأحبابها الذين خسروا قادة كباراً ومجاهدين أعزاء في هذا العدوان، بينهم قائد إيراني متميّز وقائد لبناني متميّز من المقاومة والشهيد الفذّ جهاد عماد مغنية ورفاقهم الأبطال.
أيّاً يكن الأمر، يبقى الحديث الأهم من الآن فصاعداً، ما ينتظر «الإسرائيليين» بعدما كسرت القيادة الحمقاء في «تل أبيب» توازنات الحرب المفتوحة وقواعد الاشتباك، وأطلقت يد الإيراني عملياً في فعل ما يراه مناسباً على كلّ الساحات التي يوجد فيها عدوان «إسرائيلي» بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي كلّ الساحات التي توجد فيها مقاومة لـ«إسرائيل» وسيدتها وراعيتها الأساسية الولايات المتحدة الأميركية، من سواحل البحر المتوسط إلى سواحل البحر الأحمر، ومن مضيق هرمز إلى باب المندب.
بعد القنيطرة ليس كما قبل القنيطرة بالتأكيد. بعد القنيطرة، إيران أضحت على حدود فلسطين المحتلة، ولها الحق الدولي المشروع في الردّ على قادة «تل أبيب» في أيّ بقعة من فلسطين وبالطريقة التي تراها مناسبة.
بعد القنيطرة، إيران صار من حقها أن تلاحق القادة «الإسرائيليين» في كلّ العالم وأن تقتل منهم ما شاءت ومن شاءت، وبحق دوليّ مشروع. بعد القنيطرة، صار من حق إيران أن تدعم الحوثيين في مقاتلتهم اليهود الصهاينة والأميركيين ومَن يساندهم من أتباعهم الإقليميين، انتقاماً لشهداء عملية القنيطرة وبحقّ دوليّ مشروع.
بعد القنيطرة، صار من حق إيران أن تسلّح أهلنا في فلسطين المحتلة في أراضي 1948 لا الضفة الغربية فحسب، للاقتصاص من قتلة شهداء القنيطرة، وبحق دوليّ مشروع. بعد القنيطرة أمست كلّ الجبهات مفتوحة، وكلّ الحدود ساقطة، وكلّ أساليب المقاومة والدفاع المشروع متاحة بيد الإيراني. بعد القنيطرة، صار من حق الإيراني المقاوم لا جون كيري المفاوض، أن يقول ألّا حدود ولا جغرافيا تمنعنا من الدفاع عن مواطنينا وعن حلفائنا وأشقائنا، من ردّ الصاع صاعين لمن يساندهم ويدعمهم ويحميهم في أي ساحة شاء وأيّ ساعة أراد.
انزلقت «إسرائيل» إلى المربع الذي أراده لها الجنرال الإيراني برتبة الحاج. وأتمت قيادته الحجة على العالم أجمع. وارتكبت «تل أبيب» المحرم الذي كان يشتهي الإيراني أن يراها متلبّسة فيه. وهكذا تكون ممهّدات المنازلة الكبرى من أجل تحرير القدس وفلسطين قد انطلقت. وبذلك تتحقّق مكنونات الآية القرآنية الشريفة: «يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين…».
نقاط على الحروف
وفاة الملك عبد الله ومستقبل السعودية
ناصر قنديل
– توزعت التعليقات على وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز بين الحزن الإنساني المحيط بالمقرّبين والأقربين، والحزن السياسي للمستفيدين والقلقين على مستقبلهم الشخصي والسياسي ومصالحهم، والنفاق الشخصي والسياسي بتلبّس الحزن أو المبالغة في المجاملة بادّعاء احترام الموت، وبرزت مواقف مراهقة طفولية تصل حدّ الشماتة تعبيراً عن ضيق من السياسات السعودية بتوقيت وعنوان غير مناسبين كاستقواء على من غادر الحياة ولم يعد موجوداً، وما في ذلك من استقواء على الموت الذي لا يقوى عليه أحد، والذي قال فيه القرآن الكريم «يدرككم ولو كنتم في بروج مشيّدة»، ونتساوى أمامه مهما كانت مواقفنا، ومواقعنا، وعسى لو أنّ الذين يستكبرون ينتبهون قبل مطالبة بعض المحروقة قلوبهم إذا عبّروا عن القهر خارج اللياقات، أنّ الاعتراف بحقيقة الموت واستحضارها يكفي لردع المتكبّر والمستكبر، ودعوته إلى التصرف أنه مهما علا شأنه ميت لا محالة، حيث لا مال ولا تاج ولا بنون، فينبت في قلبه للرحمة بذار، ويقيم لإنسانيته اعتبار، ويتصرف في قضايا شعبه وأمته وما يحتكم فيه للضمير، بما يمليه ما بين يديه من قدرات واقتدار.
-أبشع وأسوأ الكلام المقال هو الذي يأتي من الذين، كانوا يقولون الذي لا يقال في شعر الهجاء، ويقولون في الملك المتوفى اليوم ما لا يقال في قصائد المديح، فيصير الذي كان وصفهم له أنه المتآمر الأول على الأمة في خطاب النعي خسارة قومية لا تعوّض، ولأننا نؤمن أنّ اللياقة والآداب تقتضيان عدم التجريح بالحي والميت ورفض الشتيمة كأداة تعبير في السياسة، نؤمن أنّ الأهمّ هو الامتناع عن النفاق بذريعة الاحترام للموت، وعدم نسيان احترام الحياة، واحترامهما يتجسّد بوضع الحديث عن الشخص جانباً، والتوقف أمام البعد الموضوعي الصرف للغياب، كحدث يرتبط بتداعيات، كما تحكم ما بعده حسابات.
– غاب الملك عبدالله، وفي حياته كملك كانت له مواقف وسياسات ومبادرات، وما بعده يمكن أن يكون استمراراً أو تغييراً، ومهمة العقل هي الاستكشاف، وفي أنظمة حكم مغلقة كما في السعودية، الحساب ليس بكفاءة ومواهب الأشخاص، بل بالتحديد، التغيير تعبير حصري عن معادلات جديدة في الداخل والخارج نضجت وكانت تنتظر رحيل الملك، فهل هي كذلك؟ أم أنّ لا شيء سيتغيّر إلا بحدود الشكليات والتفاصيل التي تعبّر عن حدود البصمة الشخصية المختلفة للأفراد، وشبكة مؤيديهم ومصالحهم، وتوازنات التنازعات الطبيعية على النفوذ والمكاسب المرتبطين بممارسة الحكم في بلد بمكانة السعودية ومقدّراتها؟
– المفاصل التي كانت عنواناً مستمراً لتعاظم دور السعودية في عهدي الملكين الراحلين فهد وعبدالله، اللذين يصحّ القول إنّ التبدل بينهما لم يتخط حدود التباين في البصمة الشخصية وبطانة البلاط، تمحورت حول القضية الفلسطينية من مبادرة فهد إلى مبادرة عبد الله، والزعامة على الخليج، وإقامة التوازن في وجه إيران، والنفوذ في بلاد الشام، وفي المقابل كانت القيمة المميّزة لما عُرف بالحقبة السعودية، في العيون الأميركية، إدارة ملفات النفط وفلسطين والإسلام.
– الواضح اليوم أنّ المبادرتين الملكيتين السعوديتين صارتا منتهيتي الصلاحية وخارج الزمن، وأنّ الخليج يترنح من بين أصابع القبضة السعودية، من عمان المستقلة، إلى اليمن المتفجر، إلى البحرين المتمرّدة، إلى الكويت الكامنة والإمارات المتريثة، وأنّ بلاد الشام خارج النفوذ من العراق الذي يتعافى بلا مكرمة ملكية برعاية المصالحات وتأمين العباءة الملكية لمواجهة «داعش»، وسورية تقف على قدميها وتصمد في طريقها نحو تخطي الخطر بعد حرب قادتها وشنتها ورعتها مجموعة دولية وإقليمية تصدّرتها السعودية، والتوازن مع إيران صار في خبر كان، وفي العيون الأميركية، تنتهي الحقبة السعودية، بتحوّل المقاومة في فلسطين إلى رقم صعب ووقوع «إسرائيل» في دائرة العجز المزدوج عن السلم والحرب، وبخروج النفط من مكانته في مملكة الرمال كقوة لصناعة السياسة إلى أداة انتحار في حرب أسعار، في زمن المناورات التي تنتهي من جهة بنهاية ما عند العائلة الحاكمة من مدّخرات، ومن جهة مقابلة بلوغ الأميركي السقف الزمني والسياسي مع كلّ من روسيا وإيران في معادلة المفاوضات، والإسلام صار نصفين، نصف يحمل لواءه دعاة الاستقلال والمقاومة من إيران إلى لبنان وفلسطين وتناصبهم المملكة العداء، ونصف يرفع رايات «داعش» و»النصرة» ويضرب ذات اليمن واليسار، فصار الرهان على الاحتواء ضرباً من الحماقة والغباء.
– تنكفئ المملكة على ذاتها، وقد نضجت التغييرات، وكانت تنتظر رحيل كبير العائلة، هذه هي أبرز علامات وفاة الحقبة السعودية، مع وفاة الملك عبدالله، الذي خسر صداقة سورية، ونجح «الإسرائيليون» في توريطه بلعبة مزايدة على مائدة قمار مع حكام قطر، تحت شعار تقدر قطر عليها إنْ لم تقدر السعودية، حتى سخر قدرات المملكة في حروب عبثية تلوح نهاياتها بخسارة ما بعدها خسارة في كلّ اتجاه.
– تنضج التغييرات نحو الخارج كما تنضج نحو الداخل، مع بروز أول ولي للعهد من الجيل الثالث، مع الأمير محمد بن نايف، وإعلان دخول مئة أمير من أبناء العمومة ساحة التنافس والمنازلة على الأدوار، في زمن الشحّ المالي والسياسي، وزمن تقدّم نموذج الحكومات المنتخبة نحو العتبة السعودية من الباب البحراني، وزمن اليمن القادم كدولة وازنة سكانياً وعسكرياً وسياسياً خارج العباءة السعودية، وزمن الاعتراف العالمي بإيران دولة عظمى، وزمن يدق فيه الإرهاب المتجذّر في الثقافة الوهابية أسوار العرش حيث في كلّ مكان خلايا نائمة تستيقظ، أو خلايا خامدة تستردّ العافية.
– التشكيلة الجديدة للحكم في المملكة هندسها الأميركيون، بانتظار رحيل الملك، فتعيين الأمير مقرن ولياً للعهد كان شرطاً عشية زيارة الرئيس الأميركي للمملكة، والتتمة تعيين محمد بن نايف ولياً لولي العهد، شرط متفق عليه ومتوقع لثنائي ينتظر تحوّله ثلاثياً بمجيء عبد العزيز بن عبدالله إلى وزارة الخارجية، يجب أن يقود انتقال المملكة من المواجهة إلى التفاهمات، والتسويات الخارجية والداخلية، تفاهمات وتسويات مليئة بمعارك صغيرة، لأنّ زمن المعارك الكبيرة رحل مع كبير العائلة.