ثقافتا المقاومة والتّطبيع… من عمليّة «الويمبي» إلى تفجير المرفأ
ليليان حمزة
المقاومة والتّطبيع نهجان لا يلتقيان؛ المقاومة مسار طويل هدفه رفض الظّلم والتحرّر والنّصر، والتّطبيع غاية ممهّد لها وهدفها الاستسلام والارتهان لعدو الأرض. وإذا ما استعنّا بمعاجم اللّغة العربيّة للاستحصال على توصيف دقيق، لوجدنا أنّ المقاومة مصدرُها «قاوَم» وهي عبارة عن صعوبةٍ تواجهها قوّةٌ معيّنة مثل مقاومة الرّياح، وهي المعارضة ورفض الخضوع لإرادة الغير، وإذا تأطّرت، تصبح منظّمة عسكريّة أو شبه عسكريّة تَشنُّ على العدو المحتلّ حرب عصابات في المدن وخارجها، وهي المقاومة الشّعبيّة. أمّا مصطلح التّطبيع فهو مُشتق من طبّع، أي علّمَ الانقياد والمطاوعة كتطبيع المهر، وعوّد على الشيء، أما على مستوى العلاقات الدولية، جعلها طبيعيّة وعاديّة.
تمرّ السّنين وترافقها أحداث جيو–سياسية، تختار الدّول والشّعوب فيها إما المقاومة أو التّطبيع. في مثل هذه الأيام من العام 1982، نستذكر عمليّة «الويمبي» التي أرست، بمفهوم المقاومة، معادلة جديدة في الصراع اللبناني – الإسرائيلي. بعد مرور أيام على احتلال العاصمة بيروت عقب حصارٍ دام 80 يوماً عليها، اعتقد الصّهاينة أنّ شوارع بيروت باتت معبّدة لهم، ومقاهيها ستستقبلهم بالتّرحاب، وأنّ عصر الإمبراطورية الإسرائيلية قد بدأ؛ بيد أنه فيما كان جنود الاحتلال يحتسون القهوة في مقهى «الويمبي» في شارع الحمرا، قرّر المقاوم خالد علوان مع اثنين من رفاقه أن ينتفضوا، فمشهد احتساء القهوة ليس عاديّاً والسّكوت عليه خضوع وإذلال.
دخل خالد بخطىً ثابتة، حيث كان يجلس ضابط إسرائيلي وجنديان، وعند وصوله على بعد مترين، كان الجندي يهزأ من الفتى العامل في المقهى ويسحب من جعبته عملته «الشيكل» ليدفع الحساب، فاقترب منه هذا المقاوم وقال لهم «خلو عنكم… الحساب علينا». فسحب مسدّسه من تحت قميصه وأفرغ طلقاته في أجساد جنود الاحتلال، فكان «الحساب» مقتلهم.
آنذاك، شكّلت عملية «الويمبي» باكورة عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضدّ العدو الإسرائيلي بعد احتلال العاصمة، وأثّرت بشكلٍ كبير على مسار الصّراع مع الاحتلال، كما كانت مقدّمة لانسحاب جنوده من العاصمة بيروت.
انتقالاً إلى سنة 2020 حاملة المآسي والمفاجآت، وبعد 38 عاماً على هذه عمليّة :الويمبي» التي عصفت في وجداننا صدقَ الانتماء للوطن وفائض الكرامة ورفض الذلّ الذي يمارسه المحتلّ، يبدو أنّ نسبة لا يُستهان بها من الشعب اللبناني تحمل فكراً مختلفاً عن السّابق، باستثناء شريحة كبيرة ما زالت تدافع عن حقّها بالمقاومة لاسترجاع أرضها وسط الانتهاكات اليومية لسيادة لبنان.
لقد جاء تفجير مرفأ بيروت لكشف المستور من المخططات المرسومة على مدى عقود.. كان ردّ فعل الشّعب اللبناني التعاطف مع بعضه البعض في اليوم الأول، أما في اليوم التّالي بدأت أصابع الاتّهام تصوّب على سلاح المقاومة الذي حرّر الجنوب عام 2000 وردّ العدوان الإسرائيلي عام 2006، ناهيك عن ذلك طالب بنزع سلاح المقاومة معتبراً أنه يزعزع استقرار البلد، وزاعماً وجود الصّواريخ في المرفأ، ومن بعدها انتقلوا إلى اتهام حزب الله بتغطية شحنات الأمونيوم التي رست على المرفأ منذ العام 2013. ولكن تصريح العاهل السّعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أنّ «انفجار مرفأ بيروت حصل بسبب هيمنة حزب الله على القرار السياسي في لبنان»، فضح النّوايا ودلّ بصورة غير مباشرة على أنّ أميركا و»إسرائيل» وراء هذه النّكبة لمعاقبة حزب الله وشنّ حملة شعواء ضدّه.
فضلاً عن ذلك، بعد أيام قليلة على التّفجير، جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، فما كان على الشّابات والشباب إلا أن يستقبلوه بالأحضان والقبلات ويناشدوه لتحريرهم من سلطتهم السياسية وإعادة الانتداب، علماً أنه ما من شكّ أن فساد النّظام اللبناني أوصل البلد إلى المحنة التي يصعب عليه النهوض منها، لكن لا يمكن الحلّ باستجداء الفرنسي أو الأميركي لاحتلالنا أو عدم اعتبار «إسرائيل» عدوّاً والتّرويج لها على أنّها حمامة سلام.
وبالتّالي، لم يمرّ أسبوعان على حادثة المرفأ حتى سارعت الدول العربية كالإمارات والبحرين إلى ركوب قطار التّطبيع مع العدو الإسرائيلي، وتفاعلت شريحة من الشّعب اللبناني وبدأت تقديم الحجج والأعذار أنه لولا الخطر الإيراني في المنطقة لما طبّعت دول الخليج وأنّ العيش بهناء ورغيد لا يتمّ إلا بالسّلام!
ويكمن السّؤال هنا، هل يا ترى قامت هذه الدّول بتقديم منفعة في سبيل تحرير فلسطين من قبضة الاحتلال لتأتي إيران وتحذفها عن السّاحة؟ ألم تدرك هذه الدول أنّ شقيقاتها العربية التي عقدت اتفاقيات سلام لم تنعم بالهدوء على غرار مصر والأردن؟ كيف يمكن أن يطالب شعبنا بالسّلام وقد جاءت هذه الاتفاقيات بمنفعة حصريّة للاحتلال والدّولة اليهودية المزعومة؟! وكيف يمكن لشعب عاقل أن يقبل بنزع سلاح شكّل معادلة ردع بوجه أيّ عدوان؟
في ظلّ هذا الواقع الصّادم، كيف نعلّل أسباب تغيّر مجتمعاتنا؟ لقد عملت الولايات المتّحدة الأميركية جاهدة على ما يسمّى القوّة الناعمة بعد إخفاقها في فرض معادلاتها الميدانية في لبنان، وبعد حرب تموّز التي أثبتت المقاومة اللبنانية على قدراتها الدفاعية الهائلة بوجه المحتلّ، واليوم مع تطوّر ترسانتها وخاصة منظومة الصّواريخ الدقيقة، باتت أميركا تبحث عن أسلوب قتالي جديد تضرب فيه محور المقاومة، فاختارت الحرب النّاعمة التي لا تعترف بها كونها ترتّب عليها تبعات سياسيّة. فعليّاً، هذه الحرب صامتة لا يُسمَع فيها أزيز الرّصاص والقذائف والمدافع ولا أصوات جنازير الدّبابات، فضلاً عن أنها حرب حرّة يديرها الخبراء عن بُعد وينفّذها العملاء والنّاشطون الميدانيون والشّرائح المضلّلة للإطاحة بأنظمة أو منظمة. وماذا تكون نتيجتها؟ احتلال العقول والسّيطرة على العواطف وتدمير القيم السّياسية والثّقافية وتغيير جدول أعمال الخصم، أي محور المقاومة، وبرمجة الجمهور والرأي العام على سلوكيّة جديدة.
لذلك، تسلّحت أميركا بالإعلام ووسائل التواصل ااإجتماعي والمنظمات غير الحكومية التي تديرها برامج الوكالة الأميركية للتنمية، فاستخدموا تقنية إسقاط الرّموز وكسر هيبتها، واختلقوا الأكاذيب، وبثّوا الشّائعات، وزرعوا ثقافة الشّك في ذهنيّة الشّعب.
من خلال ذلك، استنتجنا أنّ البيئة باتت مُساقة نحو التّطبيع وأنّ عدداً غير قليل من اللبنانيين يقبلون به وبالخضوع لسيطرة الاحتلال و»شيكلة» الاقتصاد اللبناني، على غرار ما رأينا بأمّ العين لدى احتلال بيروت، لكن لولا ثقافة خالد علوان ومن يشبهه في الوطن، لكنّا في زمن تحكمنا فيه «إسرائيل» وتحتلّ قرانا وتخنقنا وتقتلنا وتذلّ شيبنا وشبابنا ونساءنا وأطفالنا.
واحسرتاه على زمن خالد علوان، ذاك الشاب ابن التسعة عشر عاماً الذي رفض الذلّ والخضوع لإرادة المحتلّ وسار على نهج المقاومة، وعلى زمن بات معظم الشباب يعتبر العمالة وجهة نظر، وسار على نهج التّطبيع، ويخاف من العدو ويفضل عدم مواجهته ليستمرّ ضخ الدولار إلى البلد ولتبقى الـ NGOs شغاّلة!